خطاب الفتوى على الإنترنت: -03- العالم في مرآة الاستفتاء والإفتاء

هل كان من الممكن طرح مثل هذه الأسئلة لو كانت الفكرة الموروثة حول التعامل مع “أهل الذمة” إيجابية ؟ إنه بالنهاية سؤل الحيرة أمام واقع أفتى البعض بعدم تماشيه مع أحكام الدين و لا يستطيع المسلم العادي العيش بدونه.
المسلم العادي هو أيضا مسلم القرن الحالي، المحاصر بأسئلة العصر التي انهالت عليه حين أجبرته لقمة العيش على مغادرة دار الإسلام والعيش في دار الحرب، بل والخضوع إلى قوانينها عوض محاربتها كما أمر بذلك. لذلك تتضمن أغلب أسئلة هذا المسلم استغرابا وقلقا مثل السؤال عن: “حكم الدعاء على الكفار”، و”حكم التعامل بالربا بحجة أن الإنسان في بلاد الغرب”، و”هل يحل للمسلم طعام أهل الكتاب بما قديكون فيه من منتجات الخنزير أو لحم الخنزير اعتمادا على آية “[*أحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ (…)*]”.
ولا تقل حيرة المفتي أحيانا عن حيرة المستفتي. فقد افتتح جوابه بهذه المقدمة التي بدا فيها وكأنه ينتف لحيته غيضا وكمدا، و قال محتجا: “كيف يدور بخلد أحد من السلف الصالح أن يهاجر المسلم عن طواعية واختيار، بل ويسابق وينافس في ذلك، من ديار الإسلام التي يشتهر فيها الإسلام، ويُعلن فيها الأذان، وتُصل فيها الأرحام، ويُؤمر فيها بالمعروف، ويُنهى فيها عن المنكر، إلى ديار الكفر حيث يُدَّعى فيها بالتثليث، وتُضرب فيها النواقيس، ويُعبد فيها الشيطان، ويُكفر فيها علناً بالرحمن، وتنتشر فيها الرذيلة، وتنعدم فيها الفضيلة؟”
ويدخل أيضا في هذه الفئة، المسلم الذي اضطرّه التطور الاقتصادي والاجتماعي إلى التعامل مع الذمي والكافر دون أن يبرح وطنه، و على استقدام عاملات من بلاد البوذية. و قد سأل أحدهم عن المعتقدات البوذية، و تساءل آخر:”عن رجل مسلم أسعف رجلا غير مسلم هل يصبح أخا له؟” و”جواز التبرع بالدم للكافر غير الحربي” و”حكم السفر إلى ديار الكفار والسكنى بين ظهرانيهم من غير ضرورة”.
وأخير يتضمن هذا الصنف، المسلم الذي وجد نفسه محاصرا بالبدع المتمثلة في ظواهر اجتماعية وسياسية وتقنيات وآلات عصرية لم يخطر ببال القدامى التنبؤ بها وخطر على بال الإسلاميين المعاصرين الإفتاء بتحريم بعضها، والتي وردت في الأسئلة التالية: “قمت بمصافحة إحدى النساء أمام زميل لي فقال لي حديثا نسبه إلى الرسول نصّه (لعن الله المصافح والمصافحة) فلم أستطع الرد عليه فهل أفدتمونا بخصوص الموضوع حتى أستطيع الرد عليه لأن كلامه لا منطق له بالنسبة لي على الأقل وشكرا”.
وتتكرّر مع هذا الصنف أسئلة عن “حكم الانتخابات “، وصندوق أوجمعية الموظفين والعمال وغيرهم” و”حكم الانخراط فينقابة تدافع عن العمال وتساوي بين الجنسين” و”حكم الاختلاط بينالجنسين أثناء المظاهرات” و”حكم تشريح جثة الميت للتعلم” و”الاستماع إلى الأغاني العاطفية” و”التصفيق في الحفلات”، و”جمع الصور بقصد الذكرى”، و”الاحتفال بأعياد ميلاد الأطفال”، و”ارتداء ثياب فيها صورة إنسان أو حيوان”، و”حكم الضحك و المرح”، و”حكم التلفاز والدشّ” …
ويلخص نصّ السؤال التالي، المدعّم بتبريرات، هذه الحالة بوضوح: “إننا نعلم حرمة الأغاني المعروفة بشكلها الحالي ونحن شباب الإسلام الذين أنار الله قلوبهم بالحق لا بد لنا من بديل وقد اخترنا الأناشيد الإسلامية التي فيها الحماس والعاطفة وغير ذلك من تلك الألوان . والأناشيد عبارة عن أبيات شعرية قالها دعاة الإسلام (قوّاهم الله) وصيغت بشكل لحن كمثل قصيدة (أخي) لسيد قطب – رحمه الله تعالى – فما الحكم في أناشيد إسلامية بحتة فيها الكلام الحماسي والعاطفي الذي قاله دعاة الإسلام في العصر الحاضر وغير الحاضر وفيها الكلمات الصادقة التي تعبر عن الإسلام وتدعو إليه. ولما كان ضمن هذه الأناشيد صوت الطبل (الدف) فهل يجوز الاستماع إليها. وكما أعلم وعلمي محدود بأن الرسول (ص) قد أباح الطبل ليلة الزفاف والطبل هو أهون الآلات الموسيقية مثله مثل الضرب على أي شيء سواه – أفيدونا وفّقكم الله لما يحبه ويرضاه؟ وجزاكم الله خيرا”.
تشي هذه الحيرة بتمزّق مسلم هذا القرن بين العالم كما هو والعالم كما يجب أن يكون ليتطابق مع تمثلاته. و هو ما يفسّر الخلط في نفس النص بين مفاهيم وتصورات تنحدر من صلب النصوص المِؤسسة للثقافة الدينية الإسلامية، من قرآن وسنة فقه، إلى مفاهيم تنتمي إلى الثقافة السياسية الحديثة المؤسسة على فلسفة الديمقراطية وحقوق الإنسان، تحملها مصطلحات مثل السيادة الشعبية والأغلبية والانتخابات والمواطن والحرية والمساواة… من المفروض ألا تنفصل عن بعضها، لأن معناها يتولّد من اشتغالها المتكامل ضمن مجال الفقه الدستوري الحديث ومجال الحقوق الطبيعية التي تنظر للإنسان كفرد حر مريد وعاقل، وتستنج بالتالي فكرة المساواة المطلقة بين البشر، تلك المساواة التي تتحدى الفواصل العرقية والدينية والبيولوجية والاجتماعية المصطنعة. وهي نظرة مناقضة تماما للمنظومة الفكرية الإسلامية التي تحصر معنى الحرية في تقييد الإنسان بأوامر الشّرع، وتؤسّس مبدأ المساواة على فكرة التفاضل بين البشر، على أساس الجنس والعقيدة والمرتبة العلمية والوضعية الاجتماعية وحتى العرقية بالنسبة لبعض فقهاء السلاطين الذين خصوا قريش بمنصب الخلافة مبررين ذلك بنصوص دينية، حتى أن الأميركان فكّروا في تنصيب ولي عهد الأردن السابق ملكا على العراق باعتباره هاشميا.
فكيف السبيل حينئذ إلى التوفيق بين متطلبات النظرية الديمقراطية وأسس النظرية الإسلامية التي لا تعترف بقانون لا يطبق شرع الله ؟
وهل هذا التدحرج المستمر من السماء إلى الأرض بمجرد المرور على جسر بعض المصطلحات الحديثة قادر على حماية رأس المسلم من الانكسار؟


الكاتب : سلوى الشرفي

  

بتاريخ : 28/07/2017