سعيد منتسب والقصة القصيرة جدا

1/ في إطار تجريب إمكانية القصة القصيرة على التعبير عن الواقع وعن الذات، يجرب الكتاب المعاصرون صيغا مختلفة، بعضها تقليدي مرتبط بالحدود القصوى للفن القصصي، وتجارب أخرى ارتأت خوض المغامرة بالبحث عن صيغ مختلفة فيها كثير من التضحية بالعناصر المكونة للقصة القصيرة؛ منها التجريب على القصة القصيرة جدا، فما هي الخصائص الفنية التي تمنح القصة القصيرة جدا فرصة الاختلاف، وبالتالي الإضافة وصفة الإبداع والتجريب القصصي ؟
من خلال العديد من النماذج نستشف الخصائص التالية:
الاقتصاد والتقتير في عنصر أحداث.
اختزال الفعل القرائي والتركيز الزمني.
المواقف الانفعالية وردود الأفعال الفجائية.
أساليب الاستفهام.
أساليب التعجب.
تحفيز القارئ على المشاركة الفعلية في بناء النص.
اللعب على مخالفة توقعات القارئ.
المفارقة، خاصة في الحدث الحتامي، أو الحل.
2/ الاقتصاد اللغوي تعبير مستوحى من الدراسات الحديثة للغة الشعر، ولعل القصة القصيرة والقصيرة جدا وجدا فيه ضالتهما. خصوصا أن القصة القصيرة جدا تنحو جهة القصة الومضة على غرار القصيدة الومضة التي تلمح ولا تخبر، وتضحي بالتواتر والتوالي في الأحداث لحساب الطفرات والتشبيه والإيحاء. التي يكملها خيال القارئ الواسع والمتعاطف، القارئ المشارك في صنع الحلول النهائية للقصة القصيرة جدا.
3/ الاختزال والتركيز الزمني، دعوة إلى تجنب التعاقب في الأحداث. واختيار البعد الزمني الثالث، أو البعد الزمني الذاتي الخفي والباطني. حيث تعيش الشخصية القصصية كثافة في الشعور لا يمكن قولها في مجال نصي ضيق.
4/ المواقف الانفعالية تسمح للذات بالدخول إلى العالم الدفين. سواء أكان الذاكرة أو النفس، والمشاعر. ولعل هذا الملمح رئيسيا في كتابة القصة القصيرة جدا. لأن الأحداث التي لا تتنامى حتى تطور الأحداث وتوسع من حجم القصة تفسح المجال للخيال الذي يجنح في الآفاق البعيدة حيث تزول الحدود بين القصة والتقنيات الأسلوبية والكتابية في الشعر.
5/ الأساليب اللغوية، ومن خلال القصة القصيرة جدا تبرهن على أنها ليست قوالب جافة خالية من الدلالة. ولهذا نجد أساليب الاستفهام والاستنكارية منها خصوصا، التي لا يتوقع منها القارئ والكاتب جوابا على اعتبار أن الجواب لا يرقى إلى قيمة المفاجأة التي يحدثها السؤال في نفس المتلقي. والارتباك وسوء الظن والتوقع، حيث تفتح آفاق جديدة أمام القارئ للتأويل والمشاركة. كما أن تلك الأساليب في الاستفهام والتعجب والتوجع والاستعظام والتأوه تتيح للقارئ إمكانية الدخول إلى أجواء النص القصصي. وبالتالي المشاركة والمساهمة في بناء المعنى القصصي والإحساس بالحيوات المتخيلة والافتراضية.
6/ المفارقة، تقود القصة القصيرة جدا إلى ناحية الأحدوثة والحكاية /الوشاية. وليس الحكاية /الخبر. فالمفارقة في القصة القصيرة جدا نوع من أسطرة الواقع والأحداث. نوع من الابتعاد بالقارئ عن الجديدة المفتعلة. الجدية التي تبنتها الكتابة القصصية الطبيعية وقد جعلت من النص القصصي والسردي عموما معادلا موضوعيا للواقع والتاريخ. وجعلت من الشخصية القصصية صورة منسوخة عن الإنسان الطبيعي في الواقع والحياة. كما أوضحنا في دراسة قصص المرحوم محمد زنيبر «خطوات في التيه». وهنا مكمن الخلاف في التوجهات القصصية المغربية المعاصرة. والتي سبق أن أطلقنا عليها الكتابة من الخارج أو الرسم بالكلمات، والكتابة من الداخل، حيث تتوغل الذات الكاتبة في أدغال النفس ومسارب الذاكرة.
7/ هذه الملامح ليست نهائية ولا منفصلة بل متداخلة ومتحولة. فإذا درسنا القصص القصيرة جدا لرياض الأمير أو إلياس عنتر، أو قصص سعيد منتسب، وقبله المرحوم المهدي الودغيري، وقبلهما إبراهيم بوعلو. ماذا نجد ؟ سنجد القصاصين وقد اختلفوا من حيث الجيل واتفقوا في الجنس القصصي، قد ركزوا على العناصر الأساسية المشار إليها أعلاه: الاقتصاد والاختزال والنهاية الفجائية والمفارقة والسخرية وسوء التوقع والاعتماد على مشاركة القارئ النبيه والمساهم في بناء العوالم المتخيلة.
من حيث الموضوع تختلف كذلك القصص القصيرة جدا فبعض القصص ركزت على الموقف السياسي المفارق، كما عند إلياس عنتر. وركزت باقي القصص القصيرة جدا الأخرى على المواقف الاجتماعية وتبدل القيم بين أفراد المجتمع.
8/ سعيد منتسب في مجموعته القصصية «جزيرة زرقاء» يكتب مستفيدا من التقنيات الأسلوبية العامة في كتابة القصة القصيرة جدا. أما في الموضوعات المعبر عنها فإننا يمكن التمييز بين حزم مختلفة جاءت متواترة ويمكن اعتبارها نصوصا موحدة من حيث الفضاء الإبداعي والتخييلي. وكأنها كتبت في لحظة أو لحظات متقاربة. ومن تلك الحزم الموضوعاتية في «جزيرة زرقاء» الآتي:
علاقات اجتماعية وعاطفية وزوجية.
مشاغبات الطفولة والمدرسة وهموم الطفل.
اليتم والشعور القوي بالإهمال.
طاقة الخيال والحياة داخل الذاكرة والنفس والشعور.
علاقات اجتماعية وعاطفية وزوجية (تؤطر الكتاب).
9/ موضوعة الطفولة ليست جديدة على كتابة سعيد منتسب. فقد تجلت بوضوح كاختيار في مجموعته الأولى «تشبه رسوم الأطفال»، وهي تساعده على استثمار إمكانية التخييل الواسع وأسطرة الواقع والأحداث والأفعال. لكن الأعم الأغلب في المجموعة القصصية «جزيرة زرقاء» موضوع العلاقات الاجتماعية والعاطفية والزوجية الخطيرة التي تمسخ الإنسان وتقزمه وتحد من طموحه في الحياة.
تمتد قصص الأطفال القصيرة جدا، على التوالي من قصة «برتقالة» إلى قصة «خدوش». وترد أخرى متفرقة. لذلك بدت لنا المجموعة القصية عدة مجاميع وحزم وألياف. يوحدها موضوع واحد. وقد سلف الذكر. والطفولة بفضولها ومعاناتها وشغبها تفترض السؤال والاحتجاج، وتفترض مجالا، المدرسة والشارع.
أما القصص الاجتماعية والعاطفية والزوجية فإنها تقوم على التحول والمفارقة. علاقات حامية تنتهي إلى جبل من الثلج. كما في أقصوصة (جبل الثلج). تقول الأقصوصة:» ينامان فوق نفس السرير. بينهما جبل من ثلج. كان كالبركان. كانت كالبركان. أنجبت جوقة أطفال. أدمن الحشيش واللعنات. لم تنفع المداعبات. لم تنفع الهمسات. انطفأ. انطفأت. الأطفال يكبرون، يتراكمون. جبل لثلج يكبر، يتكاثر. تنام فوق السرير. ينام تحت السرير. ينامون في كل الجهات». ص (10).
هذه من بين أجمل القصص القصيرة جدا الممتلئة بالمعاني. وتكاد تعادل دراسة في العلاقات الزوجية والعاطفية التي لا تتنبه لمزالق العادة ورتابة الوقت، وآلة الزمن، وتفاهة اليومي. وتكاد تكون ملخصا شديدا لرواية اجتماعية، في التربية العاطفية.
ومن القصص القصيرة جدا والجميلة في موضوع الطفولة والمدرسة، أقصوصة (الفنان). تقول الأقصوصة:» الامتحان على الأبواب..
طلبت منهم معلمة الفرنسية أن يستوعبوا أنواع الأفعال..أن يتعقبوا أزمنة الصرف..أن يحسنوا الإملاء والحساب..أن يحفظوا ويستظهروا..أن يبرعوا ويجتهدوا.
كانت صارمة. كانوا خائفين. أمعنت في الشرح، أمعنوا في الانتباه. أما هو..فقد ضبطته يرسم وجهها..
حفر فيه ابتسامة عريضة بجناحين. لا تحمل عصا. لا تحمل نظارات. لا تصدر أوامر. لا تمنح أصفارا. تحمل قلبا كبيرا…وأمنيات.
اقتربت منه..طبعت على وجهه قبلة..منحته لقب…الفنان». ص (18).
اختيار هذين النموذجين للقصة القصيرة جدا يبين أن القصة القصيرة جدا لا تختلف عن أية نص سردي آخر. فلها موضوعاتها الخصوصية ويمكنها أن تعالج القضايا اليومية كما يمكنها أن تخوض في القضايا التربوية والأخلاقية والسياسية. لكن قصص سعيد منتسب تنزاح عن القضايا السياسية وسجالها، باستثناء أقصوصة بعنوان (حدائق) تصور المداهمة والاعتقال. لكنها تكتفي بالقضايا الأساس في المجتمع. أما أسلوبها فقد وقفنا عنده أعلاه.
في هذا المجموعة أقاصيص كثيرة موفقة، دلاليا وفنيا. وفيها اجتهاد غايته التنويع على جسد القصة القصيرة. وفيها ميل إلى الاختزال والاقتصاد والقصد رأسا إلى الموضوع والغاية. والقصص القصيرة جدا يمكنها أن تنهل من تجربة الأحدوثة الشفهية، والنكتة. وهما خطابان لهما من القوة على التأثير في نفسية المتلقي الشيء الكثير.
لهذا تميل الأقصوصة إلى استغلال الحالات الباطنية للشخصية القصصية، وردات الفعل الانفعالية.إنها القصة «الومضة» التي تنبني على المفارقة، وسوء التوقع، والنهاية المفاجئة. وهي كذلك الأقصوصة «المربية»، والأقصوصة «المصلح» التي ترصد الحالات في ضديتها وفي توافقها. إنها أقصوصة تسع كل المواضيع، وكل الانفعالات. وتصلح أن تكون ديوانا يتألف من أقاصيص قصيرة جدا مترابطة فيما بينها أسلوبا وموضوعا. ورغم قصرها تبدو لنا إمكانياتها الخطابية وفيرة وفي حاجة إلى التطوير الدائم والاستثمار النافع والفعال.
10/ القصة القصيرة جدا نوع أدبي لا يختلف في قضاياه عن الأنواع الأدبية المبتكرة والمتفرعة عن أصول فهو يأخذ الكثير من أصوله الحكائية، ويختلف عنها في خصوصيات التكثيف اللغوي، أو الاقتصاد الشعري، الكناية والتشبيه، والترميز والإيحاء بدل الوصف والاستغناء عن الحوار لأنه يفجر حجم النص، يخرجه من الرهان الأساس للقصة القصيرة جدا التي تسعى إلى قول الكثير في حدود الألفاظ القليلة، أي الإيجاز.
ويمكن اعتبار القصة القصيرة جدا كفرع إلى جانب القصة والحكاية الشفهية والرواية الشعبية كأصل، كالقزم أمام العملاق فكلاهما يتمتع بالخصائص ذاتها، والمكونات الأساس (الأعضاء) لكن يحتاج الناظر إلى العملاق إلى وسائل لتقريب البعيد، بينما يحتاج الناظر إلى القزم إلى أدوات التكبير حتى يكتشف الخفي والدقيق قد لا يكون التشبيه بليغا لكنه يوضح المعنى المقصود.
ما هي القضايا التي يمكن أن تطرحها القصة القصيرة جدا ؟
على مستوى المضامين فقد بينا كيف أن القصص القصيرة جدا يمكنها تناول جل القضايا الأساس والعميقة، وحتى القضايا الكبرى، التربية، الخلاق، الحرية، العدل، الخير، الشر، الفضيلة،،،لكنها عند سعيد منتسب تميل إلى العلاقات الاجتماعية، وقضايا الطفولة اختياران يرجعان إلى الكاتب فهو يرى أن الموضوع يستحق الدرس ويستحق التنبيه والإشارة إلى خطورته، إلى الخلل الكامن فيه فيعبر بالتشبيه والتلميح، وبالمواقف المفارقة والساخر. وكذلك فعل رياض الأمير عندما ركز على تبدل القيم داخل المجتمع، وبأن «المشكلة ليست في الناس ولكنها في الناس» أي أن مصدر القضايا الصغرى والكبرى هم الناس أعينهم. أما إلياس عنتر فقد ركز على موضوعات تلميحية تنتقد المشكل السياسي. ليس تبدل القيم بل تصارع القيم، وتضارب المصالح والأطماع والخضوع لسلطان المال واللسان والبطن والجمال.
أما من حيث الشكل فقد أبرزنا أهم الخصائص التي تبدت لنا في مجموعة من القصص القصيرة جدا، كالتركيز على الحدث أو الفكرة، مباشرة الحكاية أو تأويلها وتحويلها إلى كناية أو استعارة كبرى، غياب الحوار. غياب الوصف الخارجي للشخصية. غياب الشخصية وحضور ظلها المتحدث عنه…
ومن القضايا التي تطرحها القصة القصيرة جدا قضية الكتاب. فهل يضم الكتاب قصصا قصيرة جدا متسلسلة تعتمد على وحدة الموضوع، واطراد الصيغ وأساليب التعبير الخطابية ؟ أم يضم الكتاب قصصا قصيرة جدا مختلفة تستقل كل واحدة عن الأخرى موضوعا وأسلوبا وصيغة ؟
إن القضية المطروحة على الحكاية القصصية القصيرة جدا هنا تكمن في اختيار استراتيجي، وقد يجعل منه قصصا ومشاهد متلاحقة. لعل القرب إلى النوع الجديد هو استقلال القصص القصيرة جدا عن بعضها حتى لا تتحول القصة إلى قصة طويلة أو رواية في مشاهد وحلقات. ويمكن أن يتفرع حسب هذه القضية النوع الأدبي إلى أنواع صغرى، كالقصة القصيرة جدا. والقصة القصيرة المشهدية (نسبة إلى المشهد أو اللوحة)، أو قصص قصيرة جدا بالجمع. لأن الكتاب يضم عددا من القصص المستقلة بذاتها.
إنها قضية سطحية لكنها أساسية في تحديد أساليب الاشتغال، وكيفية التلقي، وطرائق ومناهج الدرس. وبالتالي تحديد طبيعة النوع الأدبي. هل هو مبتكر له حدوده قبل الثورة عليها، أم هو تنويع على نوع أدبي آخر موجود سابقا ؟
وقد تنوب علامات الترقيم عن الروابط وعن التنامي الخطي. وكذلك ترتيب الأشياء بدل سردها. مثل:» وقف أمام الشاهد. التراب ناشف. الأعشاب عطشى. تداعت أنفاسه الحارة بين الريح والذاكرة. ضرب بحذائه الهواء الشاغر وخيبات الجموح ومغارات الوهم…». ص (52).
يخلص سعيد منتسب لأصل القصة القصيرة جدا. وأقصد طبعا الطابع الشفهي للحكاية. فالقصة القصيرة جدا ذات الطابع المفارق والنهاية الغرائبية قريبة جدا من الحكاية العجيبة والشعبية، لأن الحكاية الشعبية والعجيبة تقومان على مفارقة الواقع. والأفعال الغرائبية. وهذه الظاهرة بارزة في عدد من القصص القصيرة جدا لسعيد منتسب. وترتكز في نهاية القصص كالتالي:» طابت منها المعلمة أن ترسم حيوانا أليفا. رسمت قطة بفرو أبيض ناعم ومخالب طويلة. طلبت منها أن تطعم القطة. رسمت فأرا صغيرا. تحركت القطة. قفز الفأر. ارتمت عليه..كان الوجه حلبة صراع». ص (27).
هذا النموذج يخلص للاختيار الموضوعاتي، وللفضاء الذين آثر منتسب الكتابة ضمنهما. أي فضاء الطفولة والمدرسة. لكن الأحداث تنبو عن الواقع، وتفارقه. وإن كانت تحيل على الحكايات «الكارتونية» وهي حكايات عجائبية خارج منطق المعقول، وشخصياتها (ظلها) خارج الشروط الإنساني والواقعي.
لقد اعتمد سعيد منتسب في مجموعته القصصية على الجمل القصيرة، وعلى التخفيف من الروابط (أدوات العطف، والضمير العائد)، واعمد على علامات الرقيم للإشارة إلى المعنى المقصود والإحالة. أما البطل والشخصية القصصية فغير موجودين بل ينوب عنهما ظلاهما، ويتكفل الراوي بسرد الوقائع في صورها المتقطعة. قفزات. وضع عناصر في مكانها لتتكلم عن نفسها. الحوار عبارة عن جمل متقطعة تكون حافزا على جنوح خيالي.

المصدر:

منتسب، سعيد: جزيرة زرقاء. منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب. ط1. 2003م.


الكاتب : محمد معتصم

  

بتاريخ : 23/02/2018

أخبار مرتبطة

روني شار يقول بأن على الشاعر أن يستيقظ قبل أن يستيقظ العالم لأن الشاعر حافظ وجوه الكائن اللانهائية.شعراء أساسيون مثل

رَفَحْ جرحٌ أخضرُ في مِعْصم غزَّةَ، وَنَصْلٌ في خاصرة الريحِ. ماذا يجري؟ دمُ عُرسٍ يسيلُ أمْ عروسُ نِيلٍ تَمْضي، وكأنَّ

– 1 – هل الرمز الشعري الأسطوري ضروري أو غير ضروري للشعر المغربي؟ إن الرمز الأسطوري، اليوناني، خاصة، غير ضروري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *