زمن المراجعات الكبرى .. محمد برادة الناقد الأنسني، مفرط في إنسانيته

في كتابه الموسوم «تمثلات المثقف» أو كما في ترجمته الثانية، بعنوان (الآلهة التي تفشل دائما) (1)، قدم إدوارد سعيد، تصنيفا ذكيا لأدوار المثقفين، مميزا ضمن وظائفهم، بين المثقف المحترف أو المتخصص الأكاديمي، كالعالم الفيزيائي الأمريكي أوبنهايمر صانع قنبلة هيروشيما، الذي يحسن عرض إنتاجه متخليا عن سلطته الأخلاقية، لأن صفة التخصص تعني إيغالا في ممارسة وتوظيف النزعة التقنية التي تناقض الحس التاريخي، كدليل على ذلك، نجده مع فئة المستشرقين الذين يدرسون موضوع الإستشراق بوصفه مجالا يخص أهل الخبرة ، كما أن صاحب هذا الموقف الاحترافي – التخصصي، بما فيه نقاد الأدب، لا يهمهم سوى مخرجات المنتوج التخصصي، مع إحجام لافت عند مناقشة موضوع تخصصهم كتخصص ينفصل عن قيم المسؤولية الأخلاقية، وتتحول معرفته إلى خبرة تخضع لشروط العرض والطلب والبيع والشراء عندما يعمل في حقل معرفي ما، لأنه قادر على استخدام خبرته بأية طريقة كانت، لقد حاول إدوارد سعيد عبر مساره الأكاديمي أن يقيم قطيعة مع ما يسميه «معازل التخصص» أو «غيتوهات الاختصاصات»، وذلك عبر تجسير الحدود بين الاختصاصات الأكاديمية، كما أن هذه الفئة من نقاد الأدب الحرفيين، أطلق عليهم العالم اللساني والناقد الأدبي جورج مونان، في كتاب قيم بعنوان (تقنوقراطيو الأدب) وذلك في أوج انتشار المناهج البنيوية الشكلانية التي اكتسحت ساحة (النقد الجديد) في فرنسا، حيث (لم يعد مثقفوها يقاومون نوع نظامها المجتمعي القائم على ثقافة مجتمع الاستهلاك الذي يتحكم فيه الخبراء التقنوقراطيون، عندما تسربت إلى جسده جرثومة النزعة التكنوفيلية)، لقد لاحظنا منذ بداية عقد السبعينات من القرن الماضي، تفشي ظاهرة المناهج التي تختزل البحث الأدبي إلى مجرد تقنيات آلية تديرها المناهج الشكلانية والبنيوية السطحية، بمختلف أنواعها.
أما المجموعة الثانية من المثقفين، فهي فئة المثقف الهاوي، الذي يفتخر إدوارد سعيد بالانتماء إليه، وهو المثقف الجمعي والمستقل نقيض المثقف الاحترافي، الذي يقرن بين الفضاء العام والمجال الخاص، كما يقرن بين المعرفة ومساءلة السلطة، إنه المثقف الذي يصدر في أفعاله عن حب لما يفعل، يصاحب معرفته وموضوع تخصصه بقدرته على طرح الأسئلة الأخلاقية، حتى في صميم نشاطه التخصصي الدقيق، وهو بذلك، يتجشم عناء وتكلفة خروجه وانفصاله عن تخصصه، متوجها بهواجسه وانشغالاته إلى الجمهور العريض الذي يمثله ، مستعملا لبلوغ هذه الغاية، كل وسائط التعبير.
جسد الناقد محمد برادة، في مساره الأكاديمي نموذج المثقف الأنسني الهاوي، الذي لا يضع حدا فاصلا بين تجربته الحياتية ورؤيته الفكرية للعالم، يواجه سؤال الكتابة في أفق المستقبل، ملتزما بما يحدث في وطنه وفي العالم، بعيدا عن كتابة «المحترفين» وإغراءات الطلب بالجملة، يجمع بين برتوكولات المعرفة الأكاديمية وانغماسه في النقاش الدنيوي والتواصل مع الحياة اليومية كما يعيشها الناس خارج الوسط الأكاديمي، وذلك ابتغاء تنشيط طراوة الأسئلة الجادة، لكي تتحول إلى ممارسة ثقافية مشتركة، تربط المعرفة بفاعليها، فمنذ أكثر من أربعة عقود، تحدث الناقد محمد برادة عن بداياته (بعد عودتي إلى المغرب سنة 1960 توزعت اهتماماتي بين الأدب والنضال السياسي، أبشر بأدب جديد، يقوم على أنقاض أدبنا التقليدي شبه المنعدم، يشخص مطامح الجماهير التي ضحت من أجل الاستقلال، ويرسم ملامح «ثورة» أخرى، بها تكتمل الحرية). لقد كتب من أجل تحقيق هذه الغايات النبيلة، مقالات نقدية، أسهمت في بلورة وعي جديد، يتراوح بين سمات ذات طابع (قومي – عربي، واشتراكية متمركسة).
كما عمل الناقد محمد برادة، على تنويع آليات التواصل الثقافي، عندما جعل من وظيفته الأولى في الحقل الإعلامي، مجالا للإشعاع الثقافي، وشارك في تحرير مجلتي ( القصة والمسرح) و (المشروع) وتأسيس «اتحاد كتاب المغرب»، كما أشرف على إدارة مجلة «آفاق»، وقام بإلقاء المحاضرات التوعوية في الجمعيات المدنية الموازية، وكتابة المقالات السجالية في المجلات الجادة «كأقلام» لسان حال المثقفين المغاربة. في سنوات الستينات، وعند التحاقه للتدريس بالجامعة استطاع مع ثلة من زملائه الجامعيين أن يعمل على «تثوير» الجامعة وأن يحدث تحولا ملحوظا في تحديث برامجها، أما على المستوى الفكري، وفي سياق مرحلة كان المغرب ما زال يعيش أصداء المرحلة الاستعمارية وما بعدها، نظرا لحداثته بالاستقلال، استطاع محمد برادة، أن يطرح في تلك الفترة الأسئلة التمهيدية التي ستؤشر لبناء خطاب ما بعد الكولونيالية، وذلك بمعية القاص والمؤرخ محمد زنيبر والروائي الجزائري محمد ديب، من خلال تأليفهم لكتاب مشترك، عن المثقف المارتينيكي – الجزائري فرانز فانون، بعنوان (فرانز فانون، أو معركة الشعوب المتخلفة).
على المستوى العربي، كان يتصدر الساحة الثقافية وخاصة في المجال النقدي، كتاب الباحثين محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس، بعنوان (في الثقافة المصرية)، لكن هذا الكتاب برغم من قيمته الريادية، واعتماده على نظرية (الواقعية الاشتراكية) التي ستهيمن في عقد الستينات، فإنه بقي محدودا في تجاربه المنهجية، لأنه اهتم بالمضمون والمحتوى على حساب (سوسيولوجية الشكل) كما نبه إلى ذلك، الباحث المغربي عبد الله العروي، في كتابه (الإيديولوجية العربية المعاصرة).
لقد استطاع محمد برادة، في أطروحته حول (محمد مندور، تنظير النقد العربي) أن يطبق منهجية الناقد الفرنسي لوسيان كولدمان صاحب المنهج البنيوي التكويني، الذي يزاوج بسلاسة بين الآليات البنيوية في صيغتها التركيبية والفكر الجدلي الماركسي.
في هذه المرحلة تحديدا، عرف الخطاب النقدي منعطفا فارقا، تمثل في وفادة مفاجئة وغير معلنة، اقتحمت الخطاب الأدبي و الحقل النقدي المغربي، ممثلة في المناهج البنيوية الشكلانية التي أقامت أسوارا عازلة، تفصل الأعمال الأدبية عن سياقاتها التاريخية والثقافية والاجتماعية، كما أن هذه المنهجيات التي تشتغل على مستوى البنية السطحية، عملت على تقديس مادة النص الأدبي وتجريد المكون اللغوي من مرجعياته وإحالاته الخارجية، لقد تم استقبال المناهج الشكلانية (سيميائية وشعرية وأسلوبية) بنوع من الاحتفال المبالغ فيه، دون مساءلة مشروعيتها الإبستيمية والفلسفية، إلا من بعض الاستثناءات النقدية المحدودة، لأن الرؤية الغالبة على المنهج الشكلاني في عقدي السبعينات والثمانينات ، كان يطغى عليها نوع من الاعتقاد الراسخ ــــ لدى بعض النقاد الأكاديميين المنبهرين بالنزعة الشكلانية ــــ، بامتلاكها لمعايير الصرامة «العلموية «، التي كان يفتقر إليها الخطاب الجدلي، واعتبرها الباحث السيميائي جيرار جنيت مجرد (نوع من الغرور الذي يطبع النقد الذي يدعي أنه موضوعي، وهو لا يتجاوز كونه شكلا لحكم ذوقي وذاتي)، ولذلك تحولت الدراسات النقدية التي توظف تطبيقات المناهج البنيوية الشكلانية، إلى مجرد رسوم بيانية وجداول رياضية متشابكة، تبعد القارئ المتذوق عن استلذاذ متعة النصوص الإبداعية وقيمتها المعرفية، عندما تتعامل مع النص الأدبي، على أنه وحدة عضوية مستقلة ومادة معزولة عن موقعها وعن جدلية الذات الكاتبة والقارئة، ولذلك تحولت هذه المناهج التطبيقية، إلى تمارين باردة تعمل على تحنيط جثث النصوص، ولقد كان الناقد كليفورد، على حق في قوله «إن وفود النظرية الفرنسية إلى فروع الإنسانيات في الجامعات الأمريكية والانجليزية، خلال الستينات والسبعينات، أدى إلى إسداء هزيمة قاسية، إن لم نقل ضربة قاضية للتراث الأنسني».
لقد عبرت الأوديسة النقدية مع محمد برادة لمسارات عديدة، محصنة بمعادلة متوازنة تحرص على الجمع بين جمالية النص الأدبي ومخزونه الفكري، متطلعا إلى اكتشاف آفاق جديدة، تفتح النصوص الروائية على المبدأ الحواري، وعلى الجوانب التخيلية والمحكيات الشفوية ، واختلاف وجهات النظر وتعدد اللغات، وتربط الرواية بالواقع والتاريخ، وهو ما أدى به، إلى ارتياد أفاق جديدة ومعانقة قضايا «المحلية» و»الكونية « في جمهورية الآداب العالمية والعربية، وعلاقة الرواية العربية بمنجزات الرواية الكونية، والرواية العربية في سياق مابعد الكولونيالية.
تتمثل أزمة النقد المغربي تحديدا والثقافي عموما، منذ فترة صعود المد البنيوي، في مفارقة سرير بروكست، المتجلية في الفصل بين جسد النص وأطرافه، بين ألأبنية اللغوية والظروف السياقية المجتمعية، والتي برزت بشكل متضخم في الأطروحات الجامعية، التي بالرغم من الكفاءة «العلمية» لبعض محرريها، فإنها أدخلت الخطاب النقدي في طريق مسدود، لا يستطيع الناقد المغربي، أن يتطلع معه إلى خارج الأسوار البنيوية وأن يتحرر من قيود المنهجية الشكلانية الرتيبة، التي شلت عند الناقد الأدبي كل رغبة للانفلات من هذا السياج الدوغماتي، لكي يتواصل ويشارك في وضع الأسئلة الجديدة المرتبطة بالخطابات البعدية، أو بعموم النظريات «المابعديات».
لقد انتشر الحراك البنيوي أولا، داخل شعب «المناهج الأدبية»، قبل أن تنتقل عدواه إلى باقي مناهج العلوم الإنسانية الأخرى، ومن هنا، كانت آثاره سالبة على المشهد الثقافي عموما، وعلى مآل البحث العلمي بالجامعة المغربية، وعم الكسل الفكري والسياسي مجال الاجتهاد الإيديولوجي والسجال النظري، وتجلى ذلك، بوضوح أكثر، في الأبحاث النقدية التي صارت تنشر بكثرة في المجلات «المحكمة» دون مقصدية هادفة، كما تراجعت معها أسئلة الحداثة المستنيرة وغياب الطليعة الأدبية وصمت الشعر أمام تقدم السرد، و جدوى الأدب والأدب في خطر، وصعود دور الذات في السيرة الذاتية أمام الإدعاء المزعوم «بموت الإنسان»، الذي تبناه الخطاب البنيوي، المتواطئ مع الأطروحات المعادية للنظريات الأنسنية عبر الترويج لبعض المواقف المابعد الحداثية الرافضة لسرديات التنوير والتحرير.
لقد دخل النقد المغاربي في سبات شتوي طال أمده، وهذه الخاصية المشتركة بين دول المغارب توحي بالتبعية لمؤسسة النقد الجديد بفرنسا التي أصيبت بدورها بالشلل المعرفي، بعد رحيل رواده أمثال رولان بارت وفوكو ودريدا، لكن الوضع كان مختلفا في الثقافة الأنجلو-سكسونية التي استطاعت المزاوجة بين المنظورين المتكاملين، بين استيعاب التقنيات التي يقدمها المنهج البنيوي وتلقيحها بأبحاث منظري مابعد الماركسية أمثال، هوغارت ورايموند وليامز ومايكيل هاردت وأنطونيو نغري وجورج لوكاتش والتوسير و أنطونيو غرامشي وهنري لوفيبر وبيير ماشري، لينتقل الخطاب النقدي إلى آفاق رحبة، بسعة الدراسات الثقافية التي عرفت انتشارا واسعا داخل دول أمريكا اللاتينية و إفريقيا الناطقة بالانجليزية وفي المراكز العلمية الكبرى بانجلترا والولايات المتحدة الأمريكية، التي مالت الدراسات الثقافية فيها إلى أن تصبح وريثا للنظريات التفكيكية والنسوية وحركة مابعد الكولونيالية والتاريخية الجديدة، بينما بقي النقد المغاربي الذي لم يحدث القطيعة مع ماضيه البنيوي الشكلاني، حبيس شرنقته المنغلقة منهجيا على ذاتها، ولم يستطع أن ينتقل إلى عتبات الدراسات الثقافية التي توجد إلى جانب اختصاصات متعددة، تتعلق بالقرب مع الدراسات الأدبية وعلوم الأنثربولوجيا والاجتماع والتاريخ والنظرية السياسية.
لكننا أخطأنا الموعد مع نواميس تاريخ الفكر الأدبي، إنني لا أقلل من قيمة الفكر البنيوي عموما، لكن من أجل تلافي أزمة الخطاب النقدي التي مازالت تتجذر، كان حريا بالنقاد البنيويين المغاربة، من أجل إنقاذ مسارات الثقافات المغربية من ضياعها، ولكي يستعيد النقد الأدبي حيويته، أن يتبعوا الموقف التاريخاني الذي دعا إليه الأستاذ عبد الله العروي إزاء الدعوة الليبرالية، وضرورة استيعابها تمثلا، للوصول إلى معانقة الفكر الاشتراكي، وذلك بالمقايسة وإعادة صوغ جديد للسؤال التاريخاني الذي مازال وقعه مستمرا، هو كيف كان بإمكان النقد المغربي في تلك الفترة من وفادته، أن يستوعب مكتسبات التحليل البنيوي ــــ قبل وبدون أن ينخرط أو يعيش تطبيقيا الممارسة البنيوية ــــ التي استغرقت الممارسة النقدية، دون الحاجة الضرورية إليها، أعتقد أن طرح هذه الفرضية المنهاجية اليوم، يوحي بأنه ما زال في حجرة الدرس أمل يرتجى.

ملاحظة: الشواهد المذكورة لإدوارد سعيد مقتبسة من كتابي الأنسنية والنقد الديموقراطي، ترجمة فواز طرابلسي.
1) الآلهة التي تفشل دائما، ترجمة حسام الدين خضور.


الكاتب : أنور المرتجي

  

بتاريخ : 22/09/2017

أخبار مرتبطة

روني شار يقول بأن على الشاعر أن يستيقظ قبل أن يستيقظ العالم لأن الشاعر حافظ وجوه الكائن اللانهائية.شعراء أساسيون مثل

رَفَحْ جرحٌ أخضرُ في مِعْصم غزَّةَ، وَنَصْلٌ في خاصرة الريحِ. ماذا يجري؟ دمُ عُرسٍ يسيلُ أمْ عروسُ نِيلٍ تَمْضي، وكأنَّ

– 1 – هل الرمز الشعري الأسطوري ضروري أو غير ضروري للشعر المغربي؟ إن الرمز الأسطوري، اليوناني، خاصة، غير ضروري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *