رولان بارت .. المفكر الذي منح السيادة للقارئ

صدر مؤخرا للباحث Mathieu Messager وهو أستاذ اللغة والادب الفرنسي بجامعة «نانت» كتاب بعنوان» Roland Barthe «عن دار النشر QUE SAIS –JE والذي طرحت ترجمته كموضوع بحث لنيل شهادة الإجازة بجامعة محمد الخامس بالرباط، وذلك تحت إشراف الدكتور محمد الداهي.
إن الكتابة والترجمة عن رولان بارت تمثلان مغامرة كبيرة ، نظرا لتعدد وتنوع المفاهيم التي يقدمها ، فالتراث الكبير الذي خلفه على مدار أكثر من ثلاثة عقود، الزاخر بالقضايا التي أثارت ولا تزال تثير الجدل إلى اليوم دون أن تجد إجماعا حولها ، لطالما كان بارت يصف نفسه بأنه عنصر قلق، يند عن الوصف .
يتوجب على القارئ العربي كما يقول عبد الفتاح كيليطو أن « يدرس بإمعان كتابات رولان بارت ، بل عليه أن يحفظها عن ظهر قلب، لكن عليه كذلك أن يتناساها في فترة لاحقة، لكي لا يسقط في فخ التكرار ، ولكي يتسنى له أن يعيد صياغة الأسئلة البارتية، ويجيب عنها بطريقة فريدة لم يسمع بمثلها من قبل « .
يعد هذا الإصدار غوصا عميقا في حيوات هذا المفكر الكبير، يأخذك في جولة في أبرز محطاته الفكرية، واتجاهاته المتنوعة في الأدب والنقد ، الدراسات النقدية ، السيميولوجيا ، البنيوية وما بعدها ، المسرح ، علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) .
لطالما كان بارت المنارة السباقة إلى إرسال إشارات ضوئية توسع مجال البحث والاستكشاف، وتعيد النظر في ما أنجز، إذ يتميز بارت بكونه متحررا من النظام المفاهيمي، فهو لا يثبت على أي نظرية بعد أن تتحول إلى نظام ، باحثا عن مكامن النقص ومنتشيا بمتعة البحث، وتأمله الدائم تجاه العالم .
قد يوحي هوسه بالهامشي لشكل من أشكال تقويض مفهوم سلطة المعنى، حيث كان يرى بأن الهامش يمكن أن ينطوي على إمكانيات لا تقل متعة وحقيقة، ربما تتفوق على المتن أو النظام في ذاته .
وفي مجال الكتابة سعى بارت إلى تعديل الوعي أو الفهم لمعنى الكتابة ، عن طريق رؤية جديدة تجعل الذات تتمثل النص .
يقع هذا الكتاب في 128 صفحة ، ويضم مقدمة وخمسة فصول وخاتمة .

(1)
ترسم مقدمة الكتاب الخطوط العريضة لحياة رولان بارت ، فقد آمن الكاتب طوال هذه المقدمة بأن القلق المفضي إلى الكتابة والإبداع ، وإلى تفجير ما هو كائن بالأسئلة ، وخلخلة الثوابت، لا يوقفه المرض، فبارت لم تمنعه رحلة المعاناة مع داء السل والتنقل بين المصحات، واليتم المبكر ، ولا الحرمان من مسايرة الدراسة بوتيرة طبيعية، من القراءة الكثيفة، فكان لتعدد القراءات وتنوعها أثره في تكوين هذه الشخصية الموسوعية .
جاء الفصل الأول من الكتاب بعنوان « التزام «، يتحدث فيه الكاتب عن إقرار بارت بأنه مدين لميشلي بما اكتشفه منذ بداية حياته الفكرية ، من مكانة للتاريخ بين العلوم الأنثروبولوجية، حيث إن بارت لا يستبعد التاريخ من مشروعه ، إلا أنه لا يقصد إلى ربط التاريخ بالمضامين ولا بالإيديولوجيا ، بل يتوخى إبراز علاقة الأشكال بالتاريخ ، كما يظهر ذلك من خلال الدرجة الصفر للكتابة .
يوضح الكاتب في الفصل الثاني المعنون ب « مدخل إلى السيميولوجيا « أن تحليل العلامات في الحياة الاجتماعية يتحول إلى مشروع علمي بدرجة كبيرة، وليس فقط ارتباطا بالأساطير، ويبدو استناد بارت إلى أفكار فيرديناند دي سوسير(وكذلك هلمسليف ومارتينيه) في ما يتعلق بمجموعة من الثنائيات (اللغة/الكلام ، الدال/المدلول)، حيث يزيح بارت هذه الثنائيات إلى حقول اجتماعية وثقافية متنوعة كالموضة والمصارعة والمطبخ وغيرها من المظاهر المختلفة التي تجد في السميولوجيا حقلا خصبا تقرأ على ضوئه، والتي سيصفها في ما بعد بأنها شيء من « الهذيان العلمي» ، سندرك رغبته الخاصة بجعل السيميائية علما خاصا متميزا عن اللسانيات، وذلك بمنحها قوانين نظرية متماسكة .
خصص الكاتب الفصل الثالث الموسوم بـ « النقد الأدبي « ليفتح نافذة على بارت الناقد الأدبي، الذي وضع أسسا منهجية جديدة لقراءة الأدب ، فقد جاء في كتابه س/ز قراءة لقصة بلزاك يظهر من خلالها مفهوم الأدب ومفهوم الذات الكاتبة والتخييل .
ففي مقالات نقدية لبارت يتجلى أن موت المؤلف لا يعني أن متلقي النص ليست له علاقة بقصد المؤلف وبحياته ، أي إبعاده من العملية النقدية ، بل إبعاد سلطة المؤلف عن العملية الإبداعية والنقدية معا ، فموت المؤلف هو موت للفكرة التقليدية المشكلة عنه، والتي تعتبره خالقا مطلقا للنص الموقع باسمه، فالنصوص في أصلها شبكة فسيفسائية من الاستشهادات المأخوذة من نصوص أخرى قرأها المؤلف وتأثر بها قبل أن يكتب نصه .
انتقل الكاتب في الفصل الرابع للحديث عن المنعطف الذي أحدثه بارت في نتاجه النقدي، إذ ابتعد عن المفهوم الصارم للسيميائيات الذي دافع عنه بقوة في ما مضى، كما تطرق لمرحلة السبعينات في حياته ، وأبرز أعماله فيها كـ «امبراطورية العلامات «، « لذة النص «، و «رولان بارت عن رولان بارت « .

(2)
« الموت والحياة الجديدة « هو عنوان الفصل الخامس والأخير، الذي يذكر فيه الكاتب تعيين بارت أستاذ كرسي السيميولوجيا الأدبية ، في الأكاديمية الفرنسية كوليج دي فرانس، كما يحيل كتابه الأخير «الغرفة المضيئة» 1980 إلى الفقد ، ويبدو أنه يمثل إعلانا عن رحيله في العام نفسه ، إثر حادث سير أمام جامعة السوربون التي قضى فيها أخصب سنوات حياته .
لقد مس الكاتب خلال فصول هذا الكتاب جوانب شفافة من حياة المفكر المثير للجدل في عصره، كما رصد العوامل التي ساهمت في بلورة فكره الذي يعمد على خلخلة كل سكون ، والتغير الذي أحدثه على النقد الأدبي في النصف الثاني من القرن العشرين، وهجومه على من يحصرون الإنتاج الأدبي بتاريخ محدد، مما يجعله أثرا جامدا. وبما أن كل نص هو ماض وحاضر في آن واحد، فإن كل عمل أدبي هو خالد .


الكاتب : مريم الجنيوي

  

بتاريخ : 27/01/2020