فيلم «احتراق».. هاروكي موراكامي في رؤية كوريّة

قصة فيلم «احتراق» تشتغل
على العوالم النفسية والماورائيات، عدا عن الصراعات العاطفية والمادية والأخلاقية
كثيرا ما اقترنت عوالم الأدب بسحر السينما، ولطالما كانت غرائبية حكايا الروائي الياباني هاروكي موراكامي صفة لصيقة بكل رواياته وقصصه القصيرة، وطبعا يشمل هذا أيضًا حتى الأفلام التي تقتبس سيناريوهاتها من منبع هذا الكاتب الميتافيزيقي المميز.
«احتراق»Burning ، فيلم كوري لن يخلي سبيل مشاهده بسهولة. قصة تشتغل على العوالم النفسية والماورائيات، عدا عن الصِراعات العاطفية والمادية والأخلاقية. نبدأ كمشاهدين في اقتحام الحياة اليومية للشاب جونج سو (آن يو) ببطء مستفز في البداية وسرعان ما تهدأ دواخلنا مع حياته التي تبدو رتيبة، حين يلتقي بجارة قديمة له لا يتذكرها تمامًا هِيْ مِي (جون سيو جون)، تقدم مسابقة خفيفة في الشارع، ويربح هو كزبون ساعة وردية، يهديها لها أو يضطر لذلك، كونها من النوع الذي يفرض نفسه. ثم تجعله، بعد فترة تعارف قصيرة نسبيًا، يعتني بقطتها لتسافر إلى شمال أفريقيا. طبعا لا يمكن تجاوز مشهد تقشيرها للبرتقال، فهي فنانة في مجال التمثيل الإيحائي (المايم) وتتعلمه مع مدرب محترف. جملتها: «تعامل مع البرتقال كأنها شيء مادي موجود، ثم انس أمرها. الأمر بسيط». تختصر حياة كاملة.
بطل الفيلم جونج سو يعيش في كوريا الجنوبية على حلم أن يغدو كاتب روايات. هو يشتغل بدوام جزئي لكسب قوت يومه. فجأة تتشابك حياته مع تفاصيل جارته السابقة التي تعود من رحلتها من أفريقيا مع شاب ثري ووسيم. يُسحران معًا بطريقته الهادئة المهذبة وبأسلوبه الراقي في الحياة. شخص ثري لكنه لا يعمل. فقط يتكلم في الهاتف طوال الوقت ويملك سيارة ألمانية رياضية، كما يصفه بطل رواية موراكامي. لا يفهم الشاب جونج سو لم اتصلت به! ليأتي إليها إلى المطار حين تكون مع صديقها الجديد بسيارته التي كانت تنتظرهما. لاحقًا يلتقيان أيضًا، ويزوران الشاب في بيته القديم في الريف على الحدود مع كرويا الشمالية.
يبدو مع الوقت أن الشاب الثري يرى في صديقته عاملًا جديدًا مسليًا لا غير، خاصة وأنها ماهرة في لغة الجسد ورقصاته المطعمة بكلامها الطفولي عن أشياء طريفة وغريبة.
في جلسة حميمية مع وقت الغروب، يعترف الشاب الثري لجونج سو، بعد نوم صديقتهما، أنّ له رغبة دفينة متواصلة في حرق البيوت البلاستكية في الحظائر المترامية الأطراف. وأنه لا يرى في ذلك أي مدعاة للاستغراب أو الحيرة لإلحاق الضرر بأصحاب الحظائر، لأنه فعل يشبه تمامًا تساقط الأمطار حدّ الفيضان: «لا أحد يلوم الطبيعة».
يؤكد الشاب الثري أنه قد اختار الحظيرة القادمة، وهي جاهزة للحرق، يتساءل جونج سو بريبة وقلق إن كانت قريبة من المنطقة، يؤكد الآخر على ذلك بجملة أغرب: «إنها أقرب مما تتوقع».
هنا بالذات تبدأ ذروة الفيلم في «الاشتعال»، حرائق كثيرة يتحسّب لها المشاهد، تمامًا بالطريقة ذاتها التي بدأ بها الشاب جونج سو يبحث عن مواقع الحظائر التي من الممكن أن يحرقها الشاب الثري. عبر الخرائط وقارئ الخرائط الإلكتروني يحدد عددًا من الحظائر ويزورها يوميًا خلال رياضة المشي التي يمارسها فجرًا، يتفقد الخرائط بصورة دقيقة حتى سكنه هوس احتراقها، لدرجة أن أخذ ولاعته وكاد يحرقها لأنه لم يجدها محروقة رغم كامل الثقة التي تحدث بها الشاب الثري ناوي الحرق.
بعد أشهر، لا تزال الحظائر كما هي، ولا تزال رحلات جونج سو التفقدية متواصلة، يكتشف فقط غياب صديقته هِيْ مي التي اختفت ولم تعد تتواصل معه، يسأل عنها صديقها الشاب الثري الذي ينفي تمامًا تواصله معها، ويقول إنها شخص وحيد فعليًا وليس لها معارف كثر. هنا تزداد حيرة الشاب ويبدأ في تتبع حركات الشاب الثري ويزوره في بيته ويلتقيه صدفة في المقهى، ويكتشف أنه على علاقة جديدة مع فتاة أخرى، ظريفة الشخصية، كشخصية هي مي. ليبدأ معها مشوارًا جديدًا من التسلية على ما يبدو قبل التخلص منها.
لا يتقبل الشاب جونج سو هذا بأي شكل من الأشكال. ونراه في آخر الفيلم في منظر احتراق خاص، يقوم بطعن الشاب الثري بالقرب من إحدى الحظائر المجهولة، ويحرق الجثة مع السيارة وثيابه الملطخة بالدم، فيما يعود عاريًا في شاحنته الصغيرة التي يتنقل بها وهو يكاد يتجمد بردًا في ذاك الصقيع.
c. بادر هو وفعل ذلك. هل من السهل التقليل من عواقب الغضب وهواجس النفس الغريبة.
حين عاد المخرج لي تشانغ دونغ بهذا الفيلم، من خلال مشاركته في مهرجان كان السينمائي في دورته الأخيرة، كان يراهن على جمهور واسع لأنه يدرك تمامًا أن حالة الغضب هي حالة عامة، لهذا طعّم فيلمه بلقطات الرئيس الأمريكي ترامب، وبالأحاديث المرتفعة الكائنة بين حدود كوريا الشمالية والجنوبية، حديث عن الفقر والجوع والألم، عن رقصات الجوع الأكبر التي تتقنها باحترافية هي مي، عن البئر الجافة في بيت الجارة القديمة، وعن الأم التي تتخلى عن أولادها من ضغط الحياة وصعوباتها.
سواء قرأت رواية الكاتب الياباني هاروكي موراكامي أو شاهدت فيلم المخرج الكوري لي تشانغ دونغ «احتراق»، فإن لهيب تلك الحرائق سيترك أثرًا لا محالة والكثير من الأسئلة والحيرة والقراءات المختلفة، أليس العمل الفني احتراقًا في النهاية؟


الكاتب : نور الهدى غولي

  

بتاريخ : 08/12/2018

أخبار مرتبطة

  يستمر المهرجان الدولي للسينما المستقلة في مساره بخطى تابثة و مطمئنة، حيث شهد المركب الثقافي محمد زفزاف بالدارالبيضاء، ليلة

في الذكرى 22 لرحيل صاحب العديد من الأغاني الخالدة   حلت يوم الأربعاء 24أبريل 2024 الذكرى 22 لرحيل الفنان والمطرب

  “بعد توقيف برنامج “طريق المواطنة”، على قناة “تمازيغت” (الثامنة)، يبقى لنا الفخر بالتميز على مدى 13 سنة (…)، برنامج

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *