عن«الإيديولوجية العربية المعاصرة»

«أيها السادة الكرام (*) أحييكم تحية شكرا وتقدير، شكر وتقدير لعميد هذه الكلية التي تحتضن اليوم ندوة تخليد الذكرى الخمسين لصدور كتاب «الايديولوجيا العربية المعاصرة»، شكرا وتقدير للأستاذ الدكتور عبد الإله بلقزيز الذي ما فتئ منذ عقود يعمل على التعريف بأعمالي في المغرب والمشرق ،شكرا وتقدير للأساتذة الزملاء المشاركين في الندوة وأخيرا شكرا لكافة الطلبة والضيوف الذين يكرمونني بحضورهم الكثيف، أحيي الجميع وأتمنى لكل واحد التوفيق في جهده والنجاح في مسعاه.
سألني ذات يوم في مستهل مشواري الفكري، أحد موظفي منظمة اليونيسكو، قال: ماذا تعني تحديدا بلفظ كوني universel، كان لهذا السؤال آنذاك معنا خاصـ إذ كان يشير إلى نزاع عنيف، داخل المؤسسة الأممية، بين ممثلي الغرب والناطقين باسم بلدان العالم الثالث، كان هؤلاء يؤاخذون آولائك على استعلائهم وسعيهم الدائم إلى فرض مفاهيمهم وقيمهم على الجميع، باسم هذا المفهوم بالذات، مفهوم الكونية كنا جميعا مطالبين بالاختيار بين العام والخاص، الكوني والمحلي، وبمناصرة الحق في الاختلاف.
الواقع هو أن ذلك الموظف الأممي المتحفظ إزاء مفهوم الكونية، لم يقرأ بإمعان ودون فكرة مسبقة ما كتبت في الموضوع، وإنما تشبت بلفظ كان يستفزه، ويجعل الدم يغلي في عروقه كلما قرأه أو سمعه، لم ينتبه إلى أن اللفظ جاء ضمن عبارة تحد معناه، والعبارة هي vers universel أي نحو أو صوب الكوني، وهو عنوان الجزء الثالث من كتاب «الإيديولوجيا»، مما يعني أن الكوني ليس واقعا يفرضه البعض على البعض، بقدر ما هو هدف قد يتحقق وقد لا يتحقق، وإن كتب له أن يتحقق فبشرط مباركة الجميع ومساندتهم عن قناعة واطمئنان، أي في إطار مغاير، للذي ميز وضع الاستعمار،أو وهذه مفارقة الوضع الذي نراه اليوم في نطاق العولمة التجارية التي يدافع عنها أقطاب العالم الثالث ويقاومها الغرب بعد أن رعاها وخطط لها.
قد يكون مفهوم الكوني universel أول ما اتضح في ذهني، من تأثير الفكر الغربي، وأعني بالطبع فلسفة القرن الثامن عشر {فلسفة الأنوار}، والإنسية المطلقة التي تلغي كل أنواع التمييز الطارئة على الإنسان بما هو انسان.
وقد يكون المفهوم قد ترسخ في ذهني أكثر فأكثر، بتأثير التحليلات الماركسية، التي تعتبر أن موضوعية الفكر ترتبط بدراسة الفرد الطبيعي المنتج المستهلك، لكن ما استهواني في هذه الفكرة، وجعلني أتشبع بها، هو أن كبار المؤلفين الذين كثبوا بالعربية اعتبروها ميزة ولم يكتبوا أي تحفظ إزاءها ، نقرأ عند ابن خلدون أن المغلوب مولع دائما بتقليد الغالب، ماذا يعني؟ ولماذا يعتبر الأمر قاعدة متواترة لا تقبل الاستثناء؟
يقرر ذلك لأنه يراه حقيقة التاريخ، مغزى التاريخ وأن عدم الاعتراف بذلك ينم عن غفلة وبلادة، يقول ما يقول لأنه يردد في كتاب كل فصل من فصول المقدمة، العبارة المألوفة: ولن تجد لسنن الله تبديلا.
نقرأ في كتب الحكمة، أن أرسطو هو المعلم الأول، والفارابي المعلم الثاني، ماذا يمكن أن نستخلص من هذا التعريف، سوى أن الرجلين ينتميان إلى جنس واحد، وأن وعقلهما واحد وفكرهما واحد ومنطقهما واحد ولكن، وإن خالف الفارابي أرسطو فإنما يخالفه كما يخالف أرسطو معلمه أفلاطون وكما سيخالفه لاحقا ابن سينا أي في نطاق المنظومة الفكرية ذاتها.
كنت أتساءل وأنا أجابه هذا المتحدث باسم اليونيسكو، هل أود أن أكون أكثر غيرة على هويتنا الثقافية من الفارابي وابن خلدون؟
في نهاية القرن 19م اهتدى أحد الباحثين الفرنسيين في علوم الاجتماع، إلى أن ما يميز الانسان في مسيرته التاريخية هو ميله الدائم إلى التشبع والتماهي imitation وهي غريزة موروثة عن الطور الحيواني، ما يسمى بالفرنسية mimétismeفيقول: هذه الغريزة هي سر تطور الإنسان والتكاثر، أوليس هذا تعميم وتأصيل لما أكده ابن خلدون، ولما استخلصه كل مدقق في مجال التاريخ، وعن ما يحدثنا التاريخ يا ثرى؟
يحدثنا عن الرحلة والاستكشاف، عن الهجرة والغزو، عن التجارة والحرب، عن السياسة الديبلوماسية، عن كل هذا وعن ما يترتب عنه من تأثير متبادل على مستوى الفكر والشعور، على مستوى السلوك والمعاملات، على مستوى المأكل والمسكن والملبس…. ما نعتقده خاصا بنا هو ليس لنا، هو عند البحث موروث في الغالب عن غيرنا.
بالنسبة إلي إذن على مستوى الواقع الذي لا أطرحه إلا مكرها، مستوى الحاضر الذي ألاحظه، أو الماضي الذي أعرف عليه من خلال كتب التاريخ، القضية واضحة لا إشكال فيها، التاريخ كله أخذ ورد أو بالأحرى رد وأخذ.
النقطة التي تستحق المناقشة هي ماذا بعد الأخذ والرد أو الرد والأخذ؟ كيف ومتى العطاء مجددا؟
أكبر جائزة يحلم بها مؤلف كتاب إشكالي نقدي مثل كتاب «الإيديولوجية العربية المعاصرة»، هو أن يفرغ التطور من محتواه أن يفقد آنيته ليصبح مادة للبحث، بعد أن يكون قد تحقق بالفعل ما تضمن من أماني وتطلعات، لكن بكامل الأسف لم يعرف كتابي هذا المصير، لم يقدر له أن يفرغ من محتواه، هناك المضمون المحكوم بظرفي الزمان والمكان، والذي ينتظر الانجاز في أجل قريب أو بعيد، وهناك الهيكل المنطق المنهج، وهذا يظل صالحا مفيدا، منتجا لمدة أطول مالم تطرأ ثورة عارمة، تجعل من المعروف منكرا ومن القاعدة استثناءا.
انتظر البعض مني أن أذيل كتابي بمؤلف آخر، يعرض للحالة الراهنة، أقول فيه هنا أخطأت وهنا أصبت، لو فعلت ذلك لارتكبت خطأين: خطأ الغرور والاعتزاز بالنفس، وخطأ الندم والتنكر للذات.
السؤال الوجيه، ليس ما فعل الزمن بالكتاب، بل ما فعل الزمان بمؤلفه، وهذا سؤال أجبت عنه في كتابين: «سنة وإصلاح»، وبالفرنسية la philosophie de histoire لم يعد لي بالإمكان قراءة كتاب «الإيديولوجيا العربية المعاصرة» بمعزل عن الكتابين المذكورين، كل شيء تغير في الآفاق وفي أنفسنا، مالم يتغير هو واجب الفصل والحسم، للاختيار بين أمرين: الانبعاث والاندثار، الانبساط والانحصار، الانفتاح والانزواء الترحيب بالجديد والاحتماء بالعتيق، تحقيق والموعود والتمسك بالموجود، والسلام».
كلمة الأستاذ الدكتور عبد الله العروي بمناسبة الذكرى السنوية الخمسين لصدور كتاب «الإيديولوجيا العربية المعاصرة» بكلية الآداب بنمسيك بالدار البيضاء.


الكاتب : عبد الله العروي

  

بتاريخ : 24/11/2017

أخبار مرتبطة

روني شار يقول بأن على الشاعر أن يستيقظ قبل أن يستيقظ العالم لأن الشاعر حافظ وجوه الكائن اللانهائية.شعراء أساسيون مثل

رَفَحْ جرحٌ أخضرُ في مِعْصم غزَّةَ، وَنَصْلٌ في خاصرة الريحِ. ماذا يجري؟ دمُ عُرسٍ يسيلُ أمْ عروسُ نِيلٍ تَمْضي، وكأنَّ

– 1 – هل الرمز الشعري الأسطوري ضروري أو غير ضروري للشعر المغربي؟ إن الرمز الأسطوري، اليوناني، خاصة، غير ضروري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *