عبد الرحمان اليوسفي.. أيقونة النضال الديمقراطي

وأخيرا قرر الفارس النزول من القطار، بعد أن وهن الجسد، وبعد أن استنزف الجهد، وبعد أن بلغ آخر المحطات.
لقد قيل الشيء الكثير عن سي عبد الرحمان خلال الأيام الماضية بعد انتشار خبر رحيله الأبدي، واشتعلت قنوات التواصل الاجتماعي بصور الرجل وبكلمات التعازي والمواساة، وهيمنت صوره الشخصية على المنابر الإعلامية والتواصلية بشكل فريد وغير مسبوق.
سي عبد الرحمان لم يكن -أبدا- في حاجة لكل ذلك، ولم يكن ينتظر من أحد أن يعترف له بدوره الكبير في رسم معالم التحول، والانتقال نحو الديمقراطية في المغرب الراهن. كل من يعرف اليوسفي، بإمكانه التعبير عن هذه الحقيقة، فالرجل لم يكن يتحدث عن نفسه إلا في إطار ضيق جدا. كان شديد الحساسية والنفور من رهبة «المنصب» ومن سلطة «الكرسي»، وجسد ذلك في مواقفه المبادرة، سواء خلال عهد الاستعمار أم خلال مرحلة ما بعد حصول البلاد على استقلالها السياسي.
عبد الرحمان اليوسفي رجل كتوم، لا يتقن دغدغة العواطف، ولا لغة الانفعال، ولا خطاب التجييش العاطفي، ولا أسلوب الابتذال أو القذف أو التشهير أو الإسفاف. رجل يجسد الحكمة في القول وفي السلوك، ينصت أكثر مما يتكلم، يقرأ أكثر مما ينطق، يصغي أكثر مما يحاجج. فكثيرا ما كان يستفزنا صمته المطبق وهدوؤه المسترسل، حتى خلال أكثر المحطات النضالية اشتعالا وإثارة للاختلاف. كان يحضر لقاءات الشبيبة الاتحادية خلال مرحلة الغليان، وكان يصر على الإنصات، بل وعلى حسن الإنصات للجميع، مستفسرا عن كل التفاصيل ومقدرا لكل الآراء. وعندما كان يبسط رأيه، كان الوضوح سلاحه، والمنطق أداته، والحكمة سبيله، والمصلحة العليا للبلاد موجهه الأول والأخير.
لم يكن اليوسفي –أبدا- رجلا للفرص العابرة أو لتحنيط الانتماء الحزبي، فقد ظل صوت الوطن موجهه الأول قبل أي شيء آخر. وهو في منفاه الذي طال لمدة بلغت خمسة عشر سنة، لم يركن اليوسفي للحلول السهلة بالارتماء في أحضان هذه الجهة أو تلك، هذه الدولة أو تلك، بل ظل يعتبر الولاء الأول والأخير لا يكون إلا للوطن. لذلك، فبنفس القدر الذي ازدادت –به- معارضته «للحكم الفردي» لمغرب الاستقلال حدة، كانت تزداد أدواره المبادرة في الدفاع عن القضايا الكبرى للوطن، وعلى رأسها قضية استكمال الوحدة الترابية.
لن أنسى أبدا كيف كنا نعبر عن اختلافنا معه في قضايا مصيرية، مثل المصادقة على دستور 1996 أو الانخراط في دواليب حكومة التناوب بدون ضمانات، ودائما كنا نصطدم بجدار هدوئه الصارم. ولابد أن أعترف أن هذا الهدوء قد ظل يشكل سلطة حقيقية كان الرجل يرميها في وجوهنا كلما اشتد وقع التدافع في المواقف والآراء.
اليوم، أدركنا أن هذا الهدوء كان عنوانا لحكمة سي عبد الرحمان، الرجل المسؤول الذي ينتقي ألفاظه بدقة متناهية، والذي يلوك لسانه عشرات المرات داخل فمه قبل أن يترجم رأيه إلى أقوال وإلى جمل وإلى استعارات. وتدريجيا، بدأنا ننفتح على عوالم سي عبد الرحمان، وبدأنا نستوعب آليات عمله وتفكيره ومبادراته، من موقعه كرجل دولة يتحرك وفق قواعد أخلاقية لا يتسامح في المس بها كيفما كانت الظروف والأحوال، بل ولا يتسامح مع ذاته في تمثلها وفي تجسيدها. وبذلك، تحول عبد الرحمان اليوسفي إلى مدرسة في «فن القول السياسي»، وإلى مرجع للأخلاق النبيلة، وإلى ملهم لقيم حب الوطن والإخلاص في هذا الحب. لذلك، كان رحيله خسارة كبيرة، استشعرها «الخصم» قبل «الصديق»، «الخارج» قبل «الداخل»، «العشيرة» قبل «الحزب».
لا أصدق أن سي عبد الرحمان سيكون غائبا عن منتدياتنا الثقافية، ولا عن أنشطتنا الصاخبة، ولا عن لقاءاتنا الإشعاعية. أتذكر جيدا كيف كان حرصه كبيرا على مواكبة كل ما كان يستطيع حضوره من لقاءات ثقافية ومنتديات تواصلية، كلما اتضحت له معالم الجدية ودعم القضايا الكبرى للوطن.
شخصيا، أتيحت لي فرص مواكبة حضوره والتواصل معه داخل إحدى المؤسسات الثقافية التي أتشرف بالانتماء إليها، وأقصد مؤسسة محمد الزرقطوني للثقافة والأبحاث، كإطار مدني متخصص في الاشتغال على ذاكرة العمل الوطني التحرري خلال عهد الاستعمار. فمنذ أول لقاء للإعلان عن ميلاد هذه المؤسسة سنة 2000، كان المرحوم اليوسفي حاضرا إلى جانبنا في افتتاح الدورة الأولى للمهرجان الوطني للمقاومة، إلى جانب ثلة من الوطنيين الأبرار من أمثال محمد الفقيه البصري والحبيب الفرقاني. يومها، كان اليوسفي وزيرا أول، ومع ذلك، استطاع أن يقتطع جزءا من وقته للحضور معنا وللاحتفاء معنا بذكرى اليوم الوطني للمقاومة يوم 18 يونيو من السنة المذكورة. وخلال كل الدورات اللاحقة، ظل حضور اليوسفي لافتا للانتباه، وكانت آخر مناسبة أتيحت لي فرص التواصل فيها معه، حضوره معنا فعاليات دورة السنة الماضية يوم 18 يونيو. فعلى الرغم من ظروف المرض البادية على محياه، وعلى الرغم من الإجهاد الذي نال منه، فقد أصر على حضور كل فعاليات اللقاء، من بدايتها إلى نهايتها، الأمر الذي اعتبرناه اعترافا ثمينا بقيمة الاشتغال المنظم على الذاكرة التحررية لمغاربة عقود القرن الماضي.
فكم من الاستعارات تكفيني للتعبير عن حزني لرحيل الفقيد عبد الرحمان اليوسفي. أنا حزين جدا لفقدانك، حزين جدا من هول الفراغ الذي خلفه رحيلك في مشهدنا السياسي، حزين جدا لأن الخيمة فقدت برحيلك أوتادها القائمة. اختلفنا معك في أكثر من محطة، وانتقدناك في أكثر من مناسبة، وغضبنا منك في أكثر من موقف، ومع كل ذلك، كنت دائما شامخا، حكيما، صبورا، مبادرا، هادئا، وقبل كل ذلك، مناضلا بأخلاق سامية جعلت منك مدرسة أصيلة في النضال وفي حب الوطن.
لم ينل منك المنصب ولا التقدير الواسع الذي حظيت به داخل المغرب وخارجه، بل اخترت الانزواء داخل هدوئك النادر، وإلى حكمتك التي تصنع مجد الرجال، وإلى تواضعك الذي يجعلك واحدا من بين عظماء الأمة. فسلام عليك في ملكوت الخلود، سلام عليك يوم ولدت شامخا، وسلام عليك يوم وقفت أبيا، وسلام عليك يوم ناضلت عفيفا، وسلام عليك يوم رحلت عزيزا.

تعود الصورة إلى سنة 2000، بمناسبة انطلاق عمل مؤسسة محمد الزرقطوني للثقافة والأبحاث في أولى تظاهراتها المتمثلة في المهرجان الوطني للمقاومة الذي يصادف يوم 18 يونيو من كل سنة. يظهر الفقيد سي عبد الرحمان متوسطا نجلي الشهيد محمد الزرقطوني، عبد الكريم وشوقي. ويظهر في الصورة كذلك الإعلامي لحسن العسيبي.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 05/06/2020