صحابة اتهموا بالكفر وعلماء بالزندقة 50 : الجاحظ: المعتزلي «الضال عن علم»!

وكان موقف الجاحظ من صحابة الرسول الرفض في القول بأنهم في مكانة أعلى من البشر، بحيث لا يحق لأحد أن يفعل النقد في أفعالهم ويقيمها، فهو يرى أن من حق المؤرخ أن يتناول أعمالهم بميزان العقل، لأنهم بشر كالبشر يخطئون ويصيبون، وليسوا ملائكة، وإذا كانت صحبتهم للرسول تعطيهم حق التوقير فإن هذه الصحبة نفسها تجعل المخطئ منهم موضع لوم شديد؛ لأنه أخطأ رغم صحبته وقربه من الرسول.
ورفض الجاحظ بشدة القول بأن «سب الولاة فتنة ولعنهم بدعة»، وعجب من أن الذين يقولون بذلك الرأي مجمعون على لعن من قتل مؤمنًا متعمدًا، ثم إذا كان القاتل سلطانًا ظالمًا لم يستحلوا سبه ولا لعنه ولا خلعه، وإن أخاف العلماء وأجاع الفقراء وظلم الضعفاء..، فالجاحظ -كمعتزلي- كان يرى ضرورة الخروج على الإمام الظالم في حالة وجود إمام عادل، مع الثقة في القدرة على خلع الظالم وإحلال العادل محله، دون إحداث أضرار أكثر مما يتوقع جلبه من المنافع.
وكان الجاحظ يؤكد أن العقل الصحيح أساس من أسس التشريع. بذا يحقق الجاحظ فقه الفلسفة وعقلانية الوعي. مع فكر المعتزلة:
قد أسهم المعتزلة  بكثير من الرؤى والأفكار والحلول حول قضية كانت تؤسس لفعل ثقافي جديد لتحل إشكالية العقل والمنطق في مواجهة الإيمان والتسليم المثالي، والمعتزلة هم أرباب (الكلام) في شؤون العقيدة في الإسلام، وهم بشهادة واحد من أكبر خصومهم: «أرباب الكلام وأصحاب الجدل والتمييز والنظر والاستنباط والحجج على من خالفهم وأنواع الكلام، والمفرقون بين علم السمع وعلم العقل، والمنصفون في مناظرة الخصوم».
تعترف المعتزلة بأن الله خلق الكون، لكنها تعود فتقصر فعله على عملية الخلق فقط، وتنفي عنه أي تدخل لاحق في العالم. وهكذا ترك المعتزلة العالم يتطور وفقا للقوانين الطبيعية التي أوجدها الخالق. لقد آمن هذا التيار بأسبقية العقل على الإيمان، وقال بحرية الاختيار. فحسب رأيهم: لقد خلق الله الإنسان وزوده بمقدرة الفعل والاستطاعة. وبناء على ذلك، فالإنسان يتصرف بهذه المقدرة للقيام بأفعاله سواء أكانت خيرا أم كانت شرا. وللتدليل على ضرورة التوفيق بين عملية الخلق ثم الفعل الكامل بين الله والكون، تسوق هذه المدرسة الكثير من الأدلة المنطقية منها على سبيل المثال لا الحصر :
تمسك المعتزلة بمبدأ توحيد وتنزيه الله، وما قولهم هذا إلا ردا على من يؤمن بالتشـبيه والتجسـيد بناء على النصوص القرآنية التي أدت ظواهر بعضها، والرموز والمجازات بها، إلى إيقاع من يتمسـكون بحرفية النص في خطأ التشـبيه. لهذا نزعوا إلى القول بفصل الله عن العالم، وبعدم الاعتراف بأية صفات إنسانية للخالق. فالله قد خلق الكون وخلق الإنسان ومنحه عقلا يفكر به، وأعطاه حق الاختيار، الشيء الذي دفع بالقاضي عبد الجبار، أحد أهم المفكرين الاعتزاليين، للقول: «ما كان من فعل الله فليس من أفعال العباد، وما كان من أفعال العباد فليس من أفعال ذي العزة والإياد».
بل لقد دفعهم إصرارهم عن الفصل بين الله والعالم إلى إنكار مبدأ «قدم الكلمة»، ورفضوا الاستدلال على وجود الله بكلامه في القرآن، فحسب رأيهم يعتبر ذلك استدلالا بالفرع (وهو القرآن) عن الأصل (وهو الله)، وكذلك آمنوا بخلق القرآن. لأنهم رفضوا رفضا باتا تصور الذات الإلهية بالأدلة السمعية واللغوية (الإنسانية). لقد منعهم هذا التنزيه التجريدي من إطلاق أي صفة مادية أو بشرية على الخالق جل جلاله.
جاهد المعتزلة لتبرير حرية الاختيار وحرية الإرادة بالنسبة للإنسان، فنجدهم في محاولتهم الرد على المدرسة الجبرية يقولون: «لو لم يكن الإنسان حرا في تصرفاته لما كان مسئولا عنها، ولما كان من العدل الإلهي مجازاته عليها ثوابا أم عقابا». بمعنى أنه إذا كان الإنسان مسيرا من قبل الباري، فليس له إرادة أو حق في الاختيار، فكيف يجوز لله أن يعاقبه على شر كتبه له، أو ابتلاه به؟ بل وكيف نستطيع القول بأن العدل صفة إلهية ؟
يقول المعتزلة بما أن الله كريم، وعادل، ومنزه عن الخطأ، ولا يخلق إلا الإصلاح، فهو تعالى خلق الكون وخلق الإنسان على أكمل صورة، وعلى أحسن وجه. ولهذا فليس هناك ضرورة تفرض على الله تغيير شيء في الكون. إذن فليس هناك داع لأن يتدخل الله في الكون أو في شؤون العالم بعد الخلق. والقول عكس ذلك ينفي صفة الكمال المطلق عن الخالق، حيث لا يخلق الكامل اللامتناهي الناقص المتناهي. إنما يخلق الناقص ناقصا. فالله تعالى هو الوحيد الكامل، وما خلقه هو كامل بخيره وشره، بنعيمه وجحيمه.
إن إصرار المعتزلة على هذا الفصل القاطع بين الله من جهة، والكون بما فيه الإنسان من جهة أخرى، ما جاء إلا نتيجة لمحاولتهم الجادة الدفاع عن حرية الاختيار والدفاع عن حرية الإرادة. وقد دفعتهم هذه المحاولة إلى إبعاد الله تماما عن دائرة الأفعال البشرية .


الكاتب : سعيد منتسب

  

بتاريخ : 27/07/2017

أخبار مرتبطة

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

جيد أن تبحث عن ملاذات في أقاصي نيوزيلندا، لكن، أن تحاول تشييد حضارة جديدة على جزر عائمة، فذاك أفضل! إنه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *