ذهبنا إلى الصين، وعدنا …من المستقبل! 23 : في أحضان مسجد تشيوانتشو، وحضرة كيلمي، رفقة محمد البريني!

من الصعب أن تعود من الصين كما ذهبت إليها، ومن الصعب أن يقتصر الذهاب إليها، على حالة فرح مصاحبة لسفر كالأسفار الأخرى. الصين بقعة من العالم القادم، ولغة سميكة، قادمة من التاريخ أيضا. بلاد تستمر  من التاريخ العريق إلى الغد المذهل.

 
مسجد تشيوانتشو، بمدخله المهيب، يقف صامدا منذ ثمانية قرون، بعض من نقوشه الخضراء تذكرك بألوان الزيتون أو القرويين، مسجد مدينة الزيتون، ينقلكم باسمه إلى شمال إفريقيا، لكن الأسماء بالداخل تدلك على إيران والهند وبلاد آسيا الصغرى..
جزء منه طالته يد الزمان، وأقيم بالقرب منه مسجد حديث، من تمويل عماني وكويتي..
من المثير أن للإسلام، في تاريخ الصين، تسميات عديدة! تنوعت حسب القرون: ك( الشريعة الداشية ) حسب كتاب  « الدستور العام / تانغ دو يو المجلد 193 » من سيرة شى رونغ الذاتية ، وحسب «مذكرات المسيرة الكونفوشية » أو ديانة . «ديانة وو شيانغ أى الديانة غير المدعومة ». كما في كتاب »مذكرات مساجد اللا مدعومين » لى تشيان – عصر مينغ ..
و من الأسماء على سبيل المثال أيضا ، ” الدين الحق “. وقد أطلق الكثير من المسلمين على المساجد فى عصر يوان ” مساجد الدين الحق “. . أو  » ديانة العرب ». كما في « موسوعة الإسلام فى الصين» وما يخص « دين العرب « للمؤلف لوا وانغ تشو أو يدعى  » ديانة المنطقة الغربية « كما في كتاب “ترميم المساجد ” ليو شو – عصر مينغ . واسم ” الدين القيم “. و هو الإسم الذى يطلقه المسلمون أنفسهم عليه، فى نهاية عصر مينغ وبداية عصر تشينغ، كما نشره العالم وانغ داى يو في كتاب ” الدين الحق القيم “، ويحتوى على باب تحت اسم ” الدين القيم “، يهدف إلى شرح ” التعاليم الدينية للدين القيم للعالم “، للتأكيد على أن الدين الإسلامى هو دين التوحيد وممارسة الواجبات الدينية والنظام الأخلاقي «للدين القيم»، كما أورد ذلك الكتاب الشهير” موجز عن الإسلام في الصين” من تأليف فنغ جين يوان ترجمة د. حسين إبراهيم..
وقد فرض علينا السؤال الذي كنا نتلقاه من المغاربة ونحن هناك: هل شاهدتم معاقبة وحصار المسلمين؟ أن نستطلع الأحوال ونعود قليلا إلى التاريخ، حيث وجدنا أن كتاب موجز عن الإسلام في الصين يقول عن : القوميات الصينية المسلمة وسكانها، يعتنق الدين الإسلامي في الصين عشر قوميات، وهى قوميات هوى والويغور والكازاخ والقرغيز والأوزبك والتتار والطاجيك وودونغشيانغ وسالار وباوآن. كما أن البعض في القوميات الأخرى مثل قوميات هان والمنغول وتاى ويى والتبت وباى ومان يعتنقون الدين الإسلامى ولكن عددهم قليل…
وكان واضحا أن قضية الويغور، الحاضرة بقوة في الإعلام، سواء الإسلامي أو الغربي هي التي فرضت هذا الجو ….
والدخول الرسمي للإسلام إلى الصين يعود إلى عهد عثمان بن عفان، عندما أرسل رسله إلى الإمبراطور يونغ هوي، من أسرة تانغ الحاكمة، (651 م)، وذلك في الخامس والعشرين من الشهر الثامن من العام الثاني من فترة حكم هذا الإمبراطور…
المسجد في الصين، له اسمه، والذي يعني معبد الحق الطاهر ” تشينغ جين سه” …
في تشيوانتشو الذي وقفنا عليه، يطلقون عليه إسم “معبد الأصحاب” و”المعبد الطاهر” و”معبد كيلين “،(الكيلين حيوان أسطوري عند الصينيين.. (..
ومسجد تشوانتشو هو أقدم مساجد الصين، دخلناه فوجدنا بعض عماراته قد تآكلت، فيما تلقت أخريات عنايةً للإبقاء عليها واقفة.
بعضنا توضأ وصلى ركعتين، وزرنا المكان نتأمل بقايا عبور باهر في منطقة بعيدة كل البعد عن مهبط الوحي…
وبوابة المسجد كما هو مسجل في لوح قربها، يبلغ علوها 12 مترا ونصف وعرضها ستة أمتار و نصف وقد قُدَّت من حجر بركاني الجرانيت والصخر الرمادي الأخضر وتتكون من 3 طوابق ذات أربع وحدات متسلسلة من شبه قوس ضخم وبوابة مقببة.. وقد بنيت ستة محاريب في جداري الممرين الشرقي والغربي، وعلى الجدار الجنوبي نقشت آيات قرآنية كريمة بالخط الكوفي، ومن أعلى سقف البوابة تتم رؤية هلال رمضان..
غادرنا المسجد، ونحن نتساءل: لماذا لم نسمع آذانا في اليوم كله، بتشيوانتشو، وقد سألنا الدليل الذي أجاب بأن كل مظاهر التدين الصوتية من آذان وأجراس وغيرها ممنوعة وأن كل المظاهر الصوتية الدالة على العبادة غير مرخص لها بالمدينة، وأن الناس تعرف أوقاتها ..
في الطريق إلى الفندق، شاهدنا وجود تماثيل كبيرة للغاية، لقوافل ورحالة، من نحاس، تتوسط الشارع المركزي، في إشارة إلى التاريخ الدائم للمدينة بما هي مدينة ترحال ورحلات، وأنها كانت ذات زمن قديم أحد أكبر موانئ العالم، تأتي إليها الشعوب من كل فج عميق..
على مائدة الغذاء، التي لا تتجاوز الخامسة والنصف مساء، في كل المدن التي زرناها، اطلعتنا السيدة نائبة الرئيس، أن الرئيس من أصول عربية قديمة..وأن عدد المسلمين، قرابة 100ألف.. من أصل ثمانية ملايين يسكنونها، وأن مسلمين، تبرعوا لبناء المساجد والجسور أيضا لوجود أنهار كثيرة..
سألنا السيدة نائبة الرئيس، حول مائدة كان منثورا عليها أوراق شاي محلي، يحيط بأواني الأكل وتحف المائدة..
المدينة، كما قالت، تهتم بالشأن الثقافي حيث يوجد ما بين 40 إلى 50 مركزا ثقافيا، وناتجها الداخلي الخام يبلغ 100 مليار دولار ..لا تعليق طبعا..
الذي كان مثيرا في تلك المدينة أنها صارت قاعدة العالم في الألبسة الرياضية. وهي التي سنزورها ضمن زيارة شركة “انطا anta ” الصينية المتخصصة في الإنتاج الخاص بها، وقد صارت غنية لأنها اقتنت شركة‏ ” kelme “الإسبانية الشهيرة في أمور الرياضة..
في الطريق إليها، أفتح كتاب”الكهف والرقيم” للمدير السابق لجريدة الاتحاد الاشتراكي، والإعلامي المتميز والرفيق والأخ الذي عشنا معه مدة من حياة الإعلام الوطني، محمد البريني..
ما الذي أعادني إلى الكتاب يا ترى وقد سبقت لي قراءته؟
لقد هجس في نفسي هاجس، وأنا أستعد للرحلة بأن قراءته قد تسعفني في المقارنة عندما أكون في تجارب أخرى، وأعود إلى مرحلة تدبير الانتقال الصحافي؟
كان ذلك حدسا مبهما سيصبح من بعد نوعا من الصواب العاطفي في أني أخذته معي في ذهني، ثم في حقيبتي..
كنت أمام تجربة فريدة في حياة مناضل إعلامي، سيقوم بانتقال فعلي وحقيقي نحو الإعلامي المستشرف لما سيعرفه الإعلام لاحقا، لقد طبعتني بعض صفحات الكتاب كتجربة حياة في تحولات الإعلام الوطني، ولعلها كانت الشهادة الوحيدة، المكتوبة بعجين الحبر والدم والدموع، في الحقيقة، التي تدحرجت ككبة لهب من أعماق صاحبها إلى ورق، لم يشتعل لأنه أجج المشاعر..
المهم كان يبدو لي منطقيا للغاية أن أقرأ الشهادة في سماوات أخرى، كمدير نشر الجريدة نفسها التي عاشها السي محمد لبريني أطال الله عمره!
لقد عشنا تجربة في الإعلام، كنا نعتقد بأننا نعرف تفاصيل ما يحدث، لكن الكثير ظل طي الصدور والأعماق، حتى قرأنا شهادات مباشرة عما وقع. يتحدث السي محمد البريني عن تجربة الفطام عن تجربة رعاها بقوة، إلى تجربة جديدة ينتقل فيها من تجربة إعلامية حزبية، محكومة بالانتماء إلى تجربة أخرى في الأحداث المغربية، وكيف اتصل به قائد اتحادي كبير لثنيه عن مشروع قد يتسبب له في إفلاس عائلي، لكنه أصر عليه، راقني، مصنف التعليل في الإحجام عن المشروع الجديد وهو يكتب:«أتذكر أن جوابي‮ ‬كان مختصرا‮. ‬قلت له‮: «‬السي‮ ‬محمد،‮ ‬أنتم في‮ ‬قيادة الحزب قررتم الاستغناء عن خدماتي،‮ ‬وطالبتموني‮ ‬بالتنحي‮ ‬عن إدارة جريدة الحزب‮. ‬أنت تعلم أنني‮ ‬تجاوزت الخمسين من عمري‮. ‬أولا،‮ ‬يستحيل علي‮ ‬العودة إلى مهنة التدريس التي‮ ‬كنت أزاولها قبل انقطاعي‮ ‬لمهنة الصحافة‮. ‬ثانيا،‮ ‬لست من النوع الذي‮ ‬يختار التجوال في‮ ‬شمال البلاد وجنوبها وفي‮ ‬شرقها وغربها للقيام بالحملات لانتقاد اختيارات قيادة الحزب،‮ ‬والعمل على خلق تيار معارض انتقاما مما لحق بي‮. ‬ثالثا،‮ ‬لست من الصنف الذي‮ ‬يختار إمضاء نهاره جالسا في‮ ‬ركن من أركان الدرب،‮ ‬يلعب الورق و‮ «‬الضامة‮» ‬مع المتقاعدين‮. ‬رابعا،‮ ‬بات مستعصى علي‮ ‬تعلم مهنة أخرى‮. ‬إنني‮ ‬أزعم أن ما قضيته في‮ ‬مهنة الصحافة وما تعلمته في‮ ‬ممارستها،‮ ‬لا‮ ‬يسمح لي‮ ‬باختيار طريق آخر‮ ‬غير هذه المهنة التي‮ ‬أقر أنني‮ ‬أحببتها بقوة‮. ‬لذلك،‮ ‬فإنني‮ ‬سأخوض المغامرة،‮ ‬وإن جازفت بمنزلي‮ ‬أو ضيعته،‮ ‬فسوف أكون أنا المسؤول الوحيد عن ذلك،‮ ‬لأنني‮ ‬أنا من قرر ذلك الاختيار عن وعي‮ ‬وطواعية واستقلالية،‮ ‬ولن أحمل مسؤوليته لأي‮ ‬كان‮».‬ وسأعود إلى الكتاب مرات عديدة…
زرنا شركة “انطا”، وشركة “كيلمي”الإسبانية، ورأينا بوتريهات لكبار الرياضيين، وللفريق الكوني الذي احتضنته، وكان أن رأينا سعيد عويطة وحده من بين كل الوجوه الرياضية.. ولا أحد غيره من مغاربتنا يطل علينا من الملصقات الكبرى…
كانت زيارة شراء في الواقع، اغتنمها بعضنا لأجل اقتناء سلع رياضية للأبناء والبنات على وجه الخصوص، فيما البعض ذهب لجهة الحقائب الرياضية ..
ركبنا الحافلة، وكان علينا التوجه إلى المطار، رأيت امرأة تحمل سلة فوق ظهرها، وبداخلها طفل لعله طفلها..


الكاتب : عبد الحميد جماهري

  

بتاريخ : 13/01/2020