في أربعينيته بمراكش: خوان غويتيسولو.. العصافير لا تغرد إلا في أعشاشها

في أربعينيته التي بادر إليها أصدقاؤه، اختلط وجه خوان غويتسولو بوجه مراكش و جامع الفنا، و امتزج كل ذِكر لاسمه على ألسنة من ساهموا في هذه اللحظة النادرة من التكريم و الاعتراف، باسم هذه المدينة التي ألهمته طريق الهناء و سبيل السعادة و فتحت أمامه متاهات الإبداع و الحلم .
بين خوان و جامع الفنا، توحدت الأسماء و توطدت المحبة و تناسلت الأسئلة. لكن خوان غويتيسولو ليس فقط مشروعا للحفاظ على التراث الشفوي بالساحة، لكنه أيضا و أساسا كاتب كبير ، و متأمل عميق ، و عقل قلق حافل بالأسئلة قلما استكشفت قوته الأدبية و الفكرية بعمق و جدية في أفقنا المغربي.
في هذا اللقاء الذي احتضنته مراكش في يوم السبت 15 يوليوز 2017 ، فاضت معاني التثمين و المحبة و الاعتراف في حق الكاتب و المناضل خوان غويتيسولو ، و عم الإنصات وتذوق طعم الصداقة من خلال الشهادات التي قدمت في حقه..

 

عبد الحق عندليب: كانت إقامة خوان بمراكش لحظة من لحظات التأمل والكتابة والقراءة

في الرابع من يونيو من السنة الجارية رحل عنا الكاتب العالمي خوان غويتسولو ، حيث فقدت المدينة هذا الرمز المعلمة الثقافية والفكرية والأدبية، بعدما اختار الراحل « غويتيسولو» الاستقرار بمراكش منذ حوالي خمسة وثلاثين( 35) سنة.
لقد قضى «خوان « بعد عمر حافل بالعطاء والإبداع في مختلف المجالات الأدبية والفنية والسياسية والحقوقية..، وتفتقت عبقرية هذا الرجل وقريحته بشكل خاص بعد استقراره في المدينة الحمراء التي عشقها و أحب أهلها وتعلق بحضارتها وثقافتها العريقة ، كأنه بهذا التعلق يريد العودة بثقافته الأم  الإسبانية إلى مهدها  وروافدها الضاربة في عمق الحضارة والتراث المغربي.
«خوان غويتيسولو» لم يتصرف كسائر الأدباء والمثقفين والفنانين الأوروبيين الذين جاءوا للاستقرار ببلادنا من أجل الهروب من صخب الحياة الأوروبية، والبحث عن الهدوء والراحة، وكأنهم يتصورون البلاد قبلة للاصطياف خالية، بدون سكان وبدون ثقافة، كما صور ذلك الأستاذ محمد سعد الدين في تقديمه للعدد الخاص بمجلة ( أوريزون ماغربان)، بل إن « غويتيسولو « قد حاد عن هؤلاء جميعا، لتكون إقامته في المدينة الحمراء لحظة من لحظات التأمل والكتابة والقراءة في التراث والحضارة المغربية والعربية والإسلامية، وهو ما ساعده على ما أنتجه من كتب وقصص وروايات مستوحاة من عمق الثقافة المغربية، ومن واقع مجتمعنا المغربي بمختلف تجلياته و خصوصياته.
ومن الأعمال الجليلة التي تشهد على تعلق «غويتيسولو» بوطنه الثاني المغرب وبمراكش مدينة إقامته إلى أن أسلم الروح إلى باريها، مرافعاته لدى منظمة اليونسكو لتتبوء ساحة جامع الفنا مكانة متميزة ضمن التراث الشفوي الإنساني العالمي.
ولم يكتف «خوان غويتسولو» بالانشغال بالقراءة والكتابة بمعزل عن أهل المدينة الحمراء وعن همومهم وقضاياهم، بل ارتبط بساكنة المدينة عضويا وروحيا، حيث تعلم لغتهم وخاطبهم بها، وجلس مجالسهم واندمج في حياتهم البسيطة، حيث يعرفه الصانع التقليدي والتاجر وأصحاب (الحلقة)  وجيرانه في الحي الذي يقطنه، وسكان عدد من أحياء المدينة التي كان يرتادها، كما عاشر وجالس واشتغل مع ثلة من المثقفين والمبدعين وأهل العلم والسياسة وحقوق الإنسان.
ومن الأعمال التي لا يمكن أن ينساها المغاربة والعرب والمسلمين دفاعه المستميت على مغربية صحرائنا من خلال ما كتبه في هذا المجال، حيث تعد من المراجع المهمة التي يجب الاستدلال بها، وكذلك دفاعه عن المطالب العادلة والمشروعة للشعب الفلسطيني، وتنديده بالصهيونية وبالغطرسة الإسرائيلية. ومن أجل النبش في خصال هذا الفقيد العزيز على كل المراكشيين والمغاربة، وإبراز خصاله ومناقبه الحميدة استدعينا في هذا الحفل التأبيني ثلة من المثقفين والباحثين والإعلاميين والسياسيين الذين كانت تربطهم بالفقيد أواصر الصداقة والعمل الإبداعي والفني، الذين سيسلطون الضوء على العديد من أعماله، والجوانب المرتبطة بحياة الراحل « خوان غويتيسولو».

محمد الضويوي : خوان
المغرم بمراكش
ما أكثر المارين بمدينة مراكش، وقليل بها مرور الرجال، لرجال مع مراكش مواعد، مواعد مراكش مواقف الرجال، رجال خلد التاريخ أسماءهم، وذاكرة التاريخ حفظ ود الرجال، فمدينة مراكش بعمقها التاريخي الحضاري والثقافي التراثي الإنساني النضالي الإبداعي البطولي والملحمي، كرم سكانها وأهلها عنوان محبتها، نراها عند مدخل قنطرة تانسيفت فاتحة أذرعها للترحيب بالعناق والأحضان للوافدين عليها من الرجال، تشملهم برداء دفئها وعطفها، تضمد بحنوها جراح غربتهم، تنسيهم بحبها أهلهم وأوطانهم.
ألتمس من حضوركم تواضعا وقفة إكبار وإجلال لروح فقيدنا فقيد مدينة مراكش « خوان غويتيسولو». من الصدف أن اليوم يكون قد مر على وفاة « غويتيسولو « أربعون يوما بالتمام والكمال، وفي هذا اليوم تأبى ثلة من أبناء مدينة مراكش، أن تلتئم في احتفاء باحتفالية تأبين احد رجالاتها الوافدين عليها من وراء المتوسط، المخلصين الصادقين المتيمين بها إلى حد الافتتان، وحدهم الرجال، وحدهم خالدون، من يحتفى باحتفالية موتهم وتخليد ذكراهم، إنه الكاتب الإسباني المفكر الأديب المبدع « خوان غويتيسولو « الذي وافته المنية صبيحة يوم الأحد 04 يونيو 2017، بمسكنه بدرب سيدي بولفضايل بالقنارية، بعد عمر حافل بالمواقف النضالية الإنسانية والحقوقية، وبالعطاءات الفكرية والأدبية المتميزة.
كان الفقيد مغرما بمدينة مراكش، التي اختار المقام بها منذ سنة 1976، قضى بها أكثر من نصف عمره، ألفته أحياؤها العتيقة وفضاءات مآثرها التاريخية، وألف كل مساء وقع خطاه التواءات أزقتها الضيقة وزقاقها وامتداد دروبها، كان يفضل أن ينادى عليه باسم « خوان المراكشي»، ولحبه لمدينة مراكش وسكانها أعلن امام ملك إسبانيا وهو يتسلم جائزة « سيرفانتيس «، أنه يتشرف بإهداء هذه الجائزة إلى  سكان مدينة مراكش الذين احتضنوه بحنوهم ومودتهم ورحبوا بشيخوخته  المتعبة، ولحبه لمدينة مراكش وسكانها، كان يقدم نفسه كمثقف وكأديب مراكشي للأدباء والكتاب على المستوى العالمي، حيث أن مدينة مراكش جعل حبه لها، ان يحرص على تعلم اللغة المغربية الممزوجة بـ ( قوفي المراكشيين )، جلس في مقاهيها الشعبية، للذين يذكرون مقهى « ماطيش « قبل ان يتم إغلاقها الآن،  مقهى « الستيام «، مقهى « فرنسا «، كلها بساحة جامع الفنا، فرواد هذه المقاهي ورواد الساحة، لازالوا يستحضرون هيبة الرجل ووقاره وصمته.
« خوان غويتيسولو « رجل تربطه كذلك بساحة جامع الفنا ارتباط عضوي، أعلن نفسه مدافعا عن الثقافة الشعبية وعن الساحة، وقد خاض معارك على مستوى الكتابات باقناع المفكرين والأدباء وأعضاء لجنة منظمة اليونيسكو حتى استطاع ان ينتزع منهم الاعتراف بساحة جامع الفنا سنة 2002، على أنها تراث شفوي إنساني عالمي.
هذه الساحة التي واكبها وواكبته، والتي افتقدته على غفلة منها، لن يتح لها أن تشارك في جنازته، ولا أن تقف على قبره لكي تلقي على الأقل كلمة وداع في تأبينه، سىاحة جامع الفنا تأبى هي الأخرى اليوم، إلا أن تشارك في هذا اليوم  وفي هذا الاحتفال النوعي، وأن تبعث بكلمة تأبينية في حق الفقيد، ولتسمحوا لي أن ألقي كلمتها التأبينية بالنيابة عن ساحة جامع الفنا : « خوان غويتيسولو، أيها الفقيد الغالي، لقد مرت علي ليلة احد 04 يونيو 2017، مثقلة بالحزن والأسى، بالمرارة وأقصى درجات الحسرة والألم، أطفئت الأنوار وأوقفت حركة السير والجولان، وواصل روادي ومقدمي اللوحات الفنية التراثية التي ثؤثت فضاءاتي كل مساء، واصلوا صومهم بالليل والنهار، وتحولت معشوقتك في تلك الليلة إلى بحر لجي زاد من شدة حلكته لوعة الفراق، أيها العاشق الوامق، كنت عاشقا مولعا إلى حد الهوس، وأعلم أن عشقك إلهي مقدس طاهر منفرد متعالي عن كل النواقص المريبة  الدنيئة التي تجر مواكب العشق والهيام إلى فراش الرذيلة والإغراء، خوان غويتيسولو، ماذا أنا فاعلة في غيابك الأبدي، وقد أبحرت في رحلة سرمدية ما بعدها من رجوع؟. أخشى ياعاشقي الهائم المولع أن تتعرى سوءتي لغيابك وكنت أنت سترتي، أخاف أن ينقض علي المتربصون، متعددو الشهوات، المرضى بالشبق الانتهازي، منعدمو الحس الوطني والذوق الجمالي، أخاف أن يبادروا و أنت أعرف بجشعهم إلى تنفيذ مشروعهم المتمثل في طمس معالمي كساحة، أجمع الاعتراف العالمي الذي كنت أنت من بين خيرة محركيه، أنني تحفة تراثية جاد بها الزمان المغربي على مدينة مراكش، ذات الثراء الثقافي التراثي الشفاهي المتنوع، والإبداع الإنساني  المتميز الأصيل، كما كنت تغازلني صباح مساء، عزائي أيها العاشق في مصابي الجلل أن أتمثل يوميا ذكراك، وماذا بقي لي بعد رحيلك الأبدي إلا ذكراك، نم يا عشيقي في مثواك وهنيئا لك بما أسديت .

محمد آيت لعميم: خوان
الذي رحل وفي نفسه
شيء من جامع الفنا
انتدبت لقراءة هذه الكلمة نيابة عن رئيس كتاب اتحاد المغرب فرع مراكش. في البداية نتوجه بالشكر لكل من دعا لهذا الحفل التأبيني للكاتب العالمي « خوان غويتيسولو «، إنه يستحق الكثير منا هذا الكاتب الكبير الذي اختار طواعية ان يستقر بيننا، ولم تكن إقامته في مراكش مجازا، بل كانت إقامة حقيقية قد استحقها، حيث كان فاعلا مدافعا عن المدينة وعن ارثها الشفوي والتعريف بالساحة وروادها، ما جعله يخصص مجموعة من الأعمال الروائية الشهيرة للساحة وللمدينة، نذكر منها ، « رواية مقبرة « التي اختار لها عنوانا اقترضته اللغة الإسبانية من اللغة العربية.
وبالمناسبة فإن هذه الرواية التي كتبت حول الساحة وخلدتها، كان « خوان « قد أهدى مخطوطتها لمدينة مراكش، وكنا قد حضرنا حفل تسليم هذه المخطوطة إلى مكتبة ابن يوسف بـ (الداوديات) الحي المحمدي بمراكش، وهي مخطوطة بخط يد المؤلف، لكننا اليوم لا نعرف مصير هذه المخطوطة  النفيسة، التي لابد أن تخرج إلى الوجود ويحتفظ بها في مكان علني، لا أن تخفى و لا نعرف لها أثرا، لا سيما وأن مخطوطات الكتاب حينما يرحلون تصبح في عداد الكنوز التي لا تقدر بثمن.
وفي روايته الأربعينية التي كتبها عن حرب العراق المدمرة عام 1991، كانت مراكش بأزقتها وأحيائها وساحتها مسرحا لهذه الحرب، وكذلك روايته « أسابيع الحديقة « تجري بعض أحداثها في حي القصبة، وكل أعمال « خوان « تشغل فيها مدينة مراكش حيزا ومكانا، كنت مرة مع « خوان « في ساحة جامع الفنا، وفاجأته بسؤال لم يكن ينتظره، قلت له لما لا تنتقد الكتاب المغاربة والعرب؟، فأجابني : « ما أكتبه وأستلهم فيه التراث العربي، هو طريقة في النقد لأولئك الذين ذهبوا يبحثون عن الحداثة في الكتابات الغربية، بينما الحادثة تقبع في النصوص الكبرى التراثية العربية  الإسلامية»، وكأنه يقول للكتاب المراكشيين والمغاربة بصفة عامة، «إن مدنكم  وأحياءكم مازالت في حاجة لمن يكتبها، إنها أصلية للكتابة».
التفاتة محمودة على عهد الشاعر والكاتب حسن نجمي، الذي كان رئيسا لاتحاد، منحت العضوية الشرفية لاتحاد كتاب المغرب للكاتب العالمي « خوان غويتيسولو « عام 2003، وفي السنة نفسها طلبت من « خوان غويتيسولو « أن نكرمه في اتحاد كتاب المغرب فرع مراكش فأبى، وقال لي : « لا أحب التكريم «، لم أقنعه إلا بعدما قلت له : « إننا سنقيم لك يوما دراسيا حول أعمالك «، إذاك استجاب وعلمت أن الرجل لا يحب البهرجة، كنت حينها قد هيأت ورقة، واستدعينا لهذا اليوم كل من ابراهيم الخطيب مترجمه، وبنعيسى بوحمالة، ومحمد أمقار، وحسن بحراوي، ومحمد أيت لعميم، وابراهيم أولحيان، وعبد الغفار السويريجي، كان لقاء هاما تناولنا فيه بالدراسة أعمال « خوان « الروائية والفكرية، وقد كانت فرحته عارمة، لما التف حوله هؤلاء الكتاب المغاربة .

 

وبالمناسبة إن «خوان غويتيسولو» كان يحب أن يرى اسمه مكتوبا بالعربية، حيث تناولوا أعماله، وأؤكد على أن كتابات «خوان» لم تقرأ بعد، ولم يدخل معها الكتاب والأدباء والقراء المغاربة في تشابك واستلهام، وإذا أردنا أن يكون احتفاؤنا بـ «خوان» احتفاء مجديا، لا بد من قراءته والاستفادة من أعماله ومواقفه والاعتناء بتراثه، حين أبّنت « خوان « بمعية الصديق العزيز جعفر الكنسوسي، في ذلك المكان الموحش (المشرحة) بباب دكالة بمراكش، تخيلت لحظة أخرى كان فيها ابن عربي وابن جبير يشهدان ترحيل ابن رشد نحو قرطبة، ومما قاله ابن جبير وجثمان ابن رشد فوق الدابة: « هذا الإمام وهذه أعماله *** ياليت شعري هل أتت آماله»، فهل آمال «خوان» تحققت في مراكش؟. أعتقد أن «خوان» رحل و رُحّل وفي نفسه شيء من جامع الفنا، التي رآها في آخر أيامه ولم تتحقق آماله فيها، وأعتقد أنه غير راضي أن يقبر خارج المدينة التي عشقها وأحبها وأحب أهلها البسطاء،  وإذا كانت هناك نوايا حسنة لأهل مراكش، فيجدر بهم أن يكملوا ما بدأه « خوان « ومجموعة من مثقفي المدينة، وأن يتم الاعتناء بتراث المدينة الشفوي المتمثل في أحسن وأجمل ساحة بقيت إلى اليوم تحتفظ بهذا البعد الشفوي .

جعفر الكنسوسي: كنت كلما لقيت خوان إلا وتحسر بأسف وخيبة على جامع الفنا
نجتمع اليوم من أجل الذكرى، ذكرى رجل غريب بغربة الأدباء، ارتحل عن وطنه وحل بيننا في هذه المدينة، أعني مراكش داخل السور، وكما يقال : « من قبل أن يخلق ( الكرمو ) «، أي من قبل أن تلجأ نخبة من الأجانب إلى سكنى الرياض والديار بمدينتنا، تنبه الراحل « خوان غويتسولو « لآدمية المدينة العتيقة في وقت غاب عن نخبنا الروح الحضارية لمراكش، التي تقادمت في أعين الجم الغفير من مثقفينا أبناء البلد، ومن عجب الأشياء أنه لما استقر بها « خوان غويتيسولو « في أواسط السبعينات من القرن الماضي، كان التخلي عن الأنموذج الحضاري التاريخي قد حدث وانسلب منه أصحابه وهجروه بلا رجعة.
كان الراحل يقول : « المغرب بلد مزيج من الفن والواقع» تتجلى هاته السمة ناصعة في ساحة جامع الفنا أو جامع الفِنا، أحببت أن أعود لأُذكر وأذْكر مجريات أحداث مر عليها عشرون عاما، تتصل بوقت تحول معنوي عميق، كان صراط هذه الساحة في قلب هذه الأحداث». أيها الحضور الكرام، إن الأحداث الكبرى تحل بمشية الحمامة الوداع، في الوقت الذي نظن أن التاريخ قد استراح في بلدنا، يخرج من متونه أمر جديد، يلهم العالمين، ومراكش كذي القرنين صروح مادية ودخائر معنوية، ويبدو لي أن الرياض كنموذج عمراني من جهة، وتراث الساحة غير المادي من جهة أخرى، قد ألهم الناس الذين لهم قدرة على إدراك هذا الشأن، وبهذين الشأنين يمكن لمدينتنا أن تقف من جديد عن حياة أفضل، وتصنع السعادة لأهلها، والوافدين عليها على السواء، لكن أين نحن من ذا وذاك؟ ونتساءل هل قبلنا الهزيمة الثقافية على غرة منا؟. لما يئس « خوان غويتسولو « من بلده وتكلست الأمور به غاية أي بإسبانيا، ساقه سائق السعادة إلى مراكش، ومن يعرف الأديب وكتاباته يقف على مدى إجلاله لاكتشافه الذي أحرق قلبه وقلب حياته، وكتب بكتابات فريدة روايته « المقبرة «، وكأن لغة هذا الكتاب تبهت قارئها بقدر ما تفيض ساحة جامع الفنا بماء الأدب.
لقد بقي الكاتب « خوان « وفيا لعهوده، وفي عام 1997، سيرشح هذا التراث رشحة جديدة، ويجدد الكاتب « خوان « عمله، وهو المحب القديم والقن الخديم لهاته الساحة، ويمكننا أن نقرأ في صفحة اليونيسكو اليوم الخاصة بالتراث الشفوي الكوني، « أقيم بمراكش وبمبادرة من مثقفين مغاربة ومنظمة اليونيسكو اجتماع، والأصح هو( استشارة دولية)، تم خلاله تحديد مفهوم التراث الشفوي للإنسانية وتعريفه، كما تقرر جعل فرق من أجل صيانة روائع هذا التراث وتثمينه، ويسمى هذا الفرق إعلان روائع التراث الشفوي غير المادي للإنسانية، وتم إطلاق هذه التسمية لأول مرة عام 2001، بعد دراسة معمقة وتمحيص على قائمة أولى بأسماء هذا التراث، وذلك لترشيحات مقدمة من قبل الدول الأعضاء»، انتهى كلام (بوابة اليونيسكو اليوم)، ويمكننا أن نقف : من هؤلاء ياترى، هاته الثلة من المثقفين المغاربة والمراكشيين على التحديد الذين عملوا إلى جانب الراحل والكاتب « خوان غويتيسولو « رحمه الله؟ وكلمة الفرق للتفريق بين التراث المادي والمفهوم الجديد للتراث الشفوي غير المادي؟.
أيها الحضور الكريم، الغاية من كلمة وجيزة إظهار وظيفة مراكش، ودورها التاريخي في بلورة مفهوم جديد سيتداول، ويصير مفهوما كونيا، و هي في الحقيقة حكاية ابتدأت بنص كتبه الراحل « خوان غويتيسولو « في جريدة الباييس وبعده في جريدة لومند ديبلوماتيك يشدد فيه عن أصالة ما يجري بساحة جامع الفنا، وكيف أن الناس هم صناع هذه الفرجة وهذا الترياق المجرب، صنعوه لأنفسهم وكما قيل : « ومن شدة الظهور الخفاء «، فكيف يا ترى خفي عظم شأن الساحة المعنوي عن جمهور السياسيين وأعلام الوطنية ؟ وكيف صاروا على غير هدى في هذه القضية منذ سنوات الخمسينات من القرن الماضي؟
وهذه قصة أخرى طويلة ينبغي أن نقف على رسومها، ونرى كيف أن مجموعة من كبار علماء مراكش، انتصروا لهذا التراث وآخرون خاصموه مخاصمة؟ في عام 1997، وكان بدأ شأن قصة التراث الشفوي للإنسانية، حينما أسهمت في هذا العمل مجموعة من الأساتذة المثقفين على رأسهم الراحل « خوان غويتيسولو « وجعفر الكنسوسي، وامحمد أبو أيوب، الصيدلاني المعروف، ورشيد الهدى، المهندس المعماري، وحسن جلاب الدكتور العميد، و أحمد المتفكر، والتيلاني، والمرحوم عبد الله المصباحي، الفنان المسرحي، وعمر بورﮔبة، و وداد التباع، وثورية إقبال، والمرحوم محمد أمين الورزازي، و المرحوم علي بلمعلم، الأديب الفقيه، والمرحوم عبد الله شلييح، وعبد الرحمن الملحوني..،وسأعمل إن شاء الله على إصدار مجموعة كبيرة من الوثائق عن هاته البداية غير المعروفة اليوم.
ومن حسنات ومزايا ذلك الوقت عام 1997، حينما قررت الحكومة المغربية ومنظمة اليونيسكو تنظيم ندوة هنا بمراكش، مابين 26 و28 يونيو بنفس السنة، للنظر في هذا الأمر الجديد والمجدد، كان مصدر إلهام، وصار على الألسن في دول المعمور، حيث كان انطلاقه من مدينة مراكش، وبعد أربع سنوات من المداولات المسترسلة في منظمة اليونيسكو، حصل اختيار وانتقاء ساحة جامع الفنا، هذه الساحة التي تسهم على المستوى الكوني إلى جانب الهند والصين واليابان، ومن حسنات كذلك إعلان ساحة جامع الفنا تراثا شفويا كونيا، انه لا يحق اليوم لأحد ان يبني بناء مشين أو لا يتماشى مع الشروط المرعية في البناء الجانبي والمجاور لساحة جامع الفنا، الحضور الكريم عندي وثيقة نفيسة بشأن الفنون الشعبية بمراكش، بين الشفوي والموسيقى، التي قدمتها مدينة مراكش، تحت إشراف اللجنة الوطنية المغربية للتربية والثقافة والعلوم، وهي التي كانت تحت تصرف الجميع، وبدعم معنوي من اليونيسكو أسسنا أول جمعية اسمها « ساحة جامع الفنا تراث شفوي « بعد سنة 1997، وأذكر أن السادة الذين كونوا مكتبها، هم : مصطفى الزين ( رئيس )، وخوان غويتسولو وجعفر الكنسوسي وحامد التريكي و محمد لكنيدري و محمد حسن الجندي رحمه الله، و امحمد أبو أيوب ورشيد الهدى ووداد التباع.
و لتكون الصورة مكتملة عند الجميع، وفي ذلك الزمان شرفت بأن أسهر على أمسية يحييها عشرة أو أحدى عشر من كبار الرواد بمدينتنا مراكش، فتأتى لي وبكل سعادة أن اتصل وأنسق بالساحة عشية يوم الجمعة 27 يونيو 1997، حيث كان يوما استثنائيا بأن حضر أحدى عشر ( حلايقي ) كبار الرواد، عملوا عملهم وأبهتوا من جاء من الدول المشاركة من خلال اليونسكو، وكانت باقة من حكايات الحكواتيين والسير، ومغربة حكاية أو فيلم « الساقي « الهندي، وحكاية « العاشقة «، وحكاية « الحكيم أفلاطون «، والحكاية المغربية « لغزاوليني «، و قصة « الظاهر بيبرس «، وقصة « الفيروزية «، وتقليد « الدكتور طبيب الحشرات « رحمه الله، وحكاية « ألف ليلة وليلة «، و» سفر عنترة إلى العراق «..
وما يمكن أن نتنبه إليه اليوم، أنه قبل عشرين عام كان يمكننا أن نجمع عشرة او أحدى عشرة من كبار الرواد المراكشيين، الذين هم كلهم بمثابة خزانات هائلة متنقلة من الثقافة، أما اليوم فلن يتأتى لنا للأسف ولو جمع اثنان أو ثلاثة من هؤلاء العظماء البسطاء، وأختم ما الجدوى من أن تعلن ساحة جامع الفنا تراثا شفويا من طرف العالمين من خلال اليونيسكو؟ إذ بقدر ما نحن نشيد ونجتهد بقدر ما الأمر يرجع إلى الوراء، وهذه هي الحقيقة، فهل نجح الجامعيون الذين أخذوا بزمام الأمر في تمثيلية المشروع، بل وحتى غير الجامعيين والبلدية ووزارة الثقافة والمدينة كافة؟ وحال ساحة جامع الفنا راجع إلى وراء، ينبغي أن لا نخفي هذه الحقيقة، أن المشروع بأكمله كاد أن يكون قد أخفق إلى حد الآن، فهذا الكاتب العظيم الذي نحن نجتمع في ذكراه رحمه الله، كنت كلما لقيته إلا وتحسر بأسف وخيبة ، وهو يقول لي، كما قال الأستاذ محمد أيت لعميم قبلي قولة الشيخ محي الدين بصدد الإمام الوليد بن رشد الحفيد : « هذا الإمام وهذه أعماله**ياليت شعري هل أتت آماله؟»، فيمكننا وبكل صراحة، أن نصارح أنفسنا، هل أتت آمالنا؟ وهل آمال الأستاذ الراحل « خوان غويتيسولو «من خلال الإشادة، ومن خلال الإعلان عن ساحة جامع الفنا تراثا عالميا؟

جمال أماش : خوان صوت متفرد في سماء الكتابة وفي أرضها، و طائر مرتحل في الحياة و الموت
عندما اتصل بي الصديق عبد الحق عندليب، الكاتب الإقليمي للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بمراكش، للحديث في هذا الموضوع لم أتردد في الحضور ، وبالتالي تقديم شهادة رغم عدم توفر الوقت لدي لكتابتها، حيث وجدني أقرأ كتاب « خوان غويتيسولو علامات هوية «، ولذلك قررت أن أقدم مداخلة صغيرة تحت نفس عنوان هذا الكتاب، حيث يتكون برنامج هذه المداخلة من تقديم و شقين.
بالنسبة للتقديم أنا أثمن هذه المبادرة الاتحادية، لرمزيتها ودورها في الاحتفاء والاعتراف والتقدير لكاتب كبير مراكشي غادرنا ، و قد تأثرنا بفقدان هذا الكاتب العالمي ، بل يعد عالميا من عيار ثقيل. يقول محمود درويش : « الديار إذا غاب أهلها تموت» ويقول « خوان « : « العصافير لا تغرد إلا في أعشاشها «، و ما سمعناه هو نوع من الاعتراف ومن البوح لكاتب كبير يعز علينا فراقه، كما يعز علينا تهجيره لدفن جثمانه بمدينة أخرى بعيدا عن مراكش.
الراحل « خوان « يعتبر الكتابة هجرة أو سفرا في الذات والآخر وفيه، لابد أن أشير إلى أن العمل الفكري والثقافي الذي نقوم به جميعا هو سليل المدرسة الاتحادية، وحينما أستحضر مجموعة من الرموز التي تربينا على يدها، كانت تبتدأ من الفكر و الثقافة في جدليته مع السياسة، ولابد أن أستحضر المشروع الكبير لفقيدنا عبد الرحيم بوعبيد ، وعمر بن جلون، و المهدي بن بركة. كما استحضر والدور الكبير الذي لعبه عبد الرحمن اليوسفي في أن تحصل مراكش على الاعتراف من طرف اليونيسكو بأن ساحة جامع الفنا تراث شفوي إنساني عالمي، وأن نذكر أيضا في هذه المناسبة الاحتضان الكبير لجريدة الاتحاد الاشتراكي لفكر وحوارات فقيدنا العزيز « خوان غويتيسولو «، هذا من باب الاعتراف والمحبة لأستاذنا وصديقنا الراحل « خوان «، إذ أن الصداقة ليست هي صداقة الكراسي، وإنما هي صداقة الكتابة والموقف والتفكير، إذن فهو بعد مهم جدا، ذكّرت بذلك لأن العمل الثقافي هو في صميم الدور الذي كان يقوم به « خوان غويتيسولو « كمثقف تقدمي كوني، وحينما نستحضر مواقفه وكتاباته ودوره، سواء بالنسبة لمناصرة الفلسطينيين أو المظلومين أو ضحايا سراييڤو ..، هذا كله يدخل في كون دور الثقافة أساسي مثلما يكون الجوع بالنسبة للفقراء والمظلومين وغيرهم، قلت ذلك كعتبة للحديث حول ما كتبته في مدة قليلة.
أما بالنسبة للشق الأول من هذه المداخلة هو تحت عنوان : « هوية الكتابة «، «خوان» هو صوت متفرد في سماء الكتابة وفي أرضها، طائر مرتحل في الحياة و في الموت أساسا، الكتابة ذاتها التي ستشكل هويته في العلاقة مع الذات ومقاربة الموضوع في المجتمع وفي العالم، كتابة تستحضر تجربة مثقف كبير، وعى مبكرا حراش السلطة ومآزقها المحرقة، بوعي مثقف قوي انتصر لقيم الأخلاق والسمو الإنساني البسيط، قريبا من صفاء الكينونة، بعيدا عن ميتافزيقا السلطة كل السلطة، وعي بقيم الخوف على حرية الإنسان وكرامته، والتشوف إلى مستقبل تختفي فيه أسلحة الدمار الشامل الأخلاقية والسياسية والعسكرية، وكما قرأنا في كتاباته الممتدة في الزمن واللانهائي وفينا، ماكتبه عبارة عن علامة هوية استثنائية، تبحث في أركيولوجيا عالم يمر بالظلم وبالإحساس السياسي، والاحتباس السياسي والمناخ الذي تعتبر العولمة أحد علاماتها المتوحشة.
هوية « خوان « وعلاقاتها وعلاماتها سفر في المكان والزمان، ومن برشلونة إلى باريس إلى نيويورك إلى مراكش التي تعتبر مستقره الأبدي، ليس كجسد ولكن كذاكرة منظور للنسيان المتوهج المنتج لفكر « خوان « وكتاباته وكراماته في محبة الناس البسطاء والفقراء المظلومين والمستعمرين وفي الدفاع عنهم، وهو يجسد الفكرة التي نحلم بها جميعا، من أجل مجتمع ديمقراطي حداثي متجدد وحيوي.
هكذا تعلمنا من « خوان غويتيسولو « في جلساتنا بالقرب منه، ولابد أن أذكر أن علاقتي مع « خوان « في أواسط الثمانينات كانت عن طريق صديقنا الفنان الفتوغرافي الكبير الأستاذ الفنان أحمد بنسماعيل، إذ كنا نجلس بالقرب من « خوان « حيث كان يبقى صامتا إلى جانب الناس البسطاء، وكنا نتعلم الصمت والإصغاء، لأن الكتابة ليست على الأوراق ولكنها كتابة بالذات، كما تعلمنا منه أيضا قلق الكتابة وإصغاء الذات إلى خرابها. في الساحة خلال حرب الخليج قبل أن يكتب « الأربعينية «، وحتى إن تكرم علينا بضحكة أو ابتسامة ساخرة من عبث الأقدار، أو في علاقته بالناس ليس بالكلام ولكن عن طريق الكتابة، كان «خوان « يناضل من أجل الاحتفاء بالإنسان الكوني.
هوية « خوان « زاوية هي التي يجلس فيها، التي يؤمها مجموعة من المريدين ومن الأحباب، من كل الفئات والأعمار والأمصار، « خوان غويتيسولو « مؤسسة متحركة منظمة في ذاكرتها و بنيتها وبرنامج عملها واستراتيجيتها.
بالنسبة للشق الثاني لهذه المداخلة وهي تحت عنوان « خوان هوية ذاكرة «، العنوان الذي استلهمته من كتابه الذي ترجمه وقدم له ابراهيم الخطيب، يتحدث فيه عن مجموعة من القضايا التي تتحدث عن ذاكرة الأمكنة وشجرة الأدب وغيرها، وما يمكن قوله في هذا الإطار هو أن « خوان « إنسان باحث صحفي ملتزم، الكتابة بالنسبة إليه هاجس وجودي وخلقي عظيم، الكتابة مشروع متنامي يحفر في الذاكرة الجماعية و يستعيد هجانة الهوية التي تتبلور عندها آلام الكلمة، الكتابة هي مشروع مستقبلي.
لابد أن أشير كذلك إلى الدور الذي قامت به زوجته « مونيك لانش « التي كانت تشرف على مؤسسة « غالمار» في ا لتعريف بمختلف كتاباته لكي يتضح هذا الدور الكبير أساسا لمونيك لانش، لكن في سنة 1963 سيعتزل « خوان « مجموعة من اللقاءات، وسيعود إلى الذات، حيث سيبدأ في كتابة مشروعه الفكري والروائي، وهي رحلة ستبدأ من فرنسا لتصل إلى مدينة مراكش، لكي يتخلص من أوهام المجتمع الإعلامي الغربي، وأنهي هذه المداخلة بإن « خوان « إنسان على نحو جديد، توقف على الانفتاح على مختلف الأفكار والاستراتيجيات، ليعود إلى مسقط ذاته فاختار المغرب، ولابد من الإشارة إلى أن « خوان « كان من المدافعين الكبار الأساسيين على القضية الوطنية خاصة في سنة 1978.
اختياره لمراكش ليس اعتباطا، ولكنه استراتيجية للكتابة، حيث أنه اكتشف فيها ذاته، من أجل كتابة رؤيا وقراءة جديدتين لتاريخه، والعلاقة ما بين إسبانيا والأندلس والمغرب، وقد استفاد من مجموعة من الصدمات والعقبات و الأخطاء التي تجلت في مشروع ثقافي وروائي كبير جدا، «خوان غويتيسولو» حينما ودعناه في مشرحة باب دكالة بمراكش، كانت الحرقة تأخذنا لأن جسده سيغادرنا، نحن دائما في هذا الإطار سنبقى نطالب بعودة جثمان صديقنا « خوان « إلى مراكش، حيث نحمل المسؤولية إلى الجهات الرسمية وعلى وجه الخصوص المجلس الجماعي بمراكش، كما نطالب أن توضع للراحل «غويتيسولو» مجموعة من الكتابات في ساحة جامع الفنا، وأن يسمى مقر باسمه سواء في جامع الفنا أو في غيرها من فضاءات مراكش، صديقنا «خوان» رحمه الله يستحق منا كل التقدير.


الكاتب : أعد الملف: محمد مروان / ع الكباص

  

بتاريخ : 28/07/2017

أخبار مرتبطة

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا

«هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟» مجموعة قصصية جديدة   «هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟»هي المجموعة القصصية الثالثة لمحمد برادة، بعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *