في الحاجة إلى درس في التاريخ والهوية وقيم العمران

«التاريخ خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، مثل التوحش والتأنس، والعصبيات، وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال»
ـ عبدالرحمان ابن خلدون (المقدمة ص57)

يلتقي فهمنا للتاريخ أسير اللحاظ العابرة وطفرات الذات المفردة، مع ما تجترحه تنويعات المفاهيم الكاشفة عن جملة قراءات تأويلية لا تؤطر في عمومياتها الجسور الممتدة بين الكتابة والمعرفة، التراث الفكري، والهوية والانتماء. إنها إسقاطات بولمرية أو وحدات ثنائية يتم تعويمهما تحت غطاءات تفكيكية تحليلية محايثة، تروم تحرير القصدية التاريخية من وجودها الإيديولوجي أو السياسي والديني، كتابات تاريخية تستند إلى الانتقاء القائم على التحيز والمهاترة والنرجسية.
لا ينفك هذا الأثر الغامر في أتون التاريخ ينسحب على جملة متون تاريخية أغرقت بعديد أسئلة وهواجس حول أولويات التوثيق التاريخي، بما هو تسجيل ووصف وتحليل لمجريات الأحداث السالفة، وكيف تتحدد تلك المآلات التدوينية لتاريخ وظروف السياقات وإعادة البناء والتفسير بأدوات ومناهج تاريخية خاصة.
إن مبدئية النظر في السياقات التاريخية وتأويل النصوص، تكشف بالملموس تحديقنا الجاهز لاستكناه عورات قراءات النصوص التاريخية ونقدها، بعد سلسلة أخطاء من قبل من يستدبرون المناهج المكرسة للحيادية الناظمة لعقل المؤرخ الذي يربط الوثائق بالحقائق ومقاربات الواقع بالوضع السياسي أو الأيديولوجي المعيش.
وتلك الوجهة المأسورة بالضمير العلمي والتدليل الأكاديمي وسلطة النص تمارس دورانها السيروري في آصرة قيم الموضوعية والحياد الإيجابي بتفاعل مع الوقائع، والابتعاد عن الذاتية التي تجعل من النص التاريخي مقيدا وخاضعا للتأويل لأجل أن يتلاءم مع منهج المؤرخ في الكتابة.
لا بد من مراجعة تقديرنا لهذا الخطاب، المليء بالتشاؤم والعدمية أحيانا، على الرغم من ثبوت دواعي الحذر والاستقصاء في مقدرات تدوينية كثيرة، تدثرت في جوانب عديدة بلبوسات مروعة، حذفت وقطعت وأعدمت وشوهت وحرفت ثقافات ونظم أخلاقية وحضارية ودينية غاية في الدقة والخطورة. ولعمري إن ذلك يغالط بشكل مقصود سياقات التنزيل والابتعاث وخلفيات التقويم والتقييم والتحليل والتقابل والتعيين والاستحضار.
وتتكشف هذه المراجعة الديداكتيكية إلى إعادة قراءتنا للهوية التاريخية وأثرها على الذهنيات والقابليات، بما هي استعادة لاقتدارية التاريخ وحضوره في الوجدان الحضاري والإنساني، ومواءمتها للمحددات المناهجية والنصانية للكتابة التاريخية. وربما يحتاج ذلك إلى صياغة مفاهيم جديدة تكون منطلقاتها تصحيح الفهوم الذائعة حول «التاريخانية» أو لاهوت التاريخ، وصناعة التاريخ والفكر التاريخي..وهو أمر يجتزئ شعبة عميقة من نظرية العروي في كتابيه القيمين « ثقافتنا في ضوء التاريخ» و» العرب والفكر التاريخي»، حيث يرتهن مصطلح التاريخانية لمدلول كائنية الإنسان، أي أنه كائن تاريخي بامتياز، وهي بحسب العروي دائما تقوم على مبادئ استراتيجية من بينها ثبوت قوانين التطور التاريخي وووحدة الخط التاريخي وإمكانية اقتباس الثقافة وإيجابية دور المثقف والسياسي.
ألا يكون ذلك شرطا أبستمولوجيا لمحاولة تأطير سؤال جدلية الهوية والتاريخ، حيث الانصهار ما بين المجتمعي والتاريخي، بإطلاق طيب تيزيني « الجدلية الذهنية المركبة» ـ وما يدمج بينهما عبر خطّي تداول يخلصان فيهما إلىالهوية البشرية.في كل الأحوال، يضيف تيزيني « يبقى المجتمعي والتاريخي وما يربطهما، الحقل الذي نحدد في ضوئه جدلية الهوية والتاريخ ـ «.
أي كيف نستحضر الماضي بحمولاته وامتداداته ونستنطق التاريخ بوثائقه ومستنداته ؟؟ تلك الهوية، بما هي خصائص لغوية وتاريخية ونفسية تؤدي إلى الفصل الحاسم بين مرحلة ومرحلة، جماعة بشرية وأخرى، والتي تنسج خيوطها من داخل التاريخ، وتحدث القطيعة بين الأشكال المحددة لتلك الصيرورة التاريخية المجتباة.
يبقى مأزق الهوية حاضرا بقوة في مركزية التراث العقائدي للعرب ومخياله العام، ويؤثر بشكل واضح في المجتمع والتاريخ.
وتعود تلكم الإشكالية بعد سلسلة أحداث وموجات تغييرات حاسمة على مستوى الأنظمة العالمية المتدافعة، واحتداد الصراع بين الخطاب الغربي المشحون بالهوس الثقافي والاستتباع الحداثي والهوياتي، ونقيضه الشرقي والعربي المبتدع لأنماط سلفية غير متحررة من رباق الماضي وانتقالاته السائبة.
صحيح أن النخب العربية اختارت التموقع في قلب متاهة صدمة الغرب، تقسمت وتردمت بين قوميات أيديولوجية متناحرة، فيها البعثية والاشتراكية والشيوعية، وفيها الدينية والليبرالية والوطنية. لكنها بالمقابل حاولت طرح بدائل هوياتية وثقافية خلال مرحلة استعادة الذاكرة الوطنية ووثاق التحرير بعد زمن من الوصاية الاستعمارية الغاشمة. بيد أنها لم تستطع الصمود لأكثر من نفض الغبار عن الأهم من ذلك، استثمار التاريخ بعقلية محايثة، وتصريفها في حدود نظرية لا تنخرط في صلب العملية التاريخية وأصولها العلمية السليمة.
لقد كانت نظرية الاستقلال الوظيفي في الفكر التحرري، عائدا استقطاعيا غير متناسب مع قيم الهوية والثقافة المغربيين. نظرية تنقصها الاستقلالية في القرار الديمقراطي، وبنية التواصل بين الحكم والممارسة.
فالهوية الجمعية التشاركية هي البنيان المتصل للأرض والشعب والتاريخ واللغة والطموح والطفرات التاريخية الداعمة، وما عدا ذلك ينفصل كلية عن فعل الباراديجم، من حيث كونه نموذجا فكريا مشبعا بالحماس الحضاري وتطوره الاتساقي والنفعي.
ألا يكون التوتير الدامغ بين قطيعتين جوهريتين، بين الهوية والتاريخ، سببا لاستجلاء علاقة حانقة تحكمها المخالفة والتباين، والهجران والغربة؟ مادام الجسر العابر بينهما ينكص ويتولى في غير هوى ولا سلطان!.


الكاتب : د.مصــطفى غَــلْمَـان

  

بتاريخ : 07/12/2018

أخبار مرتبطة

روني شار يقول بأن على الشاعر أن يستيقظ قبل أن يستيقظ العالم لأن الشاعر حافظ وجوه الكائن اللانهائية.شعراء أساسيون مثل

رَفَحْ جرحٌ أخضرُ في مِعْصم غزَّةَ، وَنَصْلٌ في خاصرة الريحِ. ماذا يجري؟ دمُ عُرسٍ يسيلُ أمْ عروسُ نِيلٍ تَمْضي، وكأنَّ

– 1 – هل الرمز الشعري الأسطوري ضروري أو غير ضروري للشعر المغربي؟ إن الرمز الأسطوري، اليوناني، خاصة، غير ضروري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *