رواية «معارك صغيرة» لنزيه بحراوي عندما يهزم الشطرنج ألعاب الفيديو

 

تتعدد الأسباب التي تجعلنا نكتب عن رواية ما، فقد نكتب عنها مثلا لأنها استطاعت أن تلفت انتباهنا لقوة طرحها وحمولتها الفلسفية والنفسية. أو لقدرتها على استيعاب مرحلة من المراحل بأحلامها وانكساراتها. وربما يكون السبب كامنا في نجاحها في القبض على التجربة الوجودية في كامل أبعادها، أو لتفوقها في التقاط الواقع والتعبير عن مفارقاته من خلال إفراز أصوات سردية تصنع بتمازجها البوليفوني سمفونية جميلة تزيد من منسوب اقتناعنا بما يجري فيها من أحداث، وبمن يلعب على مسرحها من شخصيات. وربما لأننا نجد أنفسنا متورطين في عوالمها، عالقين في شبكة علاقاتها المعقدة التي تنسج بخيوط سردية وثيقة. وهذا الأمر الأخير، هو تحديدا ما شدّني إلى رواية «معارك صغيرة» لنزيه بحراوي الصادرة حديثا عن دار الساقي، وجعلني أتعلق بها منذ صفحاتها الأولى، وأنهيها على غير عادتي في جلسة واحدة. وهو أمر لم يتكرر إلا مرتين في حياتي، أولها مع رواية «الغريب» لألبير كامو، وثانيها مع رواية «اللجنة» للكاتب المصري العظيم صنع الله ابراهيم. وجدت نفسي في العمل لأني استعدت جزءا مهما من طفولتي، خصوصا وأنني من جيل المرحلة المشار إليها في الرواية ولا يفصلني عن السارد عمريا إلا سنوات قليلة (باحتساب العمر السردي طبعا).
تبدأ الرواية في أحد المطارات المغربية معلنة عن حدث لقاء السارد بأحد أصدقاء الطفولة. وهذا الحدث هو ما سيقدح زناد الأحداث التالية، ويتسبب في إيقاظ ذاكرة مثقلة باللواعج والذكريات لتقفز الرواية سنوات كثيرة إلى الوراء، وتحديدا إلى نهاية الثمانينات حين يكون عمر السارد سبع سنوات. وفي هذه السنة سيلتقي بوليد، وهو من الشخصيات المحورية التي ستصنع ملحمة مجيدة رسمها أبطال صغار في أعمارهم، كبار في أفعالهم التي تحاكي بكل عفوية وبراءة أفعال الكبار. وعلاوة على نبوغه المبكر، وعلى ترعرعه وسط أسرة فوضوية(لدى هذه الأسرة كلب اسمه باكونين وهو مؤسس الفلسفة الفوضوية)،كان وليد يتصف بالشهامة مؤكدا على ذلك في كثير من المواقف، فقد ضحى بنفسه في حادثة استظهار سورة الواقعة موثرا أن يأكل علقة ساخنة بدل كاميليا الجميلة التي تعثرت في الحفظ مثلما تعثر بقية الزملاء. كما أنه ظل صامدا في لعبة البحث عن الكنز التي كانت تجريها حومة السارد مع الحومة الخامسة المكونة من زمرة الأطفال الأشرار. ليس هذا فحسب، بل كانت غرفته تعج بمختلف قطع ألعاب الأطفال، والشطرنج والموسوعة المليئة بالمواد العلمية والتاريخية والجغرافية التي كان كل طفل يحلم بامتلاكها في بيته. أما بقية صناع هذه الملحمة المجيدة فهم بالتأكيد دونكيشو الطفل الطويل النحيف ذو الميولات الدونكيشوطية الحالمة والجسورة وكاليميرو الصغير المفروض فرضا على المجموعة لإصرار أمه على أن يلعب رفقة أخيه “ إما أن تلعبا معا أو لا تلعبا قط”.
الرواية تضعنا في قلب سنوات التسعينات، أيام كان برنامج “ركن المفتي” يبث يوم الجمعة بفتاويه المضحكة والتي يشير السارد للفتوى الخاصة بالرضاعة، والتي من كثرة طرحها فإنها تمنح الشعور بأنها المشكلة الوحيدة التي تؤرق المغاربة، متبوعا بالفيلم المصري الذي يجعل القلوب تهفو لمعانقة الشاشة الصغيرة ولا تتركها حتى عندما يتوقف الفيلم ليفسح المجال للنشرة الأخيرة المملة ..أيام نوادي الفيديو، وأفلام البورنو، وديكودور (جهاز التشفير) القناة الثانية العجيب، والذي كان من علامات الترف والتبرجز لأن الطبقات الكادحة كانت تكتفي بالتحديق في “التشاش” المتناثر بعد انتهاء الفترة المسموح بها لغير المشتركين المحظوظين. أيام كان الفيديو نصرا طبقيا مبينا، إذ لا يحتل مكانه إلا داخل بيوتات الأثرياء. لكن الحدث الأبرز كان بلا شك هو حرب العراق والظلال التي أرختها على دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط وبقية العالم بدرجة أو بأخرى ..فقد أشار السارد إلى توقف الدراسة لأسابيع لتكون الفرصة سانحة للمزيد من اللعب والمغامرات الشيقة والمعارك الصغيرة التي يستعمل فيها الصغار خططا دفاعية وهجومية وأسلحة خفيفة وثقيلة، لعل أهمها سيف صدام الخشبي المجلوب من أرض السواد والذي تعرض لانكسارات عديدة أولها في الحقيبة بعد اعتراض الجمارك على حمله داخل الطائرة. وتوالت بعدها الانكسارات رغم المساعي الحميدة التي قام بها والد السارد لجبر كسره ب”الكولا سبيسيال”..في إشارة لانكسار شوكة صدام بفعل تكالب الأعداء والأصدقاء، والى الانكسارات المتوالية التي عرفتها الشعوب في تلك المرحلة العصيبة والمفصلية. بالإضافة إلى حرب العراق احتشدت الرواية بعشرات الإشارات إلى ما طبع تلك الفترة من أحداث محلية وإقليمية ودولية، مثل انهيار جدار برلين، وصعود الإسلاميين في الجزائر إلى الحكم، والانقلاب عليهم، وتعيين بوضياف رئيسا واغتياله وقضية الحاج ثابت وما أثارته من لغط، وخروج معتقلي اليسار من السجن. وهي أحداث تم تناولها من منظور طفل صغير يكتشف العالم بتوجيه من أبويه أو محيطه ويعيد تشكيله وفق منطقه الخاص والمغلف بسخرية قاتمة تكشف سوأة العالم وتناقضاته وسخفه وتفاهته، لتحاكم الرواية مرحلة كاملة شكلت وعي الصغير وحقنته بأنواع كثيرة من المغالطات والأوهام،موجهة سهام نقدها لمختلف الممارسات الدوغمائية التي تكرس البلادة والجهل والخوف وتتسبب في إجهاض الحلم .أما كاميليا التي افتداها وليد في حادثة سورة الواقعة فقد كانت محبوبة من طرف الجميع، ولم يتبق واحد من المجموعة خارج شباك غرامها. ورغم أنها كانت بعيدة عن معاركهم، إلا أنها تكاد تكون الحاضرة الغائبة في جل أطوارها بعد أن صار الفوز بقلبها الهاجس الأكبر للسارد في منافسة محمومة بينه وبين وليد، وانتهت بانتصار صغير لوليد بالنقاط بفضل عقله الشطرنجي الذي يدبر للمعركة بتخطيط ذكي واستراتيجيات محكمة عكس السارد المفتون بألعاب الفيديو وأفلامه، والتي لم يغنم منها غير هذا السرد اللذيذ. وهو ما يلخصه بقوله: “كان رأس وليد يعمل كلعبة شطرنج، أما رأسي فكان داخله جهاز فيديو، وكانت حياتي فيلما لا يتوقف”.ص 197. الشطرنج يوافق التفكير والتخطيط وتحقيق الأهداف بفعالية غريبة على طفل، والفيديو وألعابه يوافقون الفن والآداب والعواطف الجياشة والدوغمائية التي تؤدي أحيانا إلى التسرع والانفعال والوقوع سريعا في مخططات الآخرين.
ورغم كل ما سيقال عن مختلف الفصول الشيقة والمكتوبة بلغة سلسة ومنسابة، فإن الرواية مسكونة بروح شريرة تجثم على قارئها وتمسك بخناقه ولا تعطي له أية فرصة من أجل الإفلات. وليس كما يحصل مع روايات كثيرة ننفق في شرائها أموالا كثيرة لكننا نتخلى عنها مع الصفحات الأولى لأنها باختصار باردة وبدون أية روح.
رواية معارك صغيرة تجعلنا نرى بتفاؤل لمستقبل تشرق فيه شمس الرواية المغربية، ما دامت في أيدي شباب قادرين أن يصنعوا مجدها الأدبي في السنوات القادمة. وما ذلك عليهم بعزيز.


الكاتب : يوسف توفيق

  

بتاريخ : 22/11/2019

أخبار مرتبطة

روني شار يقول بأن على الشاعر أن يستيقظ قبل أن يستيقظ العالم لأن الشاعر حافظ وجوه الكائن اللانهائية.شعراء أساسيون مثل

رَفَحْ جرحٌ أخضرُ في مِعْصم غزَّةَ، وَنَصْلٌ في خاصرة الريحِ. ماذا يجري؟ دمُ عُرسٍ يسيلُ أمْ عروسُ نِيلٍ تَمْضي، وكأنَّ

– 1 – هل الرمز الشعري الأسطوري ضروري أو غير ضروري للشعر المغربي؟ إن الرمز الأسطوري، اليوناني، خاصة، غير ضروري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *