عن الأسلوب التشكيلي

 

توطئة:
يروم هذا المقال بيان خصائص الأسلوب التشكيلي، باعتباره نموذجا فنيا يتقاطع مع عدة حقول ومباحث فنية أخرى تشكل بؤرة الجوار والتقارب في الانتماء والامتداد. فما يمتاز به الفنان التشكيلي هو القدرة على السير في طريق بلورة إحساس فني في قالب تشكيلي يرتبط بالمسعى الفني الذي يختاره الفنان.
لذلك فإن حديثنا عن الأسلوب التشكيلي سيتركز بالأساس على سمات هذا الأسلوب  وخصائصه لدَى فئتين من المدارس التشكيلية: الفئة الأولى وهي التي جعلت من الواقعية ميزة أسلوبية؛ والثانية تلك التي تنضوي تحت لواء التجريدية متخذة من تكسير البنية الواقعية، منهجا لها.
فما هي أهم معالم الأسلوب التشكيلي لدى كل من الواقعيين والتجريديين؟
وهل هناك قطيعة بين الأسلوبين أم استمرارية وامتداد؟
ألا يمكن الحديث عن تداخل وتجاور من داخل الاتجاه وباستحضار علاقة التأثير والاقتباس؟
وإلى أي حد يمكن  للأسلوب التشكيلي أن يساهم في تقريب المتلقي من العمل الفني وأن يدفعه للتفكير في تطلعات جديدة لتلقي الأعمال الفنية؛ وللرقي بذوقه الفني وتهذيبه؟
لا شك أن الحديث عن الأسلوب التشكيلي هو حديث بالضرورة عن ما يمتاز به  العمل الفني، فنجد للأديب أسلوبه في التعبير والكتابة، وللمطرب أسلوبه خاص الذي  يمتاز به عن غيره في الغناء، وللفنان التشكيلي أيضاً أسلوبه الذي يشكل من خلاله أفكاره وأحاسيسه في قالب فني، سواء كان لوحة أو نحتا أو تركيبا أو تجهيزا installation أو أشكالاً تعبيريةً أخرى يتوسلها الفنان التشكيلي سيراً مع حركية تطور الفن في صيغته المعاصرة.
لذلك فإننا نجد في الأسلوب التشكيلي الذي يَنْتَحُ من المدرسة الواقعية تعدداً في إبراز معالم الواقع لدى العديد من التيارات التي عملت على إعادة تشكيله  في قالب فني يُلبي ذوق المتلقي، وفي الآن نفسه يؤرخ لمراحل تطور الفن. كما يجسد أيضاً، إنْ بصيغة أو بأخرى، نظرة الفنان لبيئته الإجتماعية كما هي. فنجد فئة كبيرة من الفنانين قاموا بنقل الواقع الإجتماعي ومعالمه سواء كانت طبيعة حية أو ميتة بجزئياتها وأدق تفاصيلها. وعلى العكس من ذلك هناك من قام بتكسير هذا الأسلوب، طارحا مسألة نقل الواقع ومعطيات البيئة الاجتماعية لا كما هي؛ وإنَّما كما يراها الفنان ويتخيلها في قوالب تعبيرية تستجيب لمبدأ تكسير البنية الواقعية بأخرى شبه واقعية تتجه نحو عملية ربط المتخيل بالواقع، وعدم نقل هذا الأخير بل عن طريق إبراز معامه والاتجاه نحو دفع المتلقي لإعادة بناء مضمون اللوحة وتأثيث الفضاء الجوَّاني بنظرة تكاملية.
هذا النوع من تكسير البنية الواقعية سيستمر بشكل جد متطور مع المدرسة التجريدية التي عملت على خلق قطيعة مع الواقع المرئي نحو واقع آخر ذهني وتأملي يدفع المتلقي للبحث والتفكير في مضون العمل الفني، بطرح تأويلات عدة تلامس أحيانا رؤية الفنان، وتتقاطع أحيانا أخرى مع المسعى الذي تنضوي تحته تيارات التجريد التي تختلف باختلاف التوجهات والرؤى التي تنبني عليها معالم الأسلوب، سواء كان التجريد بشكل كلي أو جزئي، فإنه يقدم مجاوزة للتعبير الواقعي بتعبير آخر ينقلنا لعالم التخييل واللامرئي.
وعلى هذا الأساس يمكن القول ختاما بأن الأسلوب التشكيلي ليس وليد التقليد أو النسخ على منوال الواقع، أو بالاتجاه نحو عملية تجريده إن بصيغة أو بأخرى؛ بل إنَّه يتسم باتساع وشساعة نظرة الفنان وطريقة تعبيره التي تجعله يمتاز عن غيره من الفنانين. فليس التقيد بأسلوب بعينه أو مدرسة دون الأخرى هو عماد الأسلوب التشكيلي، إذ نؤكد أن الفنان التشكيلي المبدع هو الذي نجد عنده أساليب متعددة تتجه به لكي يَنْسُج على غير منوال. ومعنى هذا أن عمله حرٌ ومفتوحٌ على عدة إمكانيات إبداعية تتجه به نحو التميُّز بالسير قُدماً في طريق المُخْتَلف الجمالي ومجاوزة dépassement    المُؤتَلف الفني بتكسير بنيته وخلق بنى أخرى تتسع لمعانقة أسمى المعاني والقيم الإبداعية.

(*) فنان تشكيلي مغربي وباحث في النقد الفلسفي للفن.


الكاتب : محمد الشاوي (*)

  

بتاريخ : 25/09/2018