ذكريات عبرت… فأرخت.. أنصفت وسامحت -2- غـرنـاطـة، الـذكـريـات… والـطـريـق إلـى قـرطـبة

هِيَ رِحْلَةُ عُمْرٍ نَتَنَسّمُ تَفاصِيلَها اٌلْعَطِرَةِ بين دَفَّــتَيْ هَذَا اٌلْحَكْي .. .في ثَنايَا اٌلْكَلِماتِ وَ اٌلْمَشَاهِدِ ، تَرْوي اٌلْحِكايَةُ، بِغَيْرِ قَلِيلٍ مِنَ اٌلْجِراحِ و الآمَالِ ، حَياةُ رَجُلٍ وَ امْرَأةٍ اخْتارَهُما « اٌلْقَدَرُ» كَمَا تَخْتارُ الرُّوحُ ظِلَّهَا – وَ عَبْرَهُمَا – نُطِلُّ عَلى مَسَارَاتٍ مُضيئَةٍ لأَشْخَاصٍ وَ « أَبْطالٍ « بَصَمُوا تَاريخَنَا اٌلْمُشْتَرَكِ بِغَيْرِ قَلِيلٍ مِنَ اٌلْجَلْدِ وَ اٌلْكِبْرِيَاءِ وَاٌلْعِنادِ اٌلْجَميلِ ، وَ صَنعُوا مِنْ «لَهيبِ الصَّهْدِ» جَذْوَةُ أَمَلٍ لا يَلِينُ ..حَكْيٌ كَاٌلْبَوْحِ اٌلْفَيّاضِ، يَسْرُدُ تَفاصِيلَ اٌلْوِجْدَانِ وانْكِسارَاتِهِ، وَجِراحَاتِ اٌلْوَطَنِ وَ آمَالِهِ … ضِمْنَهُ ، تَفاصِيلَ شَيّقَةً لأَحْلامِ جِيلٍ لَمْ يَنْكَسِرْ ، وعَبْرَ دِفَّتَيْهِ، نَقْرَأُ تَفاصيلَ غَيْرَ مَسْبوقَةٍ لأَحْداثَ مُثيرَةٍ مِنْ تَاريخِ اٌلْمَغْرِبِ اٌلْمُعاصِرِ … بِغَيْرِ قَليلٍ مِنَ اٌلْفَرْحَةِ وَ اٌلْفُرْجَةِ ، وَ اٌلْحُزْنِ وَالأسَى يَحْكِي الرَّاوِي شَهَادَتَهُ عَلَى اٌلْعَصْرِ … وَعَبْرَ هَذَا اٌلْحَكْي ، يَتعَاقَبُ الأَطْفالِ بِدَوْرهِمْ عَلَى السَّرْدِ، يَحْمِلونَنَا مَعَهُمْ إِلَى مَشاتِلَ اٌلْقِيَمِ اٌلْيَانِعَةِ، وأَحْضانِ مَحَبَّةٍ تَنْمُو و تَزْهَرُ ..بِمُطالَعَتِنَا لِهذَا اٌلْحَكْيِ اٌلْعَابِرِ …يُحْيِي فِينَا الرَّاوِي «توفيق الوديع « دِفْقَ مَوَدَّةٍ لا تَنْضَبُ ومَعِينَ وَطَنِّيَةٍ تَسْكُنُ اٌلْمَسامَ و الشَّرايينَ ..
بِشُموخِ الكِبارِ نُطِلُ عَلَى جُزْءٍ مِنْ ذَاكِرتِنَا المُشْتَرَكَةِ … وَ بِسَلاسَةٍ سَرْدِيَّةٍ نَسْتَعيدُ مَعَ الكَاتِبِ حِقَباً مِنْ زَمَنٍ مَضَى و آخَرَ يَمْشِي بَيْنَنَا ، لِنَتّقِدَ كَمَا تَتَّقِدُ الرَّعْشَةُ والبَهْجَةُ فِي الوِجْدانَاتِ الصّافِيَةِ.. لِذلكَ أَدْعو القارئَ إِلى اٌلإطْلالَةِ عَلَى تَفاصِيلَ هَذِهِ الذِّكْرَياتِ الْعابِرةِ لِشَجَرَةٍ عُنْوانُهَا الآسَفي وَ ثُرِيَا .. الثُّنائِي الَّذِي رَوَى، وَتَرَكَ مَا يُرْوَى حَوْلَهُ بِجَدارَةِ اٌلْخالِدينَ…

 

إلى غرناطة و قلعتها الحمراء، حطّت العائلةُ في ثاني زياراتها للأندلس، و التي على أسوارها هام أبو عبد الله الزغبي بمعشوقته التي كلفته مُلكه، كان يبثها ما يختلج فؤاده من أصدق المشاعر، على أصوات خرير المياه المُنسابة في جداولَ بُنيت بعناية، جعلتها تعم كل أرجاء القصر … بل المدينة بأكملها .وهي النظرية التي أسست لمشاريع ري الحقول الزراعية منذ العهد الفرعوني، و طورها العرب في الأندلس …
سيكتب التاريخ أن من نتائج استهتارأبي عبد اللـه سقوط غرناطة بأيدي أصحابها الذين كانوا قد تراجعوا لقرون استعدادا لاسترجاع ما ضاع منهم ذات يوم …
كان أبو أسامة، متقلب المزاج في زيارته هاته، فبين انتشاء حينا وشرود غير مبرر أحيانا كثيرة، كان يهيم كأنه في عالم آخر، و حين نبهته رفيقة دربه، اغـتـنمت سامية الـفـرصة لتأكـيـد نفس الملاحظة … قائلةً : « كفى شرودا يا والدي، فنحن في رحلة جماعيّة … و رغبتنا في الاستكشاف صحبتك كبيرة «.
عانق أبو أسامة صغيرته في اعتراف بتقصير خارج عن الإرادة ، وكانت عيناه دامعتين … فالذكريات تطارده بشدة في كل أرجاء الحمراء، فأمُّ يوسف كانت قد أصرّت عليه اقتسام اكتشاف المدينة قبل زهاء ثلاثة عقود، وهما في طريقهما للاحتفال بزفاف خالد و سيغولين … وحرص العربي كذلك على اقتسام هذا التاريخ وجمال هاته القصور قبل عقد تقريبا ، عند أول زيارة للأسرة الصغيرة إلى القارّة الأوروبية وقد كان أسامة لازال رضيعا حينها…
العربي الحالم على الدوام كان يردد أغاني فيروز في تجواله عبر ردهات القصر … سنرجع يوما إلى حينا …
أمّ أسامة فطنت لقسوة الذكريات التي غمرت زوجها ، و بكياستها ربتت على كتفيه محاولَةً الترويح عن نفسه ، واقتسام ألم الغيابات التي تعددت …
لك كذلك بطاقة صفراء، يا والدي، ستصير حمراء إن لم تسعفنا بمثلجات، نناقش من خلالها إمكانية التغاضي عن شرودك هذا … كان أُسامة يلوّح بسترته الصفراء كأنها البطاقة الموجهة إلى والده ، وذلك في محاولة ذكية لتلطيف الأجواء .
« عفوا، أرجو أن تكون الزيارة قد راقتكم رغم شرودي، و أعدُكم أننا غدا سنمضي باتجاه قرطبة وستكون الزيارة غنية ، و سنبدأها بزيارة مدينة الزهراء التاريخية «
كانت نبـرات صوته مـتـقـطعة و هـو يـعـانـدُ لإرغـام نفسه عـلى الحديث … و جاهدا حاول إخفاء ما يعتمل في دواخله من أحاسيس جياشة …!!!
كل الراحلين حضروا معه في تلك اللحظات !!!
الطريق إلى الزهراء لم يكن بالعسير، فقد سهر الإسبان على بناء وطنهم عبر تيسير التواصل بين جميع المناطق، وذلك بالحرص على تطوير البنيات التحتية من طرق سيارة وطرق سريعة وسكك حديدية وإدارة حديثة تواكب العصر …
كان أبو أسامة يحدث نفسه ، وهو يستكشف التطور الذي عرفته البلاد على مدى ثلاثين سنة ، وذلك منذ أول زياراته للأندلس مع أم يوسف …» تأخرنا كثيرا … و لكن بعزمنا و بمحاربتنا لكل القوى المناوئة للتغيير سوف نصل … و على أبنائنا مواصلة المشوار من بعدنا …»
« هو كذلك يا توفيق، تدخّلت أم أسامة بعد أن انتبهت أن زوجها يحدث نفسه !! … وما هذا بعزيز على عائلاتنا، فقد كنتَ تردّد دوما تلك الحكاية الجميلة التي جمعت بّا الآسفي و صلاح بداية ستينيات القرن الماضي، حين كان الأول معتقلا بدرب مولاي الشريف والثاني زائرا مرافقا لثريا، حين قال وصيته التاريخية. … وعلى جسده تلك البقع الحمراء التي لم يكن يعيرها أيَّ اهتمام ، والتي تبصم على زيارة الجلاد له قبل استقبال الزوار:
« لا تنزعج يا بني، أنا بصحة جيدة، فقط وجب أن تعلم أن الطريق الذي اخـتـرنـاه شـائـك وصعـب مـن أجـل بناء وطـن حـر متعـدد وديمقـراطي … فإن لم أستطع ورحلت ، فأوصيك بمكاني هذا … فهو طريقك إلى تحقيق أهدافنا …» و تشاء الصدف أن يجلس أبو وليد بذات المكان، بعد أن كان قد ذاق كل صنوف التعذيب، بعد عقد من تاريخ تلك الزيارة …؟ !
و أضافت أسماء : « و بحكم ارتباطك الشّديد بهذا الزخم من الذكريات الغنية…هلاّ أمتعْتَنا بها ، وأشرَكت أبناءك كذلك ، ألم أعبر لك عن رغبتي في التعرف الدقيق على هذا المسار و أنت تهديني مناديل وقضبان ثريا ؟… في محاولة منك للظفر بقلب ، كنت قد استهويته من أوّل لقاء !
« إذن سـيـرافـقـنـا الراحلون في جولتنا الصيفية عبر ربوع الأندلس يا والدي …» كانت سامية عفوية في تعبيرها و قد خانتها دموعها …
« بلى بنيتي سيرافقوننا، فهم حاضرون رغم الغياب الجسدي ..!
فثريا، جدتكم، عرفت كيف تقتسم معي تاريخ سقوط الأندلس عبر روايات أمين معلوف الشيّقة … أما أم يوسف و العربي فقد تباريا في مرافقتي في أولى رحلاتي خارج أرض الوطن ، واقتسمنا معا أجمل اللحظات على هاته الطريق ، و طبعا إذا حضرت أرواح ثريا آسية و العربي فروح جدّكم، الآسفي، بـيـنـنا كذلك … و حتما سيحكون ما عـاشته العـائلة على مدى عـقـود …»
« بالفعل يا والدي أقترح عليك إذن أن تحدثنا في سفريتنا هاته عن هذا المسار … فقد تقاسمْتَ و إياهم أجمل الأيام وأقساها كذلك … و أكاد أجزم أن تاريخ أسرتنا مرتبط بتاريخ الوطن، ففي كل اللقاءت مع الأصدقاء ، نُلاحظ ذاك الإصرار على على التذكير بمناقب من رحلوا، ووصاياهم، الجميلة ، و كذلك الأمر بالنسبة لكل التعازي الملكية التي تلقتها العائلة، التي تُذكرُ بمناقب الرّاحلين، والتي تصر على تعليقها على جدران بيتنا في إطارات جميلة تثبت ذلك … وعلى فكرة لماذا يغيب عزاء الملك الراحل الحسن الثاني في جدتي ثريا ؟ … « تساءلت سامية …
« هي قصة طويلة يا بنيتي أترك لذكائك الإجابة عن سؤالك و نحن في رحلتنا الصيفية هاته ، وبعد تتبعك لما سأحكيه لكم « لم يكن رد والد الصبية إلا ليزيدها تشويقا لتتبع القصة إلى الآخر .
« و أنا، يعقب أسامة، سأطلب من والدتي البحث عن أصل إسم « بوستّة « العائلي وسبب اقتسامه بين أهل مراكش و أهل فاس ، فحتما هو إسم أصيلٌ و لهُ تاريخ طويل « .
« طبعا له تاريخه، فمن قائل إنّه ارتبط برجل رزق بستة ذكور دفعة واحدة، ومن قائل بأن أفراد العائلة أفلتوا من ست مطبات جراء نضالهم المستميت من أجل وطن حر … ولكن الأهم هو أن حامل الإسم رجل نزيه ومناضل حيث هو … في بيته أوعمله أو وطنه ، و خصوصا و أنه حافظ على عائلته الصغيرة، سأطلب من والدك، الذي سيصبح حتما مؤرخا لعائلاتنا، البحث عن الأصل في التّسمية ، وهي مهمة شاقة لزم مرافقته لاحقا لإنجاحها « ردت أسماء بهدوء …
« إذا اتـفـقـنـا جميعا سأحـدثـكـم عن تاريخ عائلتكم بلسان من عاش الأحداث، و ذلك حسب ما استطعت الاحتفاظ به من حكاياتهم، و ما عشته كذلك …» تدخّل توفيق قائلا .
« إياك و التركيز على تاريخ عائلتنا السياسي، يا والدي، فحسب علمي جلُّ أعمامي شَغَفَهم حبُّ الساحرة المستديرة … فقد ارتبطتُ كثيرا بالرّاحل عمي العربي… كان يصرّ على مهاتفتي، حتى في آخر أيامه، لإخباري بهزيمة محتملة للريال في مواجهة البارصا، مع الثناء عليّ لحبي لفريق الرجاء الرياضي، وهو الفريق الذي اقترن إسمه بالنضال ضد المستعمر، و ضد السيّاسات التي اتبعت بعد الاستقلال … العم العربي ا كان حريصا على برمجة مباريات عائليّة في كرة القدم كلما حل بالمغرب خلال العطل، و أذكر جيدا كيف كان يسهر على تشكيلة متوازنة للفريقين، مع إعطاء ألقاب مُمَيّزة للاعبين ، فوليد هو الغصين … ندى هي الشاحنة التي لا تحن … و أنا الحارس العملاق كاسياس «.
كان أسامة في رده يرمي إلى إضفاء بعض التوازن على الحكي، فهو يعلم جيّدا زخم الذكريات و أثره على والده …
« سأحاول أن أكون منصفا للجميع ، و نحن في تجوالنا هذا، و الأهم هو تمكني من اقتسام هاته الذكريات وإيّاكم، في هاته البلاد التي عُرف عن أهلها فن الحفاظ على الثرات الذي خلفته الحضارات التي مرت عبر العصور، و طبعا سيكون الحديث ذو شجون …» ردّ توفيق
ابتسمت سامية ، وهي تضع رأسها على الوسادة المهيئة للراحة أثناء السفر،
أما أسامة فقد أخذ هاتفه، مصرا على البقاء في اتصال مستمر مع جميع الأصدقاء في عوالمهم الافتراضية .
أسماء أغمضت عينيها إخفاء لتأثرها الواضح ، فعلاقتها بمن عرفتهم قبل الرحيل كانت متميزة وعميقة، و مجرد استرجاع ذكرياتها ، يهفو وجدانها بقوة …


الكاتب : توفيق الوديع أعدها للنشر: منير الشرقي

  

بتاريخ : 19/08/2019