عبد اللطيف الوراري: شعرنا المعاصر يعرف دورة جمالية جديدة

تعالت في هذه الأيام نبرة دعاوى القائلين بأنّ الشعر خفت صوته وانحسر دوره، أو أنّه يمرّ بأزمة حقيقية تهدد وجوده، أو أنّه لم يعد يستأثر بأولوية لدى الذائقة المعاصرة بفعل بروز فنون أخرى أكثر جاذبية وتمثيلًا لحركة المجتمع، أو أنّه يمثل ارتدادًا عما تحقّق للقصيدة العربية. أعتقد أنّه من الطبيعي أن نسمع هذا وذاك؛ لأنّ العصر الذي نعيشه بكلّ اشتراطاته السياسية والسوسيوثقافية، أو ما يعبّر عنه ميشيل فوكو بـ»الإبستيمي»، حمل إلينا تحوّلات خطيرة مسّت جوهر علاقة الإنسان المعاصر بما حوله، بل مسّت علاقته بنفسه ورؤيته للعالم المرئي والميتافيزيقي.
لهذا، لا يصحّ أن نتناول قضية الشعر المعاصر بمعزل عن هذه التحوّلات بانفجاراتها وهجراتها وإحباطاتها وموجات اليأس والشك والعدمية التي أشاعتها، وربّما ناظرت في ذلك ما مرّت به سابقًا حركة الشعر الحرّ؛ حيث واجهتها الخطاب السلفي- التقليداني بالرفض والازدراء والتشهير. فالاقتراب من هذا الشعر يلزم تغيير زاوية النظر وأدوات تحليل الخطاب على نحو ما يكشف لنا مدى الإضافات النوعية التي تخلّقت في رحم التجربة الشعرية الجديدة التي عانقت أفقًا جديدًا لا عهد للشعرية العربية به، بقدر ما أنّها انفضّت عن مقولات «الجيل» و»ثنائية الشكل والمضمون» و»ما يطلبه الجمهور» وغيرها من المقولات المتحجّرة التي تعمى عمّا جرى للشِّعر وفي نهر الشعر من إبدالات خاصّة، انعكست على طبيعة لونه ورائحته ومدى عمقه.
في نظري، ومن خلال ما أتيح لي من مواكبة واطّلاع على مجمل التجارب الجديدة في البلاد العربية، بما في ذلك الهوامش التي حلّت محلّت المركز (المغرب، تونس، اليمن، السودان، فلسطين، السعودية..)، أستطيع أن أقول إن شعرنا المعاصر يعرف دورة جمالية جديدة تضطلع بها – كما أسميته في أكثر من مناسبة-  ( حساسيّاتٌ جديدةٌ) يقودها وعي شابّ منشقٌّ وغاضب ويائس ومندفع إلى قول ما لا ينقال؛ وذلك بما اختطّتْهُ هذه الحساسيات من أشكال وأطر فنّية متعايشة في ما بينها (القصيدة المشهدية أو السيرذاتية، قصيدة الأداء، الشذرة، الهايكو..) وأحدثته من لغات وأساليب ورؤى واختراقات جمالية مغايرة تتناسب مع شرط الكتابة المفتوحة، وتستفيد من حوامل الميديا ولا تقع في أسرها، مثلما أنّها لا تعدم في برنامجها الاهتمام بشرائح جديدة من المتلقّين، حتى لا أقول الجمهور .
وليس مقبولًا الادّعاء بأن ما يقع ضمن تجارب الحساسية الجديدة كلّه إبداع وابتكار وتجاوز، بل هناك نماذج تُحسب عليها لا تضيف شيئًا وتمثّل عبئًا عليها، كما في غيرها من التجارب التي تعرف مرحلة انتقاليّة.
وإذن، لا أبالغ إذا قالتُ إن هذه الحساسيات الشعرية الجديدة تمثل بحد ذاتها قطيعة أخرى ضمن قطائع الشعر العربي التي عرفها منذ بدايات القرن العشرين؛ وعليه، فهي استمرار لتراث الشعرية العربية العظيم الذي لا ينقطع، بأيّ حال، عن حركة التاريخ وإيمانه بجوهر الكلمة في علاقته بالإنسان وخبزه اليومي.


بتاريخ : 17/09/2019

أخبار مرتبطة

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا

«هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟» مجموعة قصصية جديدة   «هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟»هي المجموعة القصصية الثالثة لمحمد برادة، بعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *