فيلم يوتوبيا … نحو سينما مغايرة «ماتيلدا المواجع… إهاب امرأة بين الواقعي والافتراضي»

ثمة شابة جميلة لم تكمل عقدها الثاني، وحولها تلتف كل خيوط حكاية فيلم يوتوبيا (Youtopia) ثاني أفلام المخرج الايطالي بيراردو كاربوني، ماتيلدا (18 سنة) شابة تعيش في بيت صغير مع أمها العاطلة وجدتها المريضة، ثلاث نساء في بيت واحد، ثلاث أجيال بينهما هوة ساحقة، ثلاث رؤى للعالم مختلفة. تعزل ماتيلدا نفسها داخل عالمها الخاص، نراها داخل غرفتها حينا مستمتعة في لعبة تفاعلية تحريكية مولدة بالحاسوب على شكل رسوم ثلاثية الأبعاد، سعيدة بعلاقة حب تبدو ممكنة مع شخص افتراضي (هيرو)، وحينا آخر في موقف تعري أمام حاسوبها على مواقع إباحية من أجل كسب المال، تتوالى الأحداث لتصل إلى مرحلة حيث تضطر الأم إلى مواجهة مشكل سيشكل بؤرة التحول في الفيلم، سداد ديون متراكمة أو الحجز على البيت، هذا المشكل سيعري على تفاصيل ستصعد من إيقاع الفيلم، وستفتح عين المشاهد على أحداث مختلفة، أمام تكالب المشاكل وقلة الحيلة ستضطر ماتيلدا لعرض عذريتها للبيع في مزاد على إحدى المواقع الإباحية، ليظهر الطبيب الصيدلاني العجوز المحموم بالرغبة والحياة بعرض يمكنه من الظفر بالمزاد، تتسارع الأحداث في حبكة متماسكة عرف من خلالها المخرج كيف يوصل فيلمه إلى نهاية يبلغ فيها حدود الإتقان والإبهار والدهشة.
الفيلم منذ بدايته يقطع مع ذلك الزمن حيث كان الجميع يخرج إلى فضاءات عمومية للتعارف وتشارك الحديث والبحث عن صداقات أو علاقات، نحن الآن أمام زمن مختلف… زمن ماتيلدا التي تبدو في غنا تام عن الخروج إلى الفضاءات العمومية، فكل ما تحتاجه من العالم الخارجي تملك له الوسائل لإدخاله إلى عالمها/غرفتها حيث تستطيع العثور على كل ما يمكنها التفكير فيه…
هناك عنصر جوهري في الفيلم يمكن اعتباره من العناصر المهمة، يكمن في اعتماد المخرج على تقنية برمجيات ألعاب الفيديو ثلاثية الأبعاد، والتي شكلت فضاء عبور يتيح للمشاهد الخروج من الأحداث (الواقعية) إلى عالم افتراضي، مشاركا بذلك في ملء الفجوات والفراغات التي يخلقها العالم الواقعي داخل سير أحداث الفيلم، وإن كانت هذه التقنية تخلق عنده حالة من التغريب، نتيجة ما يحسه من مفارقة بين حياة ماتيلدا الافتراضية حيث الحب والأمان، وبين حياتها الواقعية حيث المهانة والاستغلال…
إن استغلال المخرج للوسيط السينمائي وتعزيزه بوسائل جديدة (ألعاب الفيديو/الانفتاح على العالم الافتراضي)، يقطع به مع التمييز بين الإدراك البصري والإدراك الافتراضي، بين ما هو مادي وما هو متحول، ويفتح المجال لدخول خبرات فعلية متاحة في وسائل جديدة بنفس درجة وجود عناصر أخرى في الصورة الخطية المعتمدة في السينما… تلك السينما الجامعة الشاملة التي لها القدرة على شفط باقي الفنون، والتي حري بها استدعاء خبرات وحساسيات وقدرات جديدة ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وهذا توجه يتبناه المخرج بقوة من خلال إدراكه لفعالية وحساسية الرقمي/الالكتروني/العالم الافتراضي… في تعزيز فيلمه بجمالية غير المكتمل وغير اليقيني.
إن مشاهد اللعب بين ماتيلدا وهيرو ترمينا على الفور في التغريب/الاغتراب، فالمشاهد كلها ثنائية، ووسط غرفة مغلقة، وأمام شاشة حاسوب، ونحن نسمع صوتا وصورة لشخصية من عالم الألعاب، نرى ماتيدا ونرى انعكاس صورتها في اللعبة، نسمع صوتها الحقيقي وصوتها الافتراضي على الشاشة بلسان غير إيطالي (الانجليزية).
هذا المزج الذي أبدع فيه المخرج بين الصورة الخطية وبين صورة ألعاب الفيديو، يحقق به انسجاما كاملا وتعبيرا صادقا، إنه يفتح نافذة على أفكار وأشكال جديدة باعتبارها إمكانيات حقيقية للوسيط السينمائي، وهو الإجراء الذي لعب دورا باهرا في توهج الفيلم وحيويته وقوته.
يبدو أن الفيلم وما يتفرع عنه من تأويلات لم يكن مشغولا بتقديم منظومة قيم أخلاقية، بل كان التركيز ـ ظاهريا ـ على شبه دعوة غير صريحة إلى استغلال الفرص، ولو قدر لشخصيات الفيلم تحقيق هذه الدعوة لكان توقهم إلى المتعة والسعادة والرفاهية والحب ممكنا.
الأكيد أن للحياة السعيدة أسبابها ومسألة تحقيقها تخص الفرد والمجتمع على حد سواء … لكن الفيلم يعلن انحيازه أكثر إلى اعتبار حالات الفشل الفردي في الارتقاء الاجتماعي هي مسألة يتحمل عواقبها الفرد، وبالتالي تبقى المبادئ التي تسهل ارتقاء الفرد لينعم بحياة كريمة ضائعة بين ما هو أخلاقي وبين ما هو شعبوي.
في المقابل يفتح الفيلم نافذة عريضة على تسلط فكرة المال من خلال العجوز أرنستو، الذي أدى دوره بإتقان شديد الممثل أليساندرو هابر، والذي يحضر كشخصية متلاشية تتوق إلى عوالم مشتهاة، عوالم حيث الموسيقى الرفيعة والنساء الجميلات وحكايات السندريلا … لكن في لحظات فارقة تستبد به فكرة الاستحواذ والاستيلاء على كل ما ينقصه ليلتجئ للمال والثروة والقسوة كوسيلة لبلوغ غاياته…
الأكيد أن من النتائج الحتمية لتسلط المال والثروة هي تعاظم الوضيع وتسلط الأهواء والرغبات، لكن أرنستو العجوز هنا وبكل تعقيداته ينتزع منك في لحظات معينة (رب عائلة/صيدلاني ناجح/صاحب ذوق رفيع…) شيئا من العطف بالنظر إلى ما يبرز من شخصيته، لحظات لا مكان فيها للوضاعة، تمنحك ذلك الشعور ـ غير الأكيد ـ بالتعاطف معه حتى في أقصى لحظات القسوة والضعف والرغبة، وكأن المخرج يحاول أن يخلع عنه بعضا من صفات الوحش التي ترافق المال والثروة من شرور وفقدان للضمير وقيم الخير، عزاؤه الوحيد هو البحث عن مجد شخصي ضائع من خلال خلق عالم خاص به يحفل بالرغبة واللذة… وبشكل خفي هو ذاك الرجل الذي يكابر للحفاظ على إنسانيته وتواضعه وخوفه من خلال تشكيل حياة غير الحياة التي يعيشها، فهوسه ( بنات الهوى…) وهواه (الموسيقى الكلاسيكية /سنفونية سندريلا/ مثل نحلة في أيام أبريل لروسيني) وأحلامه ومتمنياته وتوقه إلى اعتراف بعالم لم ينله من العائلة (ساندريلا) الذي لم يتذكره لا الابن ولا الزوجة، والأغنية (ساندريلا) التي يستمع لها وحيدا، وماتيلدا التي طلب منها أن تلبس (السندريلا)… كل هذا بدا تحققه ممكنا في لحظة اللقاء الذي وصله باكرا في مشهد يشكل ذروة الجزء الأخير من الفيلم.
تميز الفيلم بحضور قوي لبطلة الفيلم التي أسند دورها للممثلة الشابة ماتيلدا دي أنجليس، التي حضرت بسمات مميزة ومختارة بعناية لتقديم حالة اجتماعية معينة، ولتعكس صورة مصغرة ومقربة عن فئة من المجتمع الإيطالي (الشباب) وجدت في العوالم الافتراضية ترياقا يفجر مكبوتاتها ويستوعب حاجاتها المختلفة. تظهر البطلة ماتيلدا عارية تخوض محادثات ماجنة على مواقع إباحية، لكنها تحتفظ في داخلها بتصور نقي للرومانسية من خلال علاقتها الافتراضية مع هيرو، وتقدم نفسها كشخصية نزقة تضم إلى براءتها وشفافيتها العزم والطيبة الفطرية التي تنقلب عكسها في مواقف معينة (مشاهد التعري/موقفها من بيع السيارة/ وقوفها البطولي لتجاوز محنة حجز البيت/ إدارتها للقاء مع العجوز …).
بحبكة متجددة ينميها وجود مشاهد مهيمنة حافظت على إيقاع الفيلم متصاعدا، استطاع المخرج أن يقدم للمشاهد لحظات من الذروة مشكلة في مشاهد لن نصفها ـ عمدا ـ لأن الوصف لن يكون أمينا بقدر تحقيقها لحالة من الدهشة والصدمة، نعرض مشهدين على سبيل المثال: مشهد بروز مشكل الحجز على البيت في حالة عدم سداد دفعات القرض، أو بالأحرى مشهد العقدة التي عرضت على واقع أسرة تعيش وضعا اجتماعيا غير مريح، هذا الوضع كان سببا في انحراف ماتيلدا وتعريها على مواقع إباحية، وهو السبب الذي سيجعل الأم مضطرة أيضا إلى التناوب مع ماتيلدا للتعري بغرض جني المال لتفادي الحجز على البيت.
المشهد الثاني وهو المشهد الأخير في الفيلم، حين يصل العجوز أرنستو إلى بيت ماتيلدا حيث لا وجود لظل رجل، مشهد مفجوع ومتخم بالأحاسيس والمشاعر المختلطة، تنفس العجوز ونظراته الشهوانية لماتيلدا الساندريلا، ومحاولة الأم اليائسة لخلق نوع من التسوية لتجنب لقاء ماتيلدا بالعجوز، وصراع ماتيلدا بين قبول الرقص مع هيرو أو إتمام صفقة البيع، لقاء العجوز كان سيكتب له أن ينتهي كاملا مع ما صاحب تلك النظرة المباشرة من إحساس ورغبة وانبهار، زاده مفعول كمية مضاعفة من حبوب الفياغرا توهجا ورغبة، لقد بدا أنها لحظة انتصار للعجوز، لكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، لم يقدر له الاستمتاع باللحظة، كانت ضربة مقص خلف باب موصد كافية لتقطع عليه الطريق… يموت العجوز وهو يتطلع في مشهد يائس وصادم وتراجيدي إلى باب مغلق على حلم ورغبة لم تتحقق، وفي لحظة بدا فيها الغفران والتجاوز هما ما بقي للعجوز من الحياة للتطهير بعدما امتنع عن قتل الأم، ولينطفئ سعيه المحموم للظفر بمتعة أمام يأس الأم وتهورها…
هناك ما هو جدير بالملاحظة، وهو أن المشهد الأخير/النهاية وخصوصا موت العجوز بذاك الشكل، قد جاء صادما وفجائيا وكأنه قدم على عجل، وهو اختيار لم يضعف من وحدة الفيلم ولم ينقص من قيمته، لكنه لم يستجب لانتظارات المشاهد الذي كان مهيئا لنهاية أخرى يحتملها سلوك الشخصيات التي بدت بعيدة عن العنف والإجرام، لهذا بدت نهاية من قبيل (تمنع ماتيلدا/تدخل الزوجة/تقتله الفياغرا…. مثلا) أقرب النهايات… لكن تشاء ضربة مقص غير متوقعة أن تكون هي الفيصل، بين مصير الأم المجهول التي اختارت في لحظة يأس أن تكون قاتلة، وبين مصير العجوز المغدور الذي شيعته تلك النظرة الأخيرة لغرفة ماتيلدا نحو عالم آخر، وبين مصير ماتيلدا التي اختارت أن تنزع عنها ثوب الساندريلا وترقص في عالم حيث لا ضغينة ولا قهر ولا استغلال، تختار الرقص مع هيرو الذي لا تعرفه واقعيا في عالم يوتوبيا الذي شكله من أجلها، وهو (إن جاز لنا استدعاء هذا التأويل) لا مكان كما يعنيه اللفظ (Utopia) وقد تحقق فيه لماتيلدا ما حملته دلالة التعبير في الأصل (مع الانجليزي توماس مور الذي استخدم هذا التعبير للدلالة) العيش في مكان مثالي يتحقق فيها الخير والسعادة ولا أثر فيه للشر.
ليبقى في الأخير باب الغرفة المغلق شاهدا على مصائر مختلفة، وفيصلا بين عالمين مختلفين، عالم واقعي تجلى فيه الجرم وقلة الحيلة، وآخر افتراضي شُكل فيه مكان للرقص والحب…
من المهم التأكيد على أن المخرج لا يهاجم صراحة ولا يدين تعيينا، ولكنه يقدم احتجاجا على سبيل الإطلاق، ويعكس وضعا واقعا يعيشه المجتمع الايطالي، الذي بات شأنه شأن مجتمعات كثيرة يبتعد عن قيمه الأخلاقية … بالتالي فهو يفضح ما يشوب المجتمع الإيطالي من نواقص ومشاكل بترفع كبير عن الشقاق الاجتماعي، وبعيدا عن تبني موقف فضح اجتماعي صريح، فلا يمكن بأي حال حصره في قمقم ضيق أو خندقته في زاوية محددة، فهو ينظر إلى الأمور السلبية في كليتها بشكل يخدم تصوره وبنيته بدون إجتزاءات أو إسقاطات أو انزلاقات…
يجعلنا الفيلم نحافظ على مستوى من الفضول حاضر وثابت نتيجة حالة القلق والتشويق، مما يضطر المشاهد إلى متابعة الأحداث بدأب شديد. فيلم من الأفلام التي يحن إليها المشاهد بما يحمله من مفارقات وتناقضات، ففي عالم قاس ومتوحش حيث الاستغلال والنفاق والخديعة، تنبت قصة حب عجيبة لتزهر عالما (يوتوبيا) في إشارة إلى أن في الحياة ما يستحق العيش، اعتراف بالحب (لا أريد الهروب بعد اليوم أود النظر إلى عينيك) كان كافيا ليشكل نقطة الصفاء الوحيدة التي تستحق النجاة، ويُوصد بابا كان مفتوحا على ريح لا يأتي منها إلا الخراب والموت… قصة حب لم تكن كافية لتنجو معها كل السفن.
يبقى السعي وراء الحب والسعادة والمال هو ما يدور حوله الفيلم، فيلم حول الأخلاقيات الاجتماعية، تتقلب فيه الشخصيات بين التوق إلى حياة كريمة، وأخرى بقناعة زائدة للاستمتاع بالحياة، وفي سعيهم هذا يستباح كل شيء، إذ لا ضير من الحصول على المال طالما هناك فرصة لذلك، كما لا ضير للحصول على المتع طالما هناك فرصة لذلك.


الكاتب : عبد الله صرداوي

  

بتاريخ : 16/02/2019