ذهبنا إلى الصين، وعدنا …من المستقبل! 26 : مجموعة إعلامية تبني ناطحة سحاب، وجرائد تعرض مقالات صحافييها للعموم قصد التنقيط!

من الصعب أن تعود من الصين كما ذهبت إليها، ومن الصعب أن يقتصر الذهاب إليها، على حالة فرح مصاحبة لسفر كالأسفار الأخرى. الصين بقعة من العالم القادم، ولغة سميكة، قادمة من التاريخ أيضا. بلاد تستمر  من التاريخ العريق إلى الغد المذهل.

 
غادرنا الفندق، لارونيسانس، وفي الخارج، نرى، لأول مرة، البوليس في طرقات مدينة صينية! قالت الدليلة عند سؤالها إنها المدينة الأكثر صرامة في ما يتعلق بحركة السير والسياقة، لا تساهل مع المخالفين، بما في ذلك منع استعمال المنبهات، “الكلاكسون”، ومن يخالف ذلك لثلاث مرات يتلقى ذعيرة…
وصلنا مجموعة شانغهاي الإعلامية، كان البرنامج يتضمن في ذلك اليوم، الاثنين 9 دجنبر، زيارة هيئة إذاعة التلفزيون والراديو بالمدينة، إلى جانب مجموعة “شنغهاي أونايتد ميديا”، والتي تشمل مختلف الأنشطة ذات الصلة بالإعلام التقليدي والبديل، أي الرقمي.
عندما وصلنا عمارة المجموعة، أول ما أثارنا أنها ضخمة وحديثة للغاية، يتحرك فيها الزوار والعاملون عبر أدراج كهربائية، وبها كل ملامح المول ! تقول السيدة المرافقة، التي وجدناها في المؤسسة، إن المجموعة تضم 15 قناة تلفزية مختصة، 13 إذاعة و6 مجلات وجرائد، كما أن المجموعة تقدم خدمات السوق، من بيع وشراء وتبضع عبر الأنترنيت.
لقد تحولت المعلومة من حق إلى بضاعة، بكل تلخيص….
نقوم بجولة في المتحف، لنرى حجم المجموعة وتاريخها أيضا.
من المعروضات، كاميرا حديثة، ما زالت تستعمل عندنا، كما قال أهل الاختصاص من الوفد، لكنها دخلت المتحف هنا في مؤسسة شنغهاي. واستغرب، أنه بعد كل الذي رأيناه لم نصب بعد بأزمة قلبية أو اكتئاب…
كيف لم نشعر بالحاجة إلى الدخول إلى متحف مثل أدوات البث القديمة؟
عند العرض يلح يوسف شميرو: اكتب اكتب ! لا بد أن تكتب، عندما يُقدم لنا ماكيت المجموعة كلها، ومن بين ذلك أن المجموعة تبني ناطحة سحاب…
اكتب اكتب! يردد يوسف..
اللؤلؤة هي عبارة عن برج البث في شنغهاي.. ناطحة سحاب تقع على حافة شارع ليجيازو في حي بودونغ، على جانب نهر هوانغبو، يتوفر المبنى على برج هوائي يبث عدة قنوات تلفزيونية وإذاعية ويبلغ طوله أزيد من 450 مترا.
بعد الزيارة الاستطلاعية لمحتويات المتحف والمعرض، كان لنا لقاء مع السيدة الرئيسة التنفيذية للمجموعة وانغ جيانجونغ…، وهي سيدة في مشمش عمرها، في خمسينية ربيعية، امرأة بسيطة بنظارات تأكل كل وجهها، وتنورة تأكل ما تبقى من جسدها وحذاء بسيط للغاية بلون لا يثير الانتباه…
كان الخضر يترجم لنا ما تقوله في ذلك المكتب الفسيح، قالت إن المجموعة لديها الأشياء التقليدية، كالتلفزيون والصحف، لكن لديها أيضا مستجدات العالم الحديث في التواصل كالتسويق والسياحة والاستثمار.
كانت القاعة فسيحة بلون أبيض حليبي وسجاد أحمر به طبعات فستقية تتوسطها لوحة بالحبر عندما كانت المدينة مجرد قرية صيادين…
كنت أتابع الحديث وأسترق النظر إلى الجدران، وقد تم تأثيثها بمستطيلات بيضاء بها أدوات خزف قديم وجرات من جاد/ يشب،عندما قالت المديرة إن المتابعين للتطبيقات الإخبارية للمجموعة يبلغ عددهم عشرة ملايين، وأن الزبناء، الذين يرتادون كل منتجاتها، يبلغ عددهم الإجمالي 150 مليون متابع.
كانت المجموعة عبارة عن كيانات منفصلة توحدت في 2016، و57 % من إيرادتها تأتي من أنشطة تجارية وخدماتية مثل البث عبر برج اللؤلؤة…
في اللقاء مع السيدة، تواصلنا أفضى بنا إلى طرح الأسئلة حول البرامج الأكثر مشاهدة وكيفية التعاون مع الإعلام المغربي والوضع الصيني الأمريكي الحالي، وكانت في كل سؤال تحيل إلى مساعديها الذين يتولون الجواب كل تبعا للتخصص الذي يشغله..
وكان بليغا أن الأخبار التي تتصدر خدمات المجموعة تتمثل في البرامج الاقتصادية، تليها الأخبار الراهنة، والأفلام والترفيه.
كما أخبرونا بإمكانية التعاون مع المغرب عبر منصة تشاركية يمكن أن تكون قاعدة لتبادل الأخبار، وأعطت نموذجا بالتعاون مع تركيا ودبي وروسيا….
ويمكن للمجموعة أن تستثمر في المغرب، إذا كانت هناك برامج محددة وجيدة في الثقافة والسياسة.…
بعدها توجهنا إلى مطعم داخل المؤسسة، التي بدا العاملون فيها والعاملات مثل الطلبة !
توظف المجموعة 18 ألف عامل .. وكان لنا لقاء، غير بعيد عن الإذاعة والتلفزة، مع المجموعة الإعلامية”شانغهاي ميديا غروب”، وبها الجريدة الليلية، أو المسائية، كما هو متداول لدينا، وكانت تستعد للاحتفال بمرور90 سنة على ميلادها في 1929….
في مقر الجريدة وجدنا 4 مسؤولات وذكر واحد فقط ، في الطابق 31 من الجريدة..قالت السيدة المسؤ«ولة إنه سبق لها زيارة المغرب بدعوة من المكتب الوطني للسياحة، ولم يتسن لها لقاء الصحافة المغربية.
وقدمت لنا المرافقين لها، السيد شيا جون، المسؤول عن العلاقات الخارجية، وواشنغ شين المسؤولة عن الأخبار الثقافية، كشو يونغ المسؤولة الرقمية، وليو فانغ، المسؤولة عن الملاحق.
المسائية أو شين مين ايفنينغ نيوxinmin evening news هي أقدم جريدة شاملة في المنطقة، والعاملون بها يدبرون التطوير الضروري للورقي، إضافة إلى الانتقال الرقمي..تبلغ مبيعاتها 100 ألف كل يوم في كل الصين، وأهم وارداتها الإعلانات والمبيعات وحقوق الملكية للخدمات، والملاحظ أن نفس العاملين يعملون بالموقع الإلكتروني.
من المثير في التجربة أن الصحافيين يقومون أيضا بكتابة المقال وتركيب الفيديو والمشاركة في التمثيل والتصوير والأغاني، كما أن الشركة انتقلت إلى صناعة السينما، وقد يتحول الصحفيون إلى ممثلين، كما تقام مسابقات للأغاني بين الصحافيين داخل الجريدة …
طرحت السؤال: «كم تمثل الثقافة في فضاء الجريدة»؟
أجابتني السيدة شين، المسؤولة عن الشؤون الثقافية، بأن اليومية تخصص صفحتين للثقافة كل عدد، إضافة إلى ملحق ثقافي أسبوعي..
تتحرك المجموعة بثلاثة صناديق:
صندوق الاستثمار في الإعلام المتجدد، وصندوق ثان في المجال الثقافي، وصندوق ثالث يسمى صندوق الصناديق!! ومجمل المبلغ المخصص لها 15 مليار يوان.
وقد اختارت المجموعة شعارا لها طائرا لتقول بأنها تطير وتدخل كل البيوت، منهم بيوت 10 ملايين صيني يستعملون تطبيقاتها الإعلامية الجديدة.…
في عدد الجريدة لذلك اليوم، الاثنين 9 دجنبر، كانت هناك صفحة مخصصة للمغرب (ص21) وقوته العسكرية…، وقد ترجموا لنا الأمر بأنه يتعلق بالجيش المغربي وعتاده مما تصنع الصين، إلى جانب دول أخرى في المنطقة.
كانت أقوى تجربة سنعيشها ويعيشها المسؤولون في الوفد المغربي، هي وجود لوحة تقنية إلكترونية بها تم نشر مقالات كل صحافي وعدد قرائه وترتيب منتوجه في اليوم ضمن كل ما يكتب، وارتباط ذلك بالأجرة!كما يوضع لوح للمقارنة مع الجرائد والمواقع الأخرى، على نفس المستوى، للمقارنة والمتابعة وفهم السبق الصحافي …
الفكرة أغرت كل الوفد، ولا سيما الذين يعانون مع صحافييهم ويجدون أنفسهم أمام صحافي ينتج مقالا في السنتين أو صفر مقال!
واتفقنا أننا سنغري فدرالية الناشرين بالشروع في تنفيذها بمجرد عودتنا…… على ذكر ذلك، عادت إلى ذهني تجربة محمد البريني التي رواها في ما يتعلق بجزء من تاريخ الجريدة التي جئت بإسمها..
محمد البريني يحتفظ في جسده وفي مخيلته بتاريخ لم يكتبه سوى في السنة التي ودعناها، وهو تاريخ تطور الفكرة الاتحادية عن الإعلام..
بمغص متجدد أعود إلى ما كتبه وهو ينهي التجربة، ومن خلاله يعيد كتابة لحظاته القوية..
كتب محمد البريني باستشراف يقظ، تاريخ مرحلة وتوقع مرحلة جديدة، وهو يغادر جريدته «الاتحاد الاشتراكي»، وكان يهمني كمدير، وامتنانا له وتقديرا لما فعل، أن أستحضر ذلك وأتحدث إلى الوفد المغربي عن تجربة إنسانية ومهنية فريدة يمثلها الرجل، بعيدا عن ملابسات السياسة ومعارك التنظيم….
كتب يقول:
«كانت أول جريدة حزبية (في المعارضة) تحقق استقلالها التقني، وتبني مطبعتها الخاصة بإمكانياتها الذاتية، وتحطم جميع الأرقام القياسية في مبيعات الصحف المغربية، وتبقى رائدة من حيث التطوير التقني، وفي الخلق والإبداع المهنيين حيث تمكنت من خلق تقاليد ومبادرات صحفية عملت صحف أخرى على الاقتباس منها وتقليدها، ومن أن تكون أكثر الصحف المغربية مصداقية وتأثيرا، وكانت أول جريدة مغربية تستطيع بناء مقر يتوفر على شروط ومواصفات مقر جريدة محترمة (ودائما بإمكانياتها الذاتية)، بالإضافة إلى ذلك قامت بمساعدة الحزب على حل عدد من المشاكل بصمت وتواضع.
كانت أمنيتي الوحيدة هي نجاحها في تطوير إعلامنا الحزبي المكتوب، وتحديثه وتوسيع انتشاره في مختلف أوساط الرأي العام، وجعله يكتسب احترام وثقة مختلف شرائح المجتمع التي لها إمكانية الاطلاع والقراءة، ويساهم في تنمية دور المجتمع المدني وفعاليته وتمكينه من أن يكون أداة من الأدوات الفاعلة لإشاعة الوعي الديمقراطي وتوسيع مجالات ممارسته وتكريس مبادئ حقوق الإنسان. وبطبيعة الحال، فإن كل قدر من النجاح في هذه المهام لن يعود إلا بالنفع والخير على حزبنا. وباختصار، كانت أمنيتي هي أن نتمكن، بفضل العمل الجماعي ودعم القيادة، من جعل إعلامنا الحزبي هو النموذج البديل للإعلام المغربي السائد (الرسمي منه وشبه الرسمي والمعارض)، وللمساهمة بقسطي المتواضع في تحقيق هذه الأمنية، التي أنا واع بصعوبة الوصول إليها، وضعت كل ما لدي من طاقة وجهد وتفكير ووقت (وذلك على حساب عائلتي وبناتي) في مشروع واحد ووحيد وهو جريدة «الاتحاد الاشتراكي»، جريدة حزب القوات الشعبية.
لقد علمتني تجربة العمل لأكثر من 21 عاما في الميدان الصحفي أن هناك بعض البديهيات التي ينبغي العمل في إطارها، إذ بدونها لا يمكن لأي مشروع إعلامي أن يتوقع لنفسه النجاح، ومنها البديهيات التالية:
1 – الصحافة صناعة تتطور (تقنيا ومهنيا) بسرعة فائقة، وتواجه تحديات متزايدة وخاصة مع الدخول في عهد الإعلام الإلكتروني واتساع مجالاته ومهامه، وغزوه المتنامي لمختلف مناطق العالم، ومع انتشار الوسائل التي تمكن من استقبال برامج تلفزية متعددة وغنية، ومع احتدام المنافسة في الحقل الصحفي (المنافسة الداخلية ومع الخارج).
2 – الجريدة منتوج موجه للاستهلاك، وبالتالي فهو يخضع لقواعد وقوانين السوق، بل إنه أصعب منتوج موجه للاستهلاك بفعل سرعة تلاشيه وانقضاء مدة صلاحية استهلاكه، وبفعل أنه منتوج استهلاكه اختياري فقط، ويمكن للمرء أن يستغني عنه لأنه ليس مادة أساسية للتغذية ولا دواء ولا لباسا.
3 – احترام القارئ/المواطن والعمل على اكتساب ثقته وعدم الاستهانة بذكائه ونضجه وعدم اعتباره طفلا يحتاج باستمرار لأب يرشده إلى ما ينبغي عمله وينهيه عما يجب تجنبه. وهذا الاحترام يتطلب، في ما يتطلب، تمكين القارئ من وسائل وأدوات تكوين رأيه بنفسه بحرية واستقلالية، وعدم التعامل معه على أساس أنه زبون سياسي فقط.
4 – الوعي بأن ترويج ونشر الخطاب السياسي لحزب ما وبيعه للجمهور، قد تغيرت أساليبه وبيداغوجيته في عهد أنظمة التواصل الإلكترونية والأقمار الصناعية والماركتينغ السياسي. وأن أحسن وسيلة لجعل الجمهور، غير المناضل في الحزب، يعرض عن الخطاب السياسي وينفر منه، هو الاستمرار في استعمال الشعارات الفضفاضة والمكرورة وكتابة المقالات بأسلوب المناشير والإدعاء بامتلاك الحقيقة ….
5 – الانفتاح الفعلي على المجتمع المدني وعدم اعتبار ذلك مجرد تكتيك لكسب الزبناء والأنصار، بل استعماله لفتح وإقامة جسور الحوار المثمر مع فعاليات المجتمع المدني والتعاون معها في البحث عن الحلول والاقتراحات والأفكار الكفيلة بالمساعدة على معالجة وحل مشاكل وقضايا البلاد».


الكاتب : عبد الحميد جماهري

  

بتاريخ : 16/01/2020