«ضربة في الرأس» لهشام العسري.. كوميديا تستعيد سنوات الرصاص

يسعى المخرج هشام العسري إلى تحقيق سينما تجريبية ذات سرد فيلمي غير خطي، في اعتماد على لغة سينمائية تروم تكسير القواعد الكلاسيكية عبر توظيف الكاميرا المحمولة، وقلب المَشَاهِد، والاهتمام بما يقع خارج إطار ومجال الصورة، فضلا عن رؤية موضوعية مرتبطة العناصر، إذ يبتغي في أعماله البحث في تاريخ المغرب الراهن، وخاصة في بعض القضايا السياسية الحساسة كسنوات الرصاص وما شابها من اعتقال ومضايقات على مستوى الحريات السياسية والمدنية، والتي أسفرت عن حدوث تطور هام في الحياة السياسية بالمغرب.

 

يخلّف فيلم المخرج هشام العسري الجديد «ضربة في الرأس» الانطباع بأن المخرج قد بدأ يكرر نفسه، فهو يفضل التصوير بأمكنة وفضاءات مهمشة بمدينة الدار البيضاء، مدينته الأثيرة، ويعود من حين لآخر إلى ممثليه في أدوار رئيسية أو ثانوية، وإلى خلطاته الإبداعية العجيبة (الكرة والسياسة مثلا)، ويتعامل مع الكاميرا المحمولة بشكل يوحي بالخفة، ويعيد اجترار بعض الموضوعات والمواقف والحوارات. ولكن السؤال الأساسي هو: هل نحس بأن في ذلك قصدية معينة وواعية أم لا؟
ويؤكد الفيلم الكوميدي «ضربة في الرأس» أن المخرجَ هشام العسري صاحب رؤية لواقعه، وله تصور بصري يحاول ملاءمته مع ما يجري في مجتمعه، وفقا للثيمة التي تشغله وتؤرقه، ويتعلق الأمر هنا بالنبش في بعض التفاصيل المتعلقة بتاريخ المغرب المعاصر، وخاصة تلك التي لها صلة بالمخرج ذاته، فهو من مواليد سبعينات القرن الماضي، أي من أبناء الجيل الذي عايش المخاضات المضاعفة لما سُمِّيَ بمرحلة الانتقال السياسي، وما اكتنفه من ملفات كان لها بالغ الأثر في رسم ملامح الأوضاع الاجتماعية والأيديولوجية في مغرب اليوم. لذلك، نجد أن التاريخ السياسي والاجتماعي حاضر بقوة في كل أفلامه الروائية الطويلة إلى الدرجة التي يصعب معها الفصل بينهما.

حكاية بسيطة
اختار المخرج في هذا الفيلم حكاية بسيطة تتعلق بتعيين شرطي لحراسة قنطرة سَيَمُرُّ من فوقها ملك البلاد، وهو موضوع قد يظهر عاديا وبسيطا، ومن الممكن حدوثه في أي بلد من بلدان العالم، ولكن القنطرة ستصبح رمزا مثقلا بالدلالات والحمولات.
أليست القنطرة هي المغرب؟ فقد كان المغرب وما زال وسيظل، بحكم موقعه الاستراتيجي، وتركيبته الإثنية والثقافية، قنطرة للعبور والالتقاء، إلاّ أن ذلك الإرث المتفاعل لم ينتج طفرة تناقضية إيجابية تسفر -سريعا- عن نَقْلِ المغرب من حالة إلى أخرى، وهو ما جعل سقف الطموحات يرتفع، والرهانات تتكاثف.
ويكرر الفيلم حضور سيارة الإسعاف التي يدل اسمها على تدخلها خلال اللحظات الحرجة من حياة الأشخاص لنقلهم على وجه السرعة إلى أقرب المستشفيات بغرض المعالجة، ولكن المثير للتساؤل هو أن إحدى سيارات الإسعاف تتعطل عن الحركة أثناء محاولة الإنقاذ مما يؤشر على أن المُسْعِف المُنْتَظَر في حاجة إلى من يسعفه أيضا، وعلى أن الوضع مأزوم بالفعل. وبالرغم من محاولات السائق الحثيثة لإصلاح محرك سيارة الإسعاف، وتضافر جهود الحاضرين لدفعها من أجل الإقلاع فإن الفشل كان حليفها!
هل عَبَرَ المغرب القنطرة؟ ذاك هو السؤال الثاوي في الفيلم، فيما يرى المخرج العبث والفساد والفقر والفوارق الاجتماعية عوائق (قناطر وأنفاقا) يجب تجاوزها.
ونلاحظ أن القنطرة أو النفق حاضران في كل أفلام المخرج الروائية الأربعة الطويلة السابقة، ونعني “النهاية” و”هم الكلاب” و”البحر من ورائكم” و”جوّع كلبك”، مما يفيد غائية التكرار وقصديته، إذ من المعروف أن لازمة التكرار لا يَعِيهَا ولا يوظفها إلاّ مخرجون قلة، وحينما يصرون على معاودة توظيفها في كل أفلامهم، فإنما لتكثيف دلالاتها وترسيخها كعلامة تسم منجزهم.
سيلتحق أحد المساعدين بالشرطي للعمل هو الآخر فوق القنطرة، وهو الأمر الذي اعتدناه في مثل هذه المهام التي ألفنا رؤيتها في حياتنا العادية، لكن إصابته بكسر في رجله ستجعل شيخ المنطقة (رجل أمن في وزارة الداخلية)، ومعه جزء من سكانها، يضعونه في بيت بائع مخدرات كي تعتني بحاله ابنته المطلقة، التي سرعان ما سيرتاح لها ذاك “المخزني”، فيقرر الزواج منها بالرغم من وجود ابنها معها، وهي الواقعة التي تعني توفير الحماية وتبادل المصالح وتقوية الوضع السائد.
تحدث للرجل المريض حالات سريالية كرغبته في ضرب رأسه “الصلب” بالعصا كي يستفيق، وفي هذا الفعل دلالات كثيرة تحيل على الحاجة الماسة إلى رجة توقظ الرجل من سباته، فربما عندما يفقد الإنسان إحساسه تجاه ما يجري من حوله تصبح حالته مستعصية على الفهم، ويتعمق شقاؤه.
يمر فوق القنطرة شخوص مختلفون، وتنكشف حالات خاصة، وتتوالد أحداث لا يمكن أن تمر دون ذكر، كوفاة الشيخ المسن ذي الرأس الأشيب، صاحب الفرس الأبيض، فوق القنطرة، والشابة الممتلئة، والطفل العاشق لكرة القدم، وما يقوم به شيخ أو مقدم الحي من تصرفات تجعله يتحول رفقة أهل الحي الهامشي، المجاور للقنطرة إلى كل ما يجعله قريبا من الحدث ومشاركا فيه: مستضيفا، خادما، قائد جوقة، مراقبا، مخبرا، فهو مستعد للقيام بكل شيء من أجل التقرب من رجال السلطة مهما كانت درجتهم.

رؤى نقدية
يعمّق هشام العسري في فيلمه الجديد هذا رؤيته النقدية للمجتمع المغربي، ويرفع من وتيرة التناول السياسي ضدا على بعض الرؤى السينمائية البصرية التي آثرت التماهي متخلية عن واجبها القيمي تجاه المجتمع والفن معا، فالمخرج يطرح أسئلة مستعصية عالقة في ذهنه، عبر آليات الميكانيزم السينمائي، لمسألة تطوير المجتمع والسينما معا. وما أحوج المجتمع المغربي، ومعه العربي، إلى سينما تنويرية، تدعو إلى مراجعة المُتَوَاتِر والمتناسي، وتخلخل السائد بغية الانتصار للمستقبل.
تكمن قيمة الفيلم في قدرته على تكثيف الأحداث، وتوقيف الزمن، وعرض الشخوص، وتأطير اللقطات والمَشَاهِدِ فوق القنطرة، وذلك فيما يشبه الحلقة المغلقة والمفتوحة في آن واحد. فالطريقة التي كان يؤطر بها المخرج القنطرة وكذلك تحريكه للكاميرا توحي بقلق ذاتي وجماعي تجاه الحاضر الذي يخلق حالة شبيهة بالتغير الجذري على الطريقة الكافكاوية، خصوصا وأن مجتمعاتنا الراهنة مبنية على عنصر المفاجأة والتجاوز: تفاجؤنا ضد كل التوقعات المرتقبة والعقلانية.
واختار المخرج ثلة من الممثلين ممن سبق أن اشتغل معهم كعزيز الحطاب وبنعيسى الجيراري وعادل أبا تراب وحسن بديدة، لنقل تفاعلاته ووجهات نظره التي تعكس رؤاه، وكذلك لإبراز تناقضات المجتمع من جهة أخرى، فللمخرج اختيارات تتميز بالتعامل مع ممثلين جريئين جرأة الأدوار المنسوبة إليهم، كما أن له طريقته الخاصة في إدارتهم من حيث التركيز على تمثيل التفاصيل، والحد من الحركات الزائدة أو المفتعلة، خاصة وأن تكرار بعض الممثلين لحركات وإيماءات خارج سياق المجال الحركي الذي يقتضيه الدور يجعلهم غير مستوعبين للشخصيات، وهو ما يكشف ضعف الإدارة التقنية، الذي يضيع رسالة الفيلم.
نستشف من الفيلم أن القنطرة مجاز بصري كبير، وبؤرة سردية أساسية، لاختبار قدرة الكاميرا على الحركة والتنقل، ومجال لاستعراض إمكانيات المخرج التخييلية لتجاوز الملل المحدق بالمتلقي الذي ترتهن جاذبية الفيلم بإمتاعه داخل فضاء مغلق تدور فيه الشخصيات. وهو ما حاول المخرج تجاوزه بشكل كبير، بالرغم من بعض اللحظات الثقيلة من قبيل ما يحكيه رجل “القوات المساعدة” أثناء هذيانه الساخر، واستثماره لمرجعيات فيلمية عميقة تحيل على أمير كوستاريكا ولويس بونويل وفديريكو فيليني الذين عملوا على ترسيخ السخرية كآلية فنية للنقد والفرجة معا.


الكاتب :  محمد أشويكة

  

بتاريخ : 18/11/2017