ذكريات عبرت… فأرخت.. أنصفت وسامحت -4- عـلى أسـوار قـرطـبة….

هِيَ رِحْلَةُ عُمْرٍ نَتَنَسّمُ تَفاصِيلَها اٌلْعَطِرَةِ بين دَفَّــتَيْ هَذَا اٌلْحَكْي .. .في ثَنايَا اٌلْكَلِماتِ وَاٌلْمَشَاهِدِ ، تَرْوي اٌلْحِكايَةُ، بِغَيْرِ قَلِيلٍ مِنَ اٌلْجِراحِ و الآمَالِ ، حَياةُ رَجُلٍ وَ امْرَأةٍ اخْتارَهُما «اٌلْقَدَرُ» كَمَا تَخْتارُ الرُّوحُ ظِلَّهَا – وَ عَبْرَهُمَا – نُطِلُّ عَلى مَسَارَاتٍ مُضيئَةٍ لأَشْخَاصٍ وَ «أَبْطالٍ» بَصَمُوا تَاريخَنَا اٌلْمُشْتَرَكِ بِغَيْرِ قَلِيلٍ مِنَ اٌلْجَلْدِ وَ اٌلْكِبْرِيَاءِ وَاٌلْعِنادِ اٌلْجَميلِ ، وَ صَنعُوا مِنْ «لَهيبِ الصَّهْدِ» جَذْوَةُ أَمَلٍ لا يَلِينُ ..حَكْيٌ كَاٌلْبَوْحِ اٌلْفَيّاضِ، يَسْرُدُ تَفاصِيلَ اٌلْوِجْدَانِ وانْكِسارَاتِهِ، وَجِراحَاتِ اٌلْوَطَنِ وَ آمَالِهِ … ضِمْنَهُ ، تَفاصِيلَ شَيّقَةً لأَحْلامِ جِيلٍ لَمْ يَنْكَسِرْ ، وعَبْرَ دِفَّتَيْهِ، نَقْرَأُ تَفاصيلَ غَيْرَ مَسْبوقَةٍ لأَحْداثَ مُثيرَةٍ مِنْ تَاريخِ اٌلْمَغْرِبِ اٌلْمُعاصِرِ … بِغَيْرِ قَليلٍ مِنَ اٌلْفَرْحَةِ وَ اٌلْفُرْجَةِ ، وَ اٌلْحُزْنِ وَالأسَى يَحْكِي الرَّاوِي شَهَادَتَهُ عَلَى اٌلْعَصْرِ … وَعَبْرَ هَذَا اٌلْحَكْي ، يَتعَاقَبُ الأَطْفالِ بِدَوْرهِمْ عَلَى السَّرْدِ، يَحْمِلونَنَا مَعَهُمْ إِلَى مَشاتِلَ اٌلْقِيَمِ اٌلْيَانِعَةِ، وأَحْضانِ مَحَبَّةٍ تَنْمُو و تَزْهَرُ ..بِمُطالَعَتِنَا لِهذَا اٌلْحَكْيِ اٌلْعَابِرِ …يُحْيِي فِينَا الرَّاوِي «توفيق الوديع « دِفْقَ مَوَدَّةٍ لا تَنْضَبُ ومَعِينَ وَطَنِّيَةٍ تَسْكُنُ اٌلْمَسامَ و الشَّرايينَ ..
بِشُموخِ الكِبارِ نُطِلُ عَلَى جُزْءٍ مِنْ ذَاكِرتِنَا المُشْتَرَكَةِ … وَ بِسَلاسَةٍ سَرْدِيَّةٍ نَسْتَعيدُ مَعَ الكَاتِبِ حِقَباً مِنْ زَمَنٍ مَضَى و آخَرَ يَمْشِي بَيْنَنَا ، لِنَتّقِدَ كَمَا تَتَّقِدُ الرَّعْشَةُ والبَهْجَةُ فِي الوِجْدانَاتِ الصّافِيَةِ.. لِذلكَ أَدْعو القارئَ إِلى اٌلإطْلالَةِ عَلَى تَفاصِيلَ هَذِهِ الذِّكْرَياتِ الْعابِرةِ لِشَجَرَةٍ عُنْوانُهَا الآسَفي وَثُرِيَا .. الثُّنائِي الَّذِي رَوَى، وَتَرَكَ مَا يُرْوَى حَوْلَهُ بِجَدارَةِ اٌلْخالِدينَ…

 

كان العربي قد قطع الشك باليقين أن كل الحاضرين يتابعون شروحاته الفلسفية والفيزيائية عن علم البناء لدى عرب الأندلس، حين تفاجأ بأن الوحيد الذي ظل يتابعه مهتمًّا بمعلوماته هو أسامة صديقه الحميم، التلميذ النجيب العاشق للمعرفة، والخصم العنيد في كل ما تعلق بالشأن الكروي العالمي… استشاط العربي غضبا وراح بعيدا واضعا يده على كتف الشاب وهمس له :” أنت أفضل أبناء إخوتي، عيبك الوحيد الأوحد عشقك للفريق الملكي الإسباني ضدا على الرائع الكتالوني …”
” وأنـت عـمّي الـمـتـمـيـز … ولكن لـكـل هـواه، فـالاختيارات تبقى شخصية، ولذا وجب قبول بعضنا البعض … ” ردّ أسامة، بابتسامة لا تخلو من روح نُكتة و حب خالص.
أمّ يوسف لم تكن لتعير لاحتجاجات العربي اهتماما، فقد كانت قد وضعت يدها في يد سامية مكتشفة جمالية مآثر قرطبة، مصرة على التوقف عند كل سرداب مظلم والذهاب إلى آخره مقتنعة أنه يؤدي حتماً إلى زنازن اعتقال وتعذيب، فالتاريخ يشهد أنّ لكل زمان أناسٌ مُتشبّعونَ بقيم حقوق الإنسان مُـدافـعـون عـنها، ولهُمْ أبْـدَعـت الأنـظـمة أماكـن يَلقون فيها جزاءهم … وأي جزاء !!
كانت آسيّة، تتقاسم جمالية المكان وصغيرةَ أخيها ، و تحكي للطفلة معاناة من مرّوا من تلك الزنازن وكأنها عاشت محنهم … طبعا فعلاقتها طويلة مع السّجن من خارجه و من داخله، هي التي رافقت أجيالا من الـوطنيين، وعـنـد طيّ صفحة انتهاكات حقوق الانسان، اهـتـمـت بـقاطني الأحياء السجنية وخصوصا الأحداث منهم …
لم تفارقها دموعُها الحرَّى دائما، وهي تحاول شرح معاناة قاطني السجون بطريقة مبسطة، وتلقن الطفلة قواعد الحرص على العمل لإنجاح النهوض بكل المشاريع ذات الصلة بالمؤسسات السجنية.
ثريا وجدت ضالتها في أم أسامة التي اقترنت بأصغر أبنائها، وعرفت كيف تقاسمها اكتشاف مآثر المدينة وروائع الشهيوات القرطبية التي تشبه إلى حد كبير تلك الشهيوات الفاسية …
” هل تعلم يا عمي أن آخر لقاء للفريق الملكي بالقرطبي، أمطر الأول شباك الثاني بدزينة أهداف، في حين أن الفريق الكتلاني اكتفى بالتّعادل السلبي فكان أن عاد بخُفي حُنين كما شبّه والدي اللقاء ” .
“وماذا تعلم أأُسامة عن حُنَين وخُفيْه غير الذي علّمه لك والدك من مغالطات حول تطبيق المثل؟…”
“أعلم جيّدا، يا عمّي، قصة ذلك المثل حين تجادل مشتر مع صانع أحذية يسمّى حُـنـيـن حـول ثـمـنها، وحـيـن دقّـق الـزّبـون في صَـنـْعــتـها، وأعجبته، جادل كثيرا في الثمن وذهب لحاله بعد أن أضاع على حُنين كثيرا من الوقت والزبناء، وانتقاما منه تبعهُ الأخير و سلك طريقًا جانبيًا أسرع من الذي سلكه الأعرابي حتّى أصبح أمامه بمسافة ، ووضع أحد الخُفّين على الطريق، وعلى بعد أمتار وضع الخُفّ الثاني، واختبأ يراقب الأعرابي، عندما وصل الأخير ووجد الحذاء الأول، انـتـبـه أنّـهُ أشبه بخفّي حُـنـيـن، ولأنَّه حـذاء واحـد تركهُ وراح لحال سبيله، وبعد مسافةٍ وجد الحذاء الثاني، فانتبه أنّ هذا وذاك يكوّنان خُفّي حُنين، أخذ الحذاء الثاني وعاد بسرعة لأخذ الأول، ناسياَّ دابته حيثُ كان حُنين يتربّص به، فما كان من الأخـيـر إلا أن أخـذها وهــرب بها، وكانت مُحمّلة بأجمل الأغـراض والهدايا … وعندها عاد الأعرابي إلى أهله فـارغ اليدين إلا مـن خـفّـي حنين… وهـو المثل الذي ينطبقُ على تـلـك المُباراة …”
لم يعلّمك والدك إلا أصول “التبوحيط” الذي أمطرنا به ونحن بعد صغارا… خصوصاً والوالدة كانت تثق فيه رغم ممارساته العدائية تجاهنا … لقد كان يتمتع بخيال يجعل المتلقي يصدق حكاياته ورواياته المحبوكة، والتي كنا ننال على إثرها أقسى العقوبات… وهل تعلم كذلك أن براعته في ذاك جعلتنا نسميه ” بالحاج البوحاطي”؟ وهي شخصية كاريكاتورية منتقدة لطرق عمل الحكومات المتتالية ” أجاب العربي، وهو يهش بما حملت يداه على رأس أسامة، الذي كان قد احتمى بجدته دراءً لردود أفعال عمه …
“ألم أقل لكم إنه بوحاطي كوالده …”
ضحك الجميع حدَّ البكاء، هكذا كان العربي، يعشق الفكاهة بخفة روح نادرة …


الكاتب : توفيق الوديع أعدها للنشر: منير الشرقي

  

بتاريخ : 21/08/2019