فريديريك غرو يتتبع مسارات «العصيان». .الطاعة بين الامتثال والإذعان والتوافق

لماذا نطيع وخاصة كيف نطيع؟
نحن بحاجة الى أسلوبية للطاعة لأنها وحدها تمكننا من النظر في أسلوبية العصيان، ونحن بحاجة أيضا الى إعادة تعريف الفرق بين الإذعان والرضوخ والامتثال، والى التمييز بين حق المقاومة والضمير والفتنة.
كيف تنتقل الشعوب والأفراد من وضعية التبعية إلى التمرد ثم العصيان؟
الجواب يقترحه المفكر الفرنسي فريديريك غرو في كتابه «العصيان من التبعية الى التمرد « الصادر عن دار الساقي، الذي نقدم اليوم موجزا عن أهم فصوله والذي ترجمه جمال شحيد.

يفتتح فريديريك غرو مقدمة كتابه الجديد «العصيان من التبعية الى التمرد «، الصادر عن دار الساقي، والمعنون بعنوان حاد: «قبِلنا ما لا يُقبل»، بمقتطف من خطاب للمؤرخ الأمريكي هوارد زين سنة 1970 يقول فيه هوارد:
«العصيان المدني ليست مشكلتنا. مشكلتنا هي الطاعة المدنية. وتكمن مشكلتنا في الناس الذين ينصاعون للإملاءات التي يفرضها حكام حكوماتهم ممن أيدوا عددا من الحروب، فقتل ملايين البشر بسبب هذا الانصياع. مشكلتنا هي انصياع الناس عندما يعيث الفقر والمجاعة والحماقة والحرب والتوحش فسادا في العالم. مشكلتنا هي أن يكون الناس مطيعين في حين أن السجون تعج بصغار اللصوص، وفي أن كبار اللصوص يحكمون البلاد. هذه هي مشكلتنا».
هذا الاستهلال المؤطر للإشكاليات المركزية التي يعيشها العالم اليوم، وأولها التفاوتات الطبقية التي كان من أوخم نتائجها تدمير الطبقة الوسطى التي تعتبر صمام أمان الاقتصادات الوطنية، وبالتالي تفقير الفقراء وإغناء الأغنياء، بالاضافة الى ما لحق البيئة من تدمير أو ما بات يعرف بالتغيرات المناخية، يرخي بظلاله على أجزاء كثيرة من الكتاب، باعتبارها مصدر كل الاحتجاجات ونشوء دورة العصيان بعد عقود من الطاعة والامتثال للسلطة، أيا كانت تمظهراتها محلية أم وطنية أو عالمية. طاعة فرضها طغيان السلبية التي أفرزها الخوف في أغلب الأحيان وإحكام القبضة الأمنية على الشعوب، وبالتالي عدم تملكها لقراراتها السيادية، وهي مرتبطة أساسا بطبيعة العلاقة التي تحكم المواطن المحكوم بالسلطة الحاكمة، انطلاقا من غياب أو حضور مفهوم المواطنة كتجسيد فعلي إجرائي على أرض الواقع.
ينطلق غرو في تحليله لمفهوم العصيان من نقيضه الطاعة، متسائلا عن دوافع هذه الطاعة، وكيف تتجذر في الوعي الجمعي تجاه ما يحدث حتى في حالات اليأس منمعطيات هذا الواقع ومن تغييره، مشيرا الى أن المشكلة لا تكمن في العصيان بل في الطاعة كما نظّر لها فليلهم رايش حين قال» لا تقوم المسألة الاساسية على أن نعرف لماذا يتمرد الناس، بل لماذا لا يتمردون؟»
في هذا السياق يسوق غرو ثلاثة أسباب أفضت الى ظهور العصيان:
ـ أولها سوء توزيع الثروات وما أفرزته العولمة من انسداد القتصادات الوطنية ما أدى الى استفحال راسمالي متوحشة أنتجت طبقتين: طبقة فاحشة الثراء وأقلية من المتخمين، مقابل 99%من الفقراء المكبلين بالديون، فقراء صار منتهى آمالهم هو «البقاء على قيد الحياة». والأخطر هو انمحاء الطبقة الوسطى التي تحافظ على التوازنات داخل المجتمعات، وهو انمحاء يضيع معه عالم مشترك ومفاهيم المنفعة العامة وبالتالي تقويض كل امكانية لقيام الديمقراطية ص14.
هذه الشروخ الاجتماعية، رغم اتساعها، يقول غرو، لم تحرك للأسف الشعوب لتقويم هذا الخلل، بل برز نوع من الاستسلام تجاه ما يحدث لأن اهتمام الطبقة الوسطى، خاصة، أخذ في» التشظي الى سلسلة لا تنتهي من الانقسامات الداخلية «والرغبة في مضاهاة أسلوب عيش الاغنياء بالانجذاب الى الاستهلاك المفرط وارتياد أماكن التسوق والترفيه والمطاعم.
ثاني الأسباب: التردي التدريجي للبيئة ممثلا في استنفاد خصوبة الارض ونضوب المصادر الطبيعية وتراجع المخزونات والاحتياطات»ان شروط «تجدد» الانواع الحية والمصادر الطبيعية متوفرة، لكن انكسرت حلقة الولادة المتجددة» ص16
ثالثا: غياب مساءلة الذات السياسية من طرف الذات العامة بما تمتلكه من قوة المحاكمة والقدرة على التفكير والطاقة النقدية. وهنا يكون العصيان إعلانا لسلوك إنساني . يتساءل غرو في هذا الصدد :» لماذا يسهل على الناس جدا أن يتفقوا على اليأس من النظام الحالي ولماذا يصعب عليهم جدا أن يعصوه مع ذلك؟».
هذه الصعوبة في إبداء الرفض تقتضي طرح الأسئلة حول جذور الطاعة السياسية: هل هي امتثال اجتماعي أم إذعان اقتصادي أو احترام للسلطات بغض النظر عن دوافع هذا الاحترام؟

تكلفة العصيان و»المخاتلة الأخلاقية»

يعتبر غرو أن «الطاعة تخلق الجماعة، فيما العصيان يخلق الانقسام». وفي هذا السياق، يسوق عدة صور وتمثلات للطاعة تتراوح بين الإذعان والتبعية والامتثال، ثم الموافقة رغم أنه يعتبر أن أدق وأقسى تعبيراتها يتمثل في الإذعان الذي يعتبره غرو «طاعة إكراهية خالصة.. نطيع من يحمل في يديه السلاح والسوط، والقدرة على التحكم بالوظيفة.. أن أذعن يعني أنني سجين تتحكم بي علاقة قوة تُخضع وتُرضخ.. أكون تابعا للآخر تماما، فيسيرني ويقرر عني ويصدر أوامره الهادرة.. ما أفعله عندئذ هو أن أنفذ باستسلام.. إنني مذعن».
هنا تبدو الطاعة عند المُذعِن مرتبطة بعلاقات القوة، ومترجِمة «لوضعية اللاعدالة في السلم الهرمي» (ص45). وأمام هذا اللاتكافؤ الذي تفرض فيه السلطة المالكة للقوة شروطها في النهاية، يفضل الشخص المذعن القبول بواقعه على مواجهة مصير مجهول لا يستطيع تحمل تبعاته وتكلفته فيطيع.. ينفذ ما دام هناك من يقرر بدلا عنه، ويتحمل مسؤولية القرارات المتخذة.
يتوقف غرو ، هنا، ليثير نقطة مهمة خفية داخل منظومة الإذعان هاته، وهي ما يسميه بـ»الاستغلال الأخلاقي» أو «المخاتلة الاخلاقية» ويقصد بها أن المذعن بطاعته العمياء يندمج في دور «المنفذ» للأوامر، متحللا من أية مسؤولية وهذا يمنحه راحة ضمير نسبيا، ما يستشف منه قبولا ضمنيا بقواعد هذه العلاقة اللامتكافئة التي قد تدفع به الى المساهمة في تبيرير القوانين والممارسات اللاديمقراطية، بحثا عن الاستقرار.
إنها حالة استسلام ظاهري قد تحمل بذور تمرد كامنة. فالمذعن يحمل داخله وعدا بالتمرد ، فقط ينتظر لحظة هشاشة أو انكسار عند المهيمن للانقضاض وقلب الموازين والمعطيات لأن ميزان القوى هو معطى تاريخي طارئ ومؤقت حسب غرو. هذا الشعور الخفي والرغبة المؤجلة في التمرد قد لا تتحقق إذا اخذنا بعين الاعتبار فشل الثورات والمصائر المجهولة للشعوب والافراد، الخسارات التي تمس الأرواح والممتلكات، وما ينجم عن الثورات غير الموجهة والمؤطرة سياسيا. إن المذعن، هنا، « يستبدل الخيبات الأليمة ووجع الأحلام المنكسرة بحلاوة التسليم للقدر» ص46.
أضف الى ذلك ما ترسخه آليات التنشئة الاجتماعية التي تعمل على زرع وتلقين عدد من الافكار من قبيل أن «تفاوت المستويات الاجتماعية هو في المحصلة أمر طبيعي، وأن تفوق الزعيم راسخ بسبب مواهبه الطبيعية «الذكاء والنزاهة».
يتساءل غرو أيضا في هذا الكتاب عن الأسباب التي تجعل العصيان شديد الصعوبة: ما الذي يدفع الانسان الى صعوبة الرفض والمخالفة والتجاوز: هل احترام السلطة أم الخوف من المجهول: هل هو الوفاء للالتزامات الأصلية أم الخوف من العقاب والتتنكيل أم هو نتيجة لخمول سلبي يجد سنده في ما تقوم به إيديولوجيا الإذعان دائما بـ»إفهامنا أن الوقت قد فات للعصيان».ص145

الطاعة بين الامتثال والموافقة

في تفسيره لبعض صور الطاعة المفرطة، يقول غرو إن الطاعة قد تتحول « إلى عربون امتنان، وتبرير الأوامر الصادرة، هذا ما يمكن أن يسمى «الطاعة المفرطة». طاعة تسير من الأسفل الى الأعلى وفق تصور عمودي، لكن لا يجب، مع ذلك، إغفال أنها تسير في اتجاه أفقي كذلك تغذيه وتتداخل فيه التواطؤات والمنافع التي تسمح هي الأخرى ببروز إذعان آخر، يمكن أن نطلق عليه، تجاوزا،» إذعانا بالسلسلة»، كل طرف يستمتع بقهر الأدنى منه وهكذا دواليك. ص60 . إن الطاعة في هذا المستوى تجرد من المسؤولية لأن الفرد المطيع لا يقدم الحساب لأي أحد.
يقيم غرو نوعا من التمييز بين الطاعة الامتثالية التي يحركها بشكل أساسي سلوك الاخرين، والخوف من الإقصاء والانضمام الى «القطيع» بفعل الاعتياد حتى وإن لم توجد قوانين زجرية تلزم الممتثل بالخضوع لقواعد عامة وعدم الخروج عنها، وبين طاعة الموافقة التي يتم خلالها قبول القوانين بسبب سلطة القضاء والجيش والشرطة وهي موجبة للاحترام، أي انها محكومة بميثاق «العقد الاجتماعي» الذي ينظم الحياة السياسية وفق قواعد اللعبة الديمقراطية، ولهذا سماها بـ»الطاعة السياسية». فالفرد يطيع لأنه مواطن. إنه في هذه الموافقة يقع سجينا لذاته «الموافقة هي طاعة حرة واستلاب طوعي وإكراه مقبول كليا» ص147، وهي « الصدى المتجدد لإذعان أولي يبغي خصوصا إغلاق باب الطاعة ويجعل العصيان مستحيلا وغير قانوني»ص152. هذه الاستحالة تبقى مع ذلك شيئا متفجرا وتدميريا كامنا في فكرة العقدالاجتماعي، فـ»المواطن يفوض لكنه يستطيع دائما أن يستعيد سيطرته على الأمور» ص159، وبالتالي فحركات الاحتجاجات الجماعية، وليس الفردية، يمكن أن تقرأ من زاوية كونها فترات لتجديد العقد الاجتماعي.
يعتبر غرو أن صفة «الطوعية» في هذا النوع من الطاعة «معللة وقائمة على الشعور بالمسؤولية… انني ألزم نفسي بحرية.أنصاع لأوامر شخص آخر ولكن انطلاقا من قرار شخصي..إنني أطيع بكامل إرادتي. وتدل الطاعة على تفعيل الإرادة لا على استقالتها… .»
يدعو غروفي نهاية الكتاب الى إعمال الديمقراطية النقدية والمقاومة الاخلاقية، وهو ما أطلق عليه «الأنا التي لاتفوض « والتي «يصبح معها رفض الانقياد الجماعي حركة تاريخية حقيقية ومكينة عندما يحدث اهتزاز جماعي لـ»ذوات لا تفوَّض» في إطار من المسؤوليات التي تتحد لتتحمل «مسؤولية العالم» الذي لا يمكن أمام المظالم الواقعة فيه اليوم أن نستمر بالتظاهر بأنها لا تعنينا: «دائما هناك صلة تربطنا بها، وشيء من معنى البشرية ومصيرها التي ننتمي إليها يتم إقراره»ص208.


بتاريخ : 28/02/2020