رواية «بنات ونعناع»  لحسن بحراوي .. النظر إلى الماضي..بغضب

تطرح رواية (بنات ونعناع) من الأسئلة والإشكالات أكثر مما تقترحه من الأجوبة والإفادات، وهي بذلك تغادر بنا منطقة التلقي السلبي لتفتح أفقنا على ذلك القلق المربك الذي يجعل من القراءة اختبارا للفكر واستثارة للمشاعر..
وأما الحكاية التي تتولّى الرواية سردها بأكثر ما يكون من التركيز والإيجاز، فهي بسيطة لا يكاد يكتنفها تعقيد أو التباس، وإن حصل شيء قليل من ذلك فلأن الشرط الحكائي قد اقتضاه ووجد له ما يبرّره..فالزاهية امرأة سيئة السمعة كما يقال فتحت بيتها لبيع الهوى وحشدت حولها جماعة من (البنات) ممن قادهن حظهن العاثر إلى ممارسة أقدم مهنة في العالم، مضحيّات بسمعتهن التي لم يعد بوسعها أن تساعدهن على سدّ رمقهن..
وتتوالى الأحداث تباعا وسراعا بعد ذلك فيخامرها مشروع نقل مقر عملها إلى مدينة أماديل الجنوبية، حيث الأمل في مدخول أكبر لها ولبناتها، ولكن زلزالا مدمّرا يضرب المنطقة فتنجو الزاهية وطاقمها بضربة حظ تشبه الأعجوبة..ثم تحلّ لحظة رهيبة فتختفي ثلاث من بناتها المفضلات في أعقاب ليلة سهر صاخبة وبطريقة ملغزة نوعا ما، حيث سيصبح عليهن الصباح وقد خلا منهن المنزل والقصبة والمدينة برمّتها..وتبدأ الزاهية وقد أحزنها هذا الحادث وبلبل وجدانها رحلة لجمع شمل بناتها الذي تشتّت، ولم يعد هناك أمل لالتئامه في الأمد المنظور. وسوف تستعين في ذلك بصديقها الأمازيغي موح نادل «مقهى مرحبا» وخاصة بمعارفها من رجال السلطة وفي مقدمتهم الضابط جواد الذي عيّن حديثا بالمدينة ، حيث سيفتح تحقيقا في الموضوع يعاني فيه من الكثير من التعقيدات والمصاعب بسبب تراكم الأحداث الغامضة التي توالت على الزاهية وبناتها وانتهت بإيداعها السجن في ظروف بالغة الالتباس هي كذلك..
وهنا تأخذ رواية «بنات ونعناع» مسارا مدوّخا تمتزج فيه الحبكة البوليسية والمناخ الكافكاوي ، حيث ستظهر شخصيات على المسرح وتتوارى أخرى أوتذوب مثل فصوص الملح، وتطرأ أحداث غير متوقعة واتفاقات لا أساس لها من الواقع أو المنطق، وحيث تلقى أضواء كاشفة على منحنيات الحياة اليومية لمواطني مدينة هامشية (تعيش على السمك والصبر)..
وتنتهي الرواية على حين غرة أي في لحظة غير منتظرة ، تؤثثها وقائع بعضها سعيد وبعضها الآخر مثير للشجن، فيتزوج موح بعد صوم طويل ليبدأ حياة جديدة، ويغادر الضابط جواد المدينة خوفا من التورط في تبعات ارتباطه بالزاهية وبناتها، أما هذه الأخيرة نفسها فتدشن تجربة انقلابية كزعيمة للنزيلات في سجن النساء حيث تمضي أيامها بطيئة بانتظار الحكم عليها في قضية جنين رمت به بناتها في القمامة، ويسدل الستار أخيرا على هذا العالم المتشابك برفع البنت حلومة وهي على أبواب الجنون شعار بيت الزاهية الخالد الذي هو ربطة النعناع.
وحول هذه الرواية التأمت بالقاعة الوسائطية بالمحمدية حفلة سمر رمضانية دعا إليها مركز أجيال 21 ، وتولى إدارتها الأستاذ عبد الغني عارف بحنكته الجمعوية ولباقته الإنسانية، وأخذ فيها الكلمة عدد من النقاد والمبدعين المغاربة ممن لبّوا دعوة المركز إلى هذا اللقاء الثقافي المتميز.
وقد استهل اللقاء الكاتب القصصي أنيس الرافعي الذي قدّم قراءة عاشقة تجاوزت رواية «بنات ونعناع» لتنسحب على تجربة الكاتب ككل. وبالنسبة إليه فإن ما يميز هذه التجربة تحديدا هو حبكتها التي تبدو من أول وهلة نتاجا لـ (ذاكرة سينيفيلية) لا تخطئها العين، وهي التي جعلت همّها الأساسي هو (تبصير) السرد عن طريق بلورة متتاليات من الصور تجاورت فيها عناصر منسجمة ومتنافرة حكائيا ولغويا، وانتهت في رأيه إلى تقديم مادة متنوعة ولكن منسجمة تذكر ب(حانوت العطار)..وهو يشير كذلك إلى أن الرواية تتستّر على تقنيتها المعقدة وتُعلن بدلا من ذلك مظهرا مموّها وساذجا تقريبا.
وانطلق الناقد السينمائي عبد الإله الجوهري في مداخلته من حيث انتهى الرافعي أي من القول بأن رواية (بنات ونعناع) تخدعك عند القراءة الأولى التي توحي بعالم المرح واللهو الظاهري الذي ارتبط ببيت الزاهية، فيما تعمل في العمق على فضح عوالم الظلم واستبداد السلطة. وهو يلاحظ كذلك بأنها تحتفي بالعنصر التراثي بمختلف مظاهره اليومية (الحياة في قصبة الستينات) والطقوسية (موسم سيدي موسى المجذوب) والأسطورية (فيلا الجمل)..إلخ
ولكي يبقى الجواهري وفيا لاهتماماته كسينمائي يُنهي كلمته المفصلة بإقامة مقارنة بين شخوص الرواية وشخصيات الفيلم المغربي (السنفونية المغربية) الذي يرسم فيه المخرج كمال كمال ما يشبه الملحمة لواقع الفقر والضياع لدى شريحة من الهامش الاجتماعي، مما يؤدي إلى المساس بالقيم ويحجب الآفاق.
ومن جهتها تقتحم الباحثة مليكة المعطاوي مقاربتها للرواية من زاوية كونها تنطوي على جدل متواصل بين الواقع والخيال، والذي يعني لديها في نفس الوقت حوارا بين الماضي والحاضر، تؤثثه محكيات متشابكة تحرص على بيان انتسابها المشروط إلى أحد الجانبين.
وأما الناقد يوسف توفيق فيعلن منذ البداية بأن مقاربته للرواية ستكون من باب النقد الثقافي حيث سيعمل على تتبّع ما تعرضه (بنات ونعناع) من منحنيات التجربة الوجودية لفئة من المواطنات، محكوم عليها بعدم مغادرة الهامش الاجتماعي والبقاء رهينة الإحباط الدائم، وهو يرى في ذلك مجازا غير مقصود لفشل المشروع السياسي والاجتماعي المغربي برمّته، وفي بيت الزاهية نظيرا مقلوبا لمؤسسة الحزب أو الزاوية. وتمثل الرواية كذلك في رأيه محاولة لتصوير التنوع الثقافي الذي يعيش المغرب على إيقاعه (المكون العروبي والأمازيغي واليهودي..إلخ) ويحاول المغاربة تدبيره بهذا القدر أو ذلك من التوفيق ، حيث تقدم الرواية جنبا إلى جنب مظاهر المدنس (الدعارة والسكارى) مع المقدس (المسجد والزاوية).
ويختتم الناقد محمد الخفيفي هذه القراءات بعرض يتّجه إلى كشف ما تُضمره هذه الرواية من أسرار الجسد المستباح الذي يتحرك في فضاءات محظورة أو في حكم المحظورة، ويتيح لنا الوقوف على العراء الداخلي للمجتمع الذي يفضحه الإبداع باعتبار أن الرواية الناجحة، كما يقول كونديرا، هي التي تهدف إلى «إبقاء العالم تحت النور».
وأخيرا، فنحن نفترض أن هذه المداخلات، في اختلافها وتكاملها، تقدم الدليل على خصوبة هذا العمل الروائي وخاصة على ارتباطه بالتحولات المتعاقبة في القيم والذهنية التي عاشها المغرب في حقبة تاريخية ولّت بخيرها وشرها، وصار من الممكن اليوم أن ننظر إليها باعتبارها قطعة من ماضينا المشترك.


الكاتب : سعيد الريفي

  

بتاريخ : 11/06/2019