دراسات قرآنية : الجاهليّة والعصر القديم المتأخّر والقرآن

التفكير في النص القرآني، وشرحه وتفسيره وحصر معناه، ليس انشغالا عربيا، فقد دأب المستشرقون، ومعهم الدارسون القرآنيون، على محاولة تفكيك الخطاب القرآني وارتياد علومه ومباحثه ولغاته، وتحديد نوازله ومفاتيح فهمه، وذلك في مواجهة التيارات الدينية التي تحاول فرض أساليبها بمنطق استغلاقي واحتكاري وإيماني، لا يستقيم الآن مع تعدد المناهج وطرق البحث العلمية التي تنبني على التشخيص والتحليل والتدقيق والتمحيص واستدعاء القرائن العلمية المادية والتاريخية.

 

إحدى أهمّ المشاكل النقديّة الغربيّة الّتي تُعبّر عنها الكثير من المدارس النّقديّة المنخرطة في قراءة التّاريخ الإسلاميّ، وخاصّة تلك الّتي تتناول مسألة صعود البواكير الإسلاميّة الأولى، هي الدّوغما الّتي مازالت مسيطرة عند وسط واسع من الباحثين الغربيين في التشبثّ بقراءة تاريخ الإسلام من خارج الإسلام!، طبعاً هذا مع نَفَسٍ في الكتابة عن هذا التّاريخ من غير فكر تاريخي، أو قل من غير انضباط أو ربّما انفلات من أيّ وعي نقدي فيه.
الإصرار على رمي كلّ المصادر الإسلاميّة الّتي تتناول بواكير صعود الإسلام في سلّة المخيال الإسلاميّ وبكونها تعبّر «كلّها» عن نزعات لاحقة أراد مؤلّفوها إسقاط رؤاهم على اللاّتاريخي، من جهة، واعتبار المصادر غير الإسلاميّة (مثلاً الإغيريقيّة المسيحيّة وتلك السريانيّة) بكونها المعيار الأوحد لقراءة تلك صعود الإسلام، من جهة أخرى، لهو غيض من فيض على هذا الانفلات.
إنّ عنواناً “الإسلام وماضيه: الجاهليّة والعصر القديم المتأخّر والقرآن”.
Carol Bakhos, Michael Cook, Islam and Its Past: Jahiliyya, Late Antiquity, and the Qur’an, Oxford University Press 2017
لهو عنوان تشي مفرداته بالإثارة بحثياً، وقد حمل في جعبته العديد من المشاركات البحثيّة الّتي تعبّر عمّا افتتحنا به هذه العجالة. وبصرف النّظر ما إذا كان هذا العنوان متناسقاً في ذاته أم لا (عدم التّناسق يمكن قراءته مثلاً من خلال التّوجهات المختلفة للأبحاث فيه من غير أن توحّدها منهاجية حول محور محدّد)، فإنّه يُنتظر منه لأوّل وهلة، على الأقلّ من بعض ما تحمله دلالات مفهوم «العصر القديم المتأخّر»، أنّ قضايا ما للبيئة التاريخيّة الّتي ولد منها الإسلام سيتمّ درسها. بيد أنّه لا بيئة العصر القديم قد دُرِست ولا القرآن قيلت فيه كلمة بحث جديّة (نستثني بعض المشاركات) بما يتوافق درسه والبيئة التاريخيّة الحاضنة، فضلاً عن بقاء اصطلاح «الجاهليّة» في غياهب الجهل والجاهليّة.
هذا السّبب الّذي ربّما يجعلنا أنْ ندرج هذا الكتاب إلى القائمة الكبيرة غير النقديّة الّتي تتناول إشكاليّة ولادة الإسلام التاريخيّة، لا بل إلى حقل المباريات النقديّة الّتي تتمّ في كثير من المعاهد الجامعيّة والبحثيّة الغربية في صراعها على الإسلام. والبحث الّذي كتبه ديفن ستيوارت D. Stewart حول «وضعيّة الدّراسات الغربيّة القرآنيّة» تظهر لنا جانباً من خفايا الصّورة على مدار أكثر من قرن لمعظم المدارس الغربيّة في تناولها موضوعة القرآن. ومهما يكن من أمر، فإنّه يمكن القول أنّ دراسات الكتاب بمجملها لا تضيف جديداً إلى الجبال الهائلة من الدّراسات في هذا المضمار. بعضٌ من المؤلّفين الّذين حُسبوا على المدراس التنقيحيّة، والّتي تعبر عن عدائها ضدّ التّراث الإسلاميّ وعدم المرثوقيّة به، كان له أيضاً نصيب من المساحة هنا. نخصّ بالذّكر هنا غيرالد هاوتينع Gerald Hawting الّذي يعتبر رأساً من الرّؤوس الكبيرة ومن شيعة باتريشا كرون (المرأة تحاول هنا القول أنّ الوثنيين الّذين عاصروا النّبي لم يكونوا سوى مؤمنين، وربّما موحّدين!)؛ حيث أوضح في بحثه عن أنبياء ما قبل الإسلام أنّ الرّجل ما زال مصراً على تحليقه بعيداً (طبعاً بعد شطبه عالم الوثنيّة كلّه قبل الإسلام في درسه الّذي أصدره منذ حوالي عقدين: The Idea of Idolatry and the Emergence of Islam. Cambridge 1999). وهنا أيضاً يشدّد هاوتينغ على أنّ ما تقوله المصادر الإسلاميّة بما يخصّ الأنبياء الّذين تحدّثت عنهم الرواية الإسلاميّة لا يمكن الوثوق به، هذا فضلاً عن الأنبياء الّذين قُوتلوا في حروب الرّدة. إنّهم كلّهم محض اختراع إسلامي لاحق!
مايكل كوك، الزّميل القديم لباتريشا كرون في كتابهما «القنبلة» الهاجرية « Hagarism: The Making of the Islamic World, Cambridge 1977»، حاول هنا بشكل مستفيض الدّرس في القوانين الوثنيّة وتلك التّقاطعات مع عالم التّشريع المسيحيّ والإسلاميّ. أمّا السّيدة أنغيليكا نويفرت Angelika Neuwirth، فما زالت تصرّ على قراءة الإسلام، أو القرآن بنحو أدقّ (القرآن كـ«نصّ»)، ضمن فضاء العصر القديم المتأخّر (أو ما ترغب أنْ تطلق عليه بالألمانيّة Spätantike als Denkraum). هذا الكلام لا غبار عليه؟ لكن عن أيّ فضاء تاريخيّ نتحدّث؟ نويفيرت تصرّ على الفضاء الكتابيّ الرّبّاني، أي الفضاء المسيحي واليهودي. وهذا ما يمثّل جزءاً من أطروحتها الكبرى بأنّ الإسلام ينتمي إلى هذا التراث، أي التراث الغربي، أي التراث المسيحي واليهودي، أي ينتمي إلينا (واليوم تصرّ في المنابر الدعائيّة والإعلاميّة في ألمانيا على القول أنّ الإسلام جزء من ألمانيّة). مهما يكن، تبقى نويفيرت من القلائل الّذين اشتغلوا بجدّ كبير وهائل في إضاءة الكثير من القضايا المتعلّقة بالمرحلة التاريخيّة: العصر القديم المتأخّر.
ربّما، وبحسب قراءتي، يبقى آخر بحث في الكتاب من أهمّ ما كتب فيه (على الأقلّ لأنّه يدخل إلى بيئة العصر القديم بحثياً وتاريخياً)، وهذا رغم صغر هذا البحث مقارنة بغيره؛ وقد كتبته الباحثة المختصّة إيونا غاجدا Iwona Gajda المختصّة في جنوب شبه الجزيرة العربيّة قبل الإسلام. موضوع البحث هنا يتعلّق ببعض الإضاءات حول النّزعات التوحيديّة في اليمن قبل الإسلام والصّورة الدّقيقة لشكل هذا التّوحيد. الباحثة، وباستنادها على قراءة بعض النّقوش وبعض القراءات الأخرى (كما هو الحال في مجادلتها مع بعض الباحثين في هذه المسائل مثل بيتر شتاينPeter Stein، تصرّ على أنّه، على عكس ما هو سائد في المدارس الكلاسيكيّة الغربيّة، فإنّ التّوحيد لم تكن له الكلمة العليا قبيل صعود الإسلام. لقد كانت الصّورة الدينيّة جدّ مختلطة، لكن مع انتشار هائل لأفكار التّوحيد الّتي تأثّرت ببيئات اليهود وغيرهم من الموحّدين (والصّورة مشوشة جدّاً حول «هويّاتهم الدينيّة») من مناطق أخرى شمال غرب الحجاز وغيرها من المناطق مثل فلسطين وسورية.


الكاتب : حمود حمود

  

بتاريخ : 06/06/2020

أخبار مرتبطة

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

جيد أن تبحث عن ملاذات في أقاصي نيوزيلندا، لكن، أن تحاول تشييد حضارة جديدة على جزر عائمة، فذاك أفضل! إنه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *