صورة القدس في الإبداع العربي المعاصر

على الرغم من توافق الرأي العام الدولي على اعتبار القدس مدينة للسلام، فهي تعيش صراعا مريرا في أدق تفاصيل الحياة اليومية للمقدسيين ..مقاومة تروم تفادي طمس الهوية المتعددة للمدينة..يكفي أن نعلم أنها تعرضت على امتداد تاريخها الطويل(5000سنة) للتدمير كليا مرتين وللحصار 23 مرة وهوجمت 52 مرة.
مدينة عرفت حروبا بين اليهود والمسحيين في القرنيين الميلاديين الأول والثاني، وبين الصليبيين والمسلمين إلى أن استردها صلاح الدين الأيوبي..دون نسيان غزو التتار لها.في سنة 1947 خلصت هيأة الأمم المتحدة لتدويل القدس كمخرج للصراعات الدينية والسياسية غير المنتهية.لكنها بعد هزيمة 1967 احتلت بشكل كلي من طرف إسرائيل.
وإذا كان هذا هو راهن القدس بعد الإعلان المشؤوم بتحويلها عاصمة لإسرائيل، فإنها حضاريا مدينة يشتبك فيها المعتقد بالتاريخ ولذلك وصفت بملتقى الأنبياء وبوابة الأرض على السماء.وإذا كان تاريخها العريق قد شفع لها بأن تدرج في مواقع التراث العالمي، فإن المحتل الصهيوني ما لبت يعمل على تدمير معالمها الإسلامية محاولا تهويد المجال والذاكرة.

1 – القدس في الشعر العربي:
حضرت القدس في الشعر العربي المعاصر كرمز بصيغة الجمع..رمز مشبع أحيانا بإحالات دينية (حديث الإسراء والعهدة العمرية) وأحيانا أخرى بإحالات تاريخية (احتلالها على خلفية الحروب الصليبية واسترجاعها من طرف صلاح الدين الأيوبي..)، فضلا عن الإحالات الحضارية التي يعمل المحتل على تهويدها (المآثر الإسلامية والمسيحية..). وبالنظر لواقع الاحتلال الذي تعيشه القدس، فلسطين أعادت للأذهان قضية رثاء المدن بدل رثاء الأشخاص.قضية تجلت أكثر في نهاية القرن التاسع الهجري على خلفية سقوط مدينة غرناطة كآخر الثغور الإسلامية في يد المسيحيين.ثم عاودت الظهور نفس القضية مع شعراء المهجر الذين لجأوا للذاكرة علها تسعفهم في زمن الغربة، فطفت على السطح قصائد ترثي مدن الطفولة والصبا.
أما اللحظة الثالثة التي ظهرت فيها قضية رثاء المدن فكانت لحظة سقوط القدس الغربية في يد المحتل والقدس الشرقية مع نكسة ( 1967 ).حدث السقوط هذا جعل منها وسيطا للتفجع والوجع.يقول نزار قباني في قصيدة»القدس»:
بكيت حتى جفت الدموع
صليت حتى ذابت الشموع
ركعت حتى ملني الركوع
سألت عن محمد فيك وعن يسوع
يا قدس يا مدينة تفوح أنبياء
يا أقصر الدروب بين الأرض والسماء
وإذا كانت قصائد نزار قباني طافحة بالمرارة والأسى، عامرة بالحزن والفجيعة فإن قصائد الأخوين الرحباني(عاصي ومنصور) وإن تمسكت بخلفيتها الكونية جاءت محافظة على الأمل في استرجاعها .تقول القصيدة:
لأجلك يا مدينة الصلاة أصلي
عيوننا إليك ترحل كل يوم.تجول في أروقة المعابد
تعانق الكنائس القديمة وتمسح الحزن عن المساجد.
يا ليلة الإسراء ، يا درب من مروا إلى السماء
عيوننا إليك ترحل كل يوم.
وبالإضافة إلى البعد الكوني للقدس في هذه القصيدة ، عمل الأخوان الرحباني على أنسنة المدينة وتحويلها لحبيبة ضرورية لاستمرار الحياة أو لنقل معادل موضوعي للسكينة والسلام، إذ يكفي احتلالها ليعم الخراب باقي بلاد المعمور ..لنعاود الإنصات للقرينة الشعرية التالية:
«حين هوت مدينة القدس
تراجع الحب
وفي قلوب الدنيا استوطن الحرب.»
إن هذه الحرقة على سقوط القدس/فلسطين، لم تنس الشاعر التشبث بالأمل في استرجاعها ولو بعد حين وإن شكل راهن الاحتلال جرحا نازفا وموجعا. يقول محمود درويش:
«في القدس،أعني داخل السور القديم،
أسير من زمن إلى زمن بلا ذكرى
تصوبني،فإن الأنبياء هنا يقتسمون،
تاريخ المقدس،يصعدون إلى السماء
ويرجعون أقل إحباطا وحزنا،فالمحبة
والسلام مقدسان وقادمان إلى المدينة.
يلاحظ على خلفية هذه القرائن النصية ، اختلاف حدة التفجع والألم من شاعر لآخر.فإن كان الحدث واحدا فالاختلاف يكمن في تحويل الجرح لأثر شعري وجمالي وفق حساسية هذا الشاعر أو ذاك، علما بأن الاستغراق في الحزن انهزام وترويضه غنيمة.فباحتواء الشاعر لحزنه تتحقق له غبطة استثنائية مادامت نشوة المفجوع المتفوق على ألمه غير نشوة اللامبالي..فجيعة الشاعر هنا غير حزن المواطن العادي.فهي أولا فجيعة معممة ومنشورة على العموم، وبالتالي هي خبرة وجودية مكتوبة يمكن الإفادة منها دون أدنى تلميح للتفاضل بين الجرحين.وثانيا فجيعة الشاعر ألم مفكر فيه بروية ومحول من حالتها الخام إلى حالته الجمالية..بالنتيجة رثاء سقوط القدس تمفصل حساس يسعف على تناول الضعف الإنساني الذي يتراوح بين الأمل واليأس وإن كنا نرى أن فعل كتابة الجرح في حد ذاته يمكن اعتباره مسكنا مرحليا للوجع ولو إلى حين.

2 -القدس في الرواية العربية.
تلتقي الرواية بالتاريخ في تسريد الوقائع وإن كان التاريخ يحرص على الموضوعية بينما تتوسل الرواية بالتخييل ليبني الروائي تاريخه الخاص.غير أن هامش تسريد القدس يظل ضيقا بالنظر للتاريخ الكوني المعروف عنها.وليس صدفة أن القدس ارتبطت بالصخر المتجذر في الأرض والصامد في وجه تقلبات الزمن ولذلك عدت رمزا للصمود والتجدر..
صحيح جدا أن أغلب الروايات التي عالجت القضية تعرف استحالة السلام مع المحتل، لكنها لا تسلم في المقاومة وتؤمن بكونية المدينة.. لهذا بالضبط سمى الروائي الفلسطيني حسن حميد روايته ب»مدينة الله»بدل إسنادها لقومية بعينها ، مصورا إياها بخلفية هوياتية متعددة.صحيح أنه رصد جراحها المتجددة والتي لا تكاد تستعيد عافيتها حتى تسقط في صراعات موازية.لكن الصراع في آخر المطاف يمنح المصارع حصانة ومناعة ضد السقوط في اليأس والتسليم بأمر الواقع..
يبقى أهم ملمح جمالي لهذه الرواية هو اشتغالها على أدب الرسائل حيث صادفنا رسائل بين الطالب وأستاذه على امتداد الرواية، ومن خلالها تمكن المتلقي من الاطلاع على تطور القضية وواقع الرواية في الآن نفسه..
وبنفس الخلفية تقريبا عالج زكي درويش القضية في روايته «أحمد ومحمود والآخرون»(1988). رواية اشتملت على كم هائل من الخيبات والنكبات.. استهلت أحداثها بموت معيل العائلة على خلفية اعتداء جندي إسرائلي عليه ..ثم يعتقل أحد الأبناء ويهاجر الثاني إلى بيروت بينما صبرت الأم على القهر والتنكيل..تنتهي الرواية والسؤال المحرق يقفز في وجه القارئ..إلى متى هذا الصبر؟ وبأي ثمن؟ وما حجم مسؤولية الآخر الذي يشترك مع الفلسطيني في اللغة والدين والتاريخ المشترك؟مع وجوب التذكير هنا بأن القدس هي المدينة الرمز التي تختصر الوطن.
= وبعيدا عن المرثيات المجانية أو أدب الدموع الذي يسوق روح الانهزام ، جاءت رواية «سوناتا لأشباح القدس»لواسيني الأعرج(2009)، رواية حضرت فيها القدس كمجال وكزمن كذلك. يكفي أن نعلم أن الروائي استدعى وقائع تعود لسنة 1948 وصعودا، متوقفا بكثير من الشفافية عند أحياء القدس وأزقتها، مشتغلا على مفهومي الوطن والمنفى وقدرة الإنسان على المقاومة واحتواء المأساة.فعلى خلفية رصده لعملية التهجير وإفراغ القدس من سكان المقدسيين، رصد سادية العدو الصهيوني مقابل المقاومة الفلسطينية كبديل لانهزامية الأنظمة العربية.
صحيح أن الكثير من النقاد اختلفوا حول موت البطلة (مي) بمرض السرطان والذي يحيل على انتشار الصهيونية في التربة الزكية لفلسطين، لكن علينا أن لا ننسى أن البطلة قبل وداعها الأخير تركت لوحات تشكيلية إحالة على العمق الفلسطيني الذي لن يترك الفرصة لتهويد الذاكرة والمجال…
وعلى خلاف هذه التجربة نحت الروائية سحر خليفة منحى نسويا..فإن تأطرت مجمل رواياتها بالصراع العربي الصهيوني، فإنها لم تدخر جهدا في إطلاق الرصاص على الرجل وكأنه الخصم الحقيقي لها.وبمراجعة روايتها»لم نعد حواري لكم»(1975) أو عباد الشمس(1980) أو» مذكرات امرأة غير واقعية»(1988) تعطي الروائي الأولوية للمرأة على الوطن..نزعة نسوية بقدر ما تعادي الرجل، تشوه طبيعة الصراع الطبقي أساسا.
ففي روايتها»باب الساحة»مثلا، تمجد بطولة المرأة وتقدم الرجل تقليديا يضرب أخته فقط لأنها تأخرت في الرجوع للبيت ليلا وهي تشارك في الانتفاضة..وعلى خلفية هذا التباين في الطرح والمعالجة، يبقى السؤال مطروحا:ما هو الشيء الروائي في القدس؟وكيف يمكن جعل القدس تظهر كمكان فاعل في الرواية؟ هل فقط بتناولها أطروحيا وكوسيط لإظهار انتهاكات إسرائيل لحقوق الشعب الفلسطيني أم باستثمار رموز القدس وأقنعتها كروافد هوياتية قادرة على تخصيب الخطاب الروائي؟

-3القدس في السينما العربية.
خلصت الثقافة البصرية إلى أن الصورة تساوي ألف كلمة، وعلى خلفية هذه الخلاصة راهنت الكثير من الدول على السينما بالنظر لأدوارها الموزعة بين التوثيق والتوعية والتخييل وما شابه ذلك..في هذا الإطار اشتغلت السينما العربية على القدس بمختلف رموزها بما في ذلك قبة الصخرة والمسجد الأقصى والكوفية واللكنة الفلسطينية، علما بأن استدعاء القدس وحده يجعل المخرج في قلب السينما السياسية التي تترافع عن قضية خلافا للسينما التجارية الفجة..وإن كانت بداية السينما العربية التي اشتغلت على القدس تحديدا أقل إقناعا..نستحضر هنا فيلم»فتاة من فلسطين»لعزيزة أمير(1949) فيلم أثرت عليه سلبا كثرة الأغاني الفلسطينية التي أقحمت دون داع مؤثرة على تماسك الخط الدرامي للشريط ذي النهاية السعيدة حيث تزوج الطيار المصري بسلمى الفلسطينية دون متاعب تذكر.
في ذات الأفق النمطي، سار فيلم «أرض السلام»للمخرج كمال الشيخ(1957)مكررا قصة الحب المستهلك بين الفدائي المصري والفتاة الفلسطينية.لقاء بني على الصدفة وانتهى بزواج البطلين. وعلى خلاف هذين الشريطين تفاعل يوسف شاهين في فيلمه»الناصر صلاح الدين» مع الوقائع التاريخية محاول ربط الماضي بالحاضر وغايته استبدال حالة اليأس بالأمل بغد أفضل..
بعد نكسة (1967) سوف تتغير لوحة السينما العربية لاسيما مع «جماعة السينما الجديدة» . أتحدث عن خيري بشارة،وداود عبد السيد،علي عبد الخالق وغالب شعت صاحب فيلم»ظلال على الجانب الآخر»(1973). شريط بدا أكثر واقعية لتعرضه لجراح الاحتلال من خلال نقاشات طالب فلسطيني يدرس بالقاهرة ويسكن رفقة طلبة مصريين، فتأخذهم النقاشات اليومية لأسباب النكسة ومآل القضية الفلسطينية والأفق العربي الرمادي.
في السينما المغربية نستحضر فيلم «حلاق درب الفقراء»لمحمد الركاب (1982)الذي تناول القضية الفلسطينية في عموميتها من خلال استدعاء صور مذبحة صبرا وشاتيلا.فضلا عن فيلم «جنة الفقراء»لإيمان المصباحي والتي تطرقت لمعاناة الفلسطينيين اليومية مع المحتل الصهيوني.
وفي ذات الفترة تقريبا، أخرج مشيل خليفي»الذاكرة الخصبة»(1980) الذي صور بالأراضي الفلسطينية حيث القدس حاضرة بقوة إلى جانب مدن أخرى كنابلس ورام الله والناصرة.
مع بداية الألفية الثالثة ظهرت أفلام أكثر جرأة وإقناعا من حيث التناول الدرامي والتقني، ويمكن أن نستدل على ذلك بفيلم «خلف الأسوار»لرشيد مشهراوي(2000) فيلم اشتغل أطروحيا على فضح الطريق الزائف الذي تسلكه الصهيونية ، بنية الاستيلاء على القدس مع طرد المقدسيين من بيوتهم.
بالنتيجة حضور القدس في السينما العربية كان متأخرا زمنيا على ما تعرضت له من اعتداء على أرض الواقع وإن حضرت القضية الفلسطينية بشكل عام في السينما العربية ، فإنها عانت من عوامل معاكسة وفي مقدمتها السينما التجارية نفسها التي عملت على دغدغة المشاعر العربية بالبطولات العنترية الزائفة ومنها فيلما»48 ساعة بإسرائيل»و»مهمة في تل أبيب» كنموذجين.
وإلى جانب السينما التجارية العربية، اشتغلت السينما الصهيونية كآلية إعلامية في ترويج الصورة الزائفة للعرب كشعوب بدائية ومعادية للحضارة والتقدم.بل إن هوليود نفسها بحكم نفوذ المخرجين اليهود ضخت أموالا طائلة لتلميع صورة الصهيوني. يكفي أن نعلم أن إسرائيل منذ 1984 وهي ترصد أموالا طائلا لدعم مهرجان سينمائي «بتل أبيب».مهرجان يستقطب مجمل الأفلام الغربية الداعمة للطرح الصهيوني..وأمام هذا المد العنصري المتنامي بات علينا التفكير بجدية في خلق صندوق عربي إسلامي أمازيغي(لا تهم التسمية)لدعم سينما فلسطينية أولا وللحد من انتشار السينما المضادة ثانيا..فضلا عن إعطاء القدس المكانة التي تليق بها حضاريا وتاريخيا.
تبقى الإشارة إلى أنه من الصعوبة بمكان الإحاطة بكل الإبداعات العربية التي تناولت القدس، فضلا عن كون النماذج المقترحة بالمقالة ليست للمفاضلة ولكن للتشخيص ليس إلا..وإذا كانت علاقة المثقف بالمدينة علاقة موغلة في القدم حيث اعتبرها مجالا حضاريا للتقليل من أخطار الطبيعة فإن القدس كمدينة كونية تسكننا جميعا بصرف النظر عن المدن التي يسكنها كل واحد منا..
—————-
(*)ناقد أدبي وأستاذ باحث.
(نص الورقة التي تقدم بها الباحث في مؤتمر القدس بأبوظبي المنظم من طرف الاتحاد العام للكتاب العرب في 27 ابريل 2018)


الكاتب : د.محمد رمصيص(*)

  

بتاريخ : 22/06/2018

أخبار مرتبطة

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا

«هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟» مجموعة قصصية جديدة   «هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟»هي المجموعة القصصية الثالثة لمحمد برادة، بعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *