فضل العلم والتعلم على العقل والجسد والبلد..

 

قال النبي صلى لله عليه وسلم: «إن لله لم يبعثني معنِّتاً ولا متعنتاً، ولكن بعثني معلماً مُيسراً» رواه مسلم.
و قال: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه…»
الإنسان ابن بيئته …فإن فسدت فاحتمال فساده وارد ..إلا من عقل ووعى وتعلم وميز واختار الأصلح والصلاح، وبيئة عيش الإنسان وخاصة في العصر الحديث تتفاعل وتتأثر إيجابا وسلبا بالاختيارات التي تمتد آثارها للسياسات والعلاقات المختلفة الداخلية والخارجية، ومما يزيد الأمر تعقيدا والطين بلة عدم تأهيل الفرد والجماعة على جميع المستويات ليكونوا أقوياء ومنتجين ومبدعين وقادرين على مواجهة تحديات العصر والإعداد لمتطلبات المستقبل برؤية استراتيجية علمية رصينة…
إن الجسد مخلوق مركب من تراب الأرض التي استخلف فيها، حي بالروح، مدرك بالعقل ..وسنقول تجاوزا متفاعل بالقلب ..فإذا طغت الشهوات والأطماع والنزوع إلى الظلم والطغيان والتسلط ..يتحول العقل باسم الجسد إلى مخطط ذكي وبليد ليشرعن للهيمنة والتحكم، وليحفز ويشجع النكوص والجمود والسلبية، وليلبس كل ذلك بغطاء الدين أو القانون ليصنف الناس إلى فسطاط «الصالحين» الذين يعرفون ويحددون بمعايير لا علاقة لها بالفلسفات ولا بالشرائع، بل بمقاييس منتهية صلاحياتها وظالمة ضوابطها، وهي في خيال منتجيها والمؤمنين بها من باب الطاعة التي يجب أن تكون عمياء وتفرض على الملزم بالإتباع أن يعطل عقله وروحه ويجعل جسده حمالا للحطب وموقدا للفتن وفاقدا للإحساس والإنسانية يفعل ما يؤمر وإلا فهو من فسطاط «الفاسدين» و الضالين ومن المغضوب عليهم في الدنيا مع ما يترتب عن ذلك من إيحاء بأنه سيشمله الغضب واللعنة في الدار الأخرى…
إن المعلن والمبطن في كلام البعض أو المندس بصيغ في مواد وبنود تعتمد كمرجع وضعي يقوم على قاعدة ما يعطى بيد يؤخذ وينتزع أكثر منه بالأخرى، وقد يعقبه بطش باليد والكلام والقلم حيث لا يعذر أحد بجهله للدين ولا للقانون، ولو أنه لا يقرأ ولا يكتب ولا يجد وقتا لإعالة نفسه وبالأحرى أسرته، فكيف يتسنى له أن يقرأ ما تفرغ له الخبراء صباح مساء، يهيؤونه على نار هادئة وأحيانا قوية، لا يزاحمهم أحد أو يعطل تأملاتهم وتدويناتهم الملزمة، ورغم ذلك يقعون هم أنفسهم في متاهات وأخطاء و.. تستفز كل من علم وأدرك من داخل الأوطان ومن خارجها ..والجميع يعلم أن الشرائع السماوية يحاسب على ضوئها من وصلته بصفائها الأصلي وبلغت وشرحت له واقتنع وآمن بها ..وعدالة السماء لا تدفع بالمسؤولية على من لم تبلغه الرسالة ولم يعلم بها ولا بالأنبياء …
فالروح منصهرة وممتزجة وحالة بجسد الإنسان ..وفي نفس الوقت هي مجزأة داخله لأن العديد من مكوناته تحيى وتموت وتتجدد باستمرار بالإيجاب والسلب والنقيض مثل الضمير وحسن الخلق والوفاء والعدل والصدق ..الخ .. ومنها ما يبقى حيا حتى تخرج الروح كلية فتنهي الوجود المادي والاجتماعي للراحل أو الراحلة ولا يتبقى إلا الولد الصالح والأخوة الوفية والعلم المنتفع به والأعمال البناءة أو ما أنجز لوجه لله من أعمال تحقق للناس مصالح ومنافع ..
إن ما يطلق عليه «العقل» فهو حقيقة وطبيعة الأنا التي توجه الروح والجسد للقيام بما يراه مفيدا ومحققا لمصالح ومنافع ولو كان على حساب سكان الأرض كلهم ..
ولفهم حالة ووضع معين على سبيل المثال من هم في وضعية إهمال كامل أو اهتمام ضعيف وموسمي، مثل الأطفال أو المسنين أو ذوي الاحتياجات الخاصة .. فالأمر يحيل على سؤال محوري: هل كل من يعتقد من الناس أنه سوي ومصلح ويعلم .. يرى بعين الواقع و العقل و بصفاء الروح الأشياء والأحوال كما هي..؟؟ أم أنه مستأنس لحد العبث والإدمان بذلك الوضع البئيس الذي إما لا يعنيه مباشرة، أو يتنكر له ويتجاهله؟
فأي عقل هذا وأية روح هاته؟ وما حال المسؤوليات إن كان بها أمثال هؤلاء؟
إن حال الروح والتي هي بطبعها كما يقال شفافة وبفطرتها طيبة وخيرة والتي تتطبع وتتغير نحو السلب بفعل المحيط وميولات الشخص وإكراهات الواقع …مثل حال «الفراغ»، والذي ليس فراغا حقيقة بل هو وجود مادي غير مدرك بالحواس يتجسد ويعرف بالعلم ..فكلما أهملنا تغذية الروح وتحصينها والسمو بها نحو معاني الإنسان الراقية، وكلما تراخينا و ارتجلنا في مجال التنشئة والتربية والتعليم والتأهيل.. كلما ساهمنا بوعي أو بجهل في إغراقها في ما يفسدها ويهلك الحرث والناس والوطن …والنتائج السلبية المختلفة خطورتها وأضرارها تظهر في كل مناحي الحياة، فتفقد الثقة في العمل السياسي المؤسساتي الذي من مسؤولياته العظمى تعليم الناس وتهيئتهم لمواجهة كل التحديات فتتراجع العلاقات إلى مستويات قد تصل إلى القطيعة والاعتزال والشك في كل المبادرات واليأس وما ينجم عنه من ظواهر منفلتة تضعف الطمأنينة ..
إن ما يسري على الدولة يسري على الأفراد والعكس كذلك ..فروح الدولة هي من أرواح الشعب تتقوى بهم وتضعف …وعقلها لا يستقيم ولا يحقق المطلوب مادام العقل الفردي غارقا في الجهل وضعيفا في معارفه، ومحاصرا بهموم ومشاكل تشعره بالدونية والإحساس بالإهمال كليا أو جزئيا ..وجسد الدولة سيجد صعوبة في تقديم العطاء والخدمات اللازمة، وجزء كبير من هذا الجسد عاطل أو معطل أو فقير لدرجة العدم أولدرجة التسول أو في وضعية خصاص وهشاشة، أوغير مؤهل ولا مكان له في العمل والإنتاج والبناء ..
لهذا فالمدخل للإصلاح والتغيير لن يكون بالسياسات الترقيعية والجزئية في كل القطاعات وخاصة التعليم والتربية والتأهيل .. فأهم استثمار في أية سياسة تتوخى أن يكون لها مكان بين الأمم الرائدة والمتحضرة يهم تعليم وتثقيف وتحصين الإنسان، وهذا يتطلب تخصيص حصة مهمة من المالية العمومية وحتى من الاستثمار الخاص للتعليم، أما ما هو معتمد ماليا عندنا وعند العديد من الدول فلا يمكنه تحقيق إصلاح حقيقي مستدام للقطع مع مرحلة التردي والتراجع ولوضع برامج قوية محددة الأهداف والنتائج لإنقاذ كل الأجيال المعاصرة لتدارك الاختلالات المختلفة ..بأن يكون للخريجين من الجامعات مكان بالمجتمع، وللنهوض بمستوى أبنائنا وبناتنا بالتعليم الثانوي والإعدادي والابتدائي وما قبله وتدارك الضعف الحاصل في المستويات ..ولتحسين وإصلاح أوضاع الشغيلة التعليمية بالبوادي والمدن وتوفير ظروف العمل التربوية الحقيقية بعيدا عن الارتجالية ..إن ظروف العمل والتمدرس ليست أمرا ثانويا بل هي من ضرورات ضمان النجاح …
إن من القطاعات الأساسية التي يجب إبعادها عن منظومة التعاقد هو التعليم والصحة العموميين لأنه بدون ضمان تعليم وعلاج للجميع تكون طاقات المجتمع الفكرية والجسدية ضعيفة وعليلة ..

قال لله عز وجل : (يَرْفَعِ للَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ۚ وَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) سورة المجادلة.


الكاتب : مصطفى المتوكل الساحلي

  

بتاريخ : 15/09/2017