سيدتان من الشيلي ، علامتان من العالم!

 

ماريا كوداما..
رفيقة درب بورخيس

في سن الـ 81 عاما، مازالت ماريا كوداما، أرملة الكاتب الارجنتيني الشهير خورخي لويس بورخيس، تبدو مفعمة بالحيوية والنشاط، تحرص على رسم ابتسامة دائمة على ثغرها تزيد ملامحها الأسيوية بهاء ونضارة كلما تقدم بها العمر، ابتسامة تمتحها من رحيق تجربة الحياة التي عاشتها إلى جوار رفيق دربها وعملاق الأدب الأمريكي اللاتيني، الذي خلدت ذكراه من خلال إحداث مؤسسة دولية ترأسها هي وتحمل اسم هذه القامة الأدبية العالمية.
إلى إحدى المقاهي وسط العاصمة بوينوس أيريس، جاءت ماريا كوداما مسرعة وقبل حلول الموعد المحدد، وذلك من شدة حرصها على احترام مواعيدها رغم زحمة الأجندة التي تباشرها هذه الجامعية والأديبة والمترجمة.
ما أن أخذت مكانها وطلبت قهوتها المعتادة المصحوبة بقطعة ثلج، حتى باشرت حديثها لوكالة المغرب العربي للأنباء، قائلة إن «هناك بعض الأشياء التي تأبى النسيان وهنا أستحضر زيارتنا أنا وبورخيس إلى المغرب وتحديدا إلى مراكش في ثمانينات القرن الماضي، ما زلت أذكر الزيارة بكل تفاصيلها.. وكم كان يستهوينا الجلوس إلى إحدى المقاهي التي لا تبعد عن ساحة جامع الفنا الشهيرة لنرهف السمع لصوت المؤذن وللأصوات الطالعة من هنا وهناك والتي يختلط فيها كل شيء لتذهب بخيالنا إلى أبعد الحدود.. إنه أمر رائع ومثير للإعجاب».
وتضيف كوداما، ابنة الكميائي الياباني، يوسوبورو كوداما وعازفة البيانو، ماريا أنطونيا سشويزر، ذات الأصول الاسبانية والالمانية، أن بورخيس كان كثير الاعجاب بحضارة وثقافة البلدان العربية ومن بينها المغرب، وكثيرا ما كان يحتفي بهذه الثقافة في كتاباته خاصة في قصة «لوس دوس رييس إي لوس دوس لابيرينتوس» (الملكان والمتاهتان) المضمنة في مؤلفه الشهر «الألف»، حيث يطلق بورخيس العنان لعبقريته لنسج حكاية بديعة يتجلى فيها ذلك الاهتمام الفريد من نوعه الذي خص به الأدب والتراث العربيين.
وفي لعبة نبش الذاكرة، تعود كوداما لتغوص في تفاصيل قصة عاشتها في سن الخامسة عندما كانت أستاذتها تقرأ قصيدة لبورخيس يقول في أحد أبياتها «يمكنني أن أمنحك وحدتي وعتمتي وجوع قلبي»، وهنا، تقول كوداما، «استوقفتني العبارة الأخيرة فسألت الاستاذة عن معناها لتجيبني قائلة عندما تكبرين ستعرفين ماذا يعني «جوع القلب».. وبعد أن كبرت عرفت أن «القلب الجائع» هو الذي «لا ينبض حبا» ولكني لم أكن أعلم أن هذه القصيدة هي لمن سأقضي معه أياما من أجمل أيام العمر.
بعدها، وفي سن العاشرة «كنت قد بدأت أقرأ قصة «لا رويناس سيركولاريس» (الأطلال الدائرية) وهي القصة التي أسرتني إلى درجة أنه إلى غاية اليوم، وإن تم إقرار قانون يرغمنا على حرق جميع أعمال كتاب العالم مع الاحتفاظ بواحدة فقط، فسأختار من دون تردد هذه القصة التي كتبها بورخيس في ظرف أسبوع، وأبدعها، بكل استطاعة لم تتحقق من بعدها في أي من أعماله الأخرى»، وهذه الكثافة والقوة، تستطرد كوداما، هي التي نقلها بورخيس إلى فتاة كان عمرها عشر سنوات ليكون قدرها أن تظل معلقة بهذه القصة وإلى الأبد.
وفي سردها لتفاصيل اللقاء الأول والمباشر والذي جاء صدفة تحكي أنها كانت تتجول بشارع فلوريدا وسط بوينوس أيريس، فوقع بصرها على بورخيس وهو يهم بمغادرة إحدى المكتبات فقالت له قرأت الكثير من القصص التي كتبتها عندما كنت صغيرة ليجيبها بورخيس والآن كبرت ماذا تفعلين؟.. وعندما أخبرته بأنها طالبة في الثانوية بادرها بالسؤال إن كانت مستعدة لتدرس الإنجليزية القديمة.
وتضيف كوداما أنها ردت عليه إن كان يقصد أنجليزية زمن شيكسبير، فقال لا بل أقصد الانجليزية السائدة في القرن التاسع ليكون جواب كوداما أن ذلك سيكون صعبا. و»بنبرة ثبات طمأنني بورخيس أنه يقترح أن ندرس ذلك معا لتبدأ منذئذ قصتنا وتتكرر اللقاءات من مقهى إلى آخر ببونوس أيريس حتى أخبرني يوما أن أمه ترى أنه ليس هناك سببا لنظل نجوب المقاهي من أجل دراسة الانجليزية القديمة، فالمنزل سيكون مكانا أفضل».
وفي جلسة البوح هذه، تكشف أرملة بورخيس أن أكثر ما كان يثير إعجابها في زوجها الراحل هو تلك القدرة الاستثنائية التي كان يملكها وتجعله يتذكر تفاصيل أحلامه حينما كان يلقي بنفسه صباحا داخل حوض الحمام ليبدأ متاهة البحث عن تلابيب حكاياه التي دوخ بها العالم وأحيانا كان يغض الطرف عن بعضها في انتظار حلم جديد، تضيف كوداما إنه «بورخيس المتفرد حتى في أحلامه».
وتعترف كوداما التي ترأس «المؤسسة الدولية خورخي لويس بورخيس» أنه من الصعب للغاية تولي مسؤولية السهر على الحفاظ على الإرث الكبير الذي خلفه كاتب عملاق من طينة بورخيس، مبرزة أنه من خلال المؤسسة التي أنشأتها سنة 1988 يتم بذل جهد كبير للتصدي لما قد ينسب افتراء إلى بورخيس كما حدث على سبيل المثال مع قصيدة وصفتها بأنها «ضرب من العبث» وكرست ثمان سنوات من حياتها بحثا عن النسخة الانجليزية الأصلية إلى أن وجدتها وعرضت الأمر على القضاء ليتم في نهاية المطاف سحب القصيدة المفتراة، لأن نشرها كان لأغراض تجارية ليس إلا.
وعن المرأة ترفض كوداما، التي لا تكل من التجوال عبر العديد من المدن والعواصم لإلقاء محاضرات حول أعمال بورخيس، ممارسة أي حيف يبخسها قدرتها على فعل كل ما يقوم به الرجل وتصر على أن المرأة الذكية هي التي تستطيع أن تجد المعادلة بين الحرية والمسؤولية وحدود البرزخ بينهما. فبالنسبة لكوداما التي تتقن كثيرا من اللغات والتي مازالت إلى اليوم تواصل تعلم لغات جديدة ومن بينها العربية، فإن الحاجة إلى القراءة ملحة اليوم أكثر من ذي قبل، لأن ذلك برأيها يشكل مفتاحا يمكن من ولوج عوالم لا يمكن أن يلجها المرء إلا عبر الأدب، «فطريقة الوصف التي يختارها الكاتب لشخصية ما ستتقاطع لا محالة مع واقع القارئ، بل الأكثر من ذلك ستكون القراءة بمثابة نبراس ينير الطريق وينقذ صاحبها من التيه والضلال».
ولذلك فإن الأدب الذي يسكننا بكل هواجسه ليس إلا رافدا من روافد منظومة الثقافة التي بمقدورها أن تبدد المسافات وتملأ من الفجوات أعقمها لتكون بحق همزة وصل أساسية بين شعوب العالم على اختلاف ثقافاتهم ولغاتهم، تردف أرملة الراحل بورخيس. أما الترجمة التي جربتها كوداما في عدد من أعمالها، فتعتبرها من أعسر الممارسات الفكرية ولكن وجهها الايجابي يتجلى عندما تصل إلى قراء آخرين من أماكن لم تكن لتخطر على بال الكاتب عندما كان يبدع مؤلفاته، مبرزة أنه لا ينبغي أن نبخس العمل الترجمي حقه وننظر إليه بدونية فهناك من المترجمين من استطاع بحرفية أن يتجاوز في ترجمته حتى النص الأصلي نفسه.
وجوابا عن سؤال حول عدم منح بورخيس جائزة نوبل للأداب، كشفت كوداما أن ذلك كان لأسباب سياسية صرفة، إذ بسبب مواقف بورخيس الذي كان لا يروقه لا اليسار ولا اليمين، وبسبب مبادئه التي لم يكن يقبل التنازل عنها كما حدث عندما تلقى مكالمة هاتفية من ستوكهولم لثنيه عن القيام بزيارة إلى الشيلي التي كانت تعيش زمن الدكتاتورية، قال جملته الشهيرة لمخاطبه عبر سماعة الهاتف «ما لا يمكن أن يقبله المرء هو أن يكون راشيا ومرتشيا».
كلما أتى بورخيس على ذكر جائزة نوبل إلا ويقول أتمنى ألا أحصل عليها أبدا لأنه إذا ما منحوني إياها فسأكون رقما إضافيا على لائحتهم، أما والحال غير ذلك، فسأظل الأيقونة التي لم تتوج بالجائزة وهو ما سيجعل اسمي خالدا، تقول كوداما التي تواصل حرصها على صون إرث بورخيس للأجيال القادمة حتى وهي في أرذل العمر.

أنا فانديدي سانتونيوني و ماريا كوداما

منذ مغادرتها لبلدها الأم ايطاليا للاستقرار في الشيلي، وأنا فانديني سانتونيوني تشكل مصدر إلهام حقيقي بالنسبة للالتزام بقضايا المرأة، حيث اقتحمت هذه الباحثة الأكاديمية مجالات مختلفة كانت في السابق حكرا على الرجال كعلوم الأديان والأنثروبولوجيا.
وفي الفصول الدراسية بالجامعة الكاثوليكية بمدينة كوكيمبو الشاطئية الهادئة بشمال الشيلي، أنا، كما يناديها الجميع، امرأة مليئة بالحيوية تتقاسم خبرتها مع محيطها وتخلق أجواء ايجابية تجعلها ذات شخصية محبوبة لدى الجميع.
وفي مكتبها، تتعامل مع العديد من طلبتها القدامى الذين باتوا حاليا زملاء لها في المهنة، و»هذه فرحة لا توصف، تقول أنا فانديدي في تصريح لوكالة المغرب العربي للأنباء، سواء بالنسبة إلي أو بالنسبة إليهم».
وتضيف «في الشيلي، أشعر أنني في بلدي، على الرغم من أني أواصل زيارة مسقط رأسي بايطاليا مرة واحدة كل سنتين، لتفقد أحوال عائلتي»، وتقدم أنا فانديدي في الشيلي دروسا في اللغة الايطالية لطلبتها كما تعمل على تنظيم زيارات ثقافية لفائدتهم نحو العديد من بلدان العالم. وخلال واحدة من هذه الزيارات تعرفت أنا فانديدي على المغرب، «البلد الرائع، والثقافة الغنية، والتقاليد التي أعادت إلي ذكرياتي بمسقط رأسي»، قبل أن تستطرد قائلة إن الأمر «الذي شدني أكثر من غيره للمغرب هو المدينة القديمة، ففي كل مدينة، جزء قديم يزخر بكنوز معمارية وتقاليد فضلا عن طيبوبة المغاربة الذين يستقبلون الزائرين بكرم وود كبيرين». وعادت في حديثها إلى اللحظات التي لا تنسى التي قضتها بالمغرب، البلد الذي، تعتبره «متفردا في كل شيء».
وعلى غرار الكثير من الشيليين، تعرفت هذه الباحثة الجامعية على المغرب، بفضل المركز الثقافي محمد السادس لحوار الحضارات، وهو الصرح الذي يعكس غنى وتنوع الثقافة المغربية ليس بالشيلي فحسب، بل بعموم بلدان أمريكا اللاتينية.
ويحظى المركز الثقافي محمد السادس لحوار الحضارات، الذي شيد سنة 2007 فوق تلة تطل على مدينة كوكيمبو الساحلية الهادئة، بقيمة رمزية كبيرة و بترحيب كبير من قبل ساكنة المدينة، فهو بمثابة منارة و فضاء للثقافة المغربية في الشيلي وباقي بلدان القارة، يحرص على ربط الجسور من خلال العديد من الأنشطة التي دأب على تنظيمها بما فيها التظاهرات الثقافية والفنية، وتعليم اللغة العربية، بالإضافة إلى تعزيز القيم العالمية للسلام والإنسانية.
وبفضل عملها، باتت الأستاذة أنا فانديني، التي تتمتع بشخصية كاريزمية وودودة، مدافعة عن دور المرأة في العصر الحديث وعن المساواة بين النساء والرجال.
وتقول في هذا الصدد إن تحرير المرأة لا يعني بأي شكل من الأشكال تقليد النمط الذكوري في الحياة، وإنما المسألة ببساطة هي شعور المرأة بالفخر لكونها


بتاريخ : 12/03/2018