في باب الحكمة

قال تعالى :(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ۗ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ )سورة البقرة

عن  الحكمة حسب بعض المعاجم  :
يقال الحكيم ل :” الذي يحكم الأشياء ويتقنها «، و  «الحكيم ذو الحكمة ، والحكمة عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم»
الحكمة علم وفهم ..وكلام موزون منطقي ومعقول ..وعمل متقن ومستدام ..
كل بناء معنوي وروحي ومادي يهم الانسان يحتاج  إلى جدية وقدرا مهما من التمكن من المعارف ,  ومستوى معتبر  في تخليق وترشيد للعقل , وتحديث لطرق العمل وملاءمتها مع الضوابط والحاجات , مع ترجيح الإنحياز للحق ضد الباطل في كل الازمنة والامكنة ولو تخفى وراء الدين أو القانون أو مركز  أو نظرية ما  , مع التزام  عدالة في التنزيل والتصريف  ماديا وأدبيا ومعنويا …فلا يقبل ولا ينفع إلغاء وتحريف التاريخ  , ولا يستساغ الترويج للاوهام التي لاتبني مجدا   ولا تحل مشكلات , ولا يجوز تجاهل واقع الحال بكل تمظهراته  , ولا يصح قلب الحقائق بتزيين وتجميل الأخطاء , كما  تكره الإساءة للمبادرات والاعمال الحسنة بما فيها النقد الموضوعي للسياسات والاوضاع  بجعلها من المنكرات ومن مسببات عدم الاستقرار   ..
فكما أن كل منشأة  لتمتد أفقيا أو عموديا  تحتاج إلى أساسات ومواد باستطاعتها  تحمل العلو المفترض للبناء بما يضمن الجودة والسلامة والإستمرارية في العطاء , حال الصعود و الإنتقال من قمة أدنى إلى قمة أعلى ..فكذلك الإنسان..
..إن كل سياسة للدولة أو للأحزاب والهيئات والمؤسسات والأفراد لايمكن لها  أن تحقق النجاح ببرامج كلها وعود مغرية تهدئ وتمني فئة أو منطقة أو طبقة  أو نخبة ..بمستقبل  غير واضح المعالم والاتجاهات ..وآليات وسرعة لاتتماشى مع المطلوب
إننا قد لانحتاج إلى جهد لمعرفة  الفقر والبطالة والأمية والتهميش والهاشة والعزلة و ضعف التنمية و نقص كبير في مستلزماتها من طرق ومناطق صناعية ومهنية  وتعليم  وخدمات صحية في المستوى ..في البوادي كما في المدن .. لأنها ليست مجهرية أو سرية ..بل شدة وضوحها يلفت انتباه قصير النظر وضعيف السمع وكل من يعيش قرب الشعب ومعه ..
ويمكن أن لا نحتاج إلى شكايات وتظلمات الناس فيما هو معروف من مشاكل هيكلية وما يتبعها من احتجاجات لنتداعى جميعا من أجل تدارك الامر  وخلخلة الأزمة وإيجاد حلول لها .. لأنه إن كنا لانعلم بالمشاكل الكبرى التي يعاني منها ويتأثر بها عشرات أو مئات الآلاف  فتلك معضلة كبيرة  إن تاملناها من منظور علم النفس وعلم الاجتماع وعلم الاخلاق ناهيك عن العلوم القانونية .. فسنجد أنفسنا أمام  إنفصام  أخلاقي جلي  يصيب الفكر والوعي والضمير بالتكلس  وغياب روح المسؤولية …
كما أننا قد نحتاج إلى دراسة تشخيصية متجددة ومواكبة لكل التحولات والتغيرات ليس على مستوى الرصد والضبط بل من أجل تسهيل إيجاد الحلول في وقتها المبكر والقيام بما يلزم ميدانيا وتنمويا لتجاوز الإكراهات والتغلب على التحديات والمعيقات  ..ووضع برامج ومخططات ثورية تحل الإشكالات وتتجاوب مع الإنتظارات …
إن من بين معيقات التنمية والتقدم أن تكون المؤسسات والقوانين  طرفا وسببا في التعطيل والتأخر وفشل البرامج ..فمثلا  تجد بعض الوزارات مشاكل معقدة فيما بينها عندما يكون هناك برنامج وتمويله متوفر ويكون العقار تحت وصاية قطاع حكومي  من أملاك مخزنية ومياه وغابات وفلاحة وأراضي الجموع ..ونخص بالذكر هنا  الأحباس والمياه والغابات حيث يصبح أي برنامج حكومي جهويا أو إقليميا أو محليا أمام إشكالات قد تتسبب في توقف او تاخر المشروع المنتظر , أو تحوله إلى سبب في التذمر والإستياء والإحتجاج للتأخير الذي يصل سنوات عدة دون أن تظهر ملامح انطلاق الأشغال بقدر ما تتعدد الاجتماعات وتتراكم المحاضر  ..وهذا يتطلب ضرورة  معالجة الإختلالات في المساطر والتشريعات  لتجنب تأخير و تعطيل  التنمية مع إصلاح منظومة القوانين المنظمة والمؤطرة لكل الأراضي التابعة للدولة بتنوعها وتعدد  الأوصياء عليها .. وأن تكون مفتوحة بيسر علمي مثمر أمام كل الإستثمارات العمومية أو المتكاملة مع التوازنات الإقتصادية ببعدها الإجتماعي والتنموي  ..كما يتطلب الأمر أن  ينظر المشرع إلى موضوع أملاك الخواص بنظرة استثمارية تعلق الأمر بقاعدة نزع الملكية أو الاحتلال المؤقت لمنفعة عامة دائمة أو مرحلية  ..ولم لا  جعل أصحاب العقارات شركاء في المشاريع التي ستقام على أراضيهم بالصيغ الملائمة والمنصفة لكل الأطراف ..
فليس من المقبول أن تقرر الدولة برامج تنموية ولا تستطيع تنفيذ العديد منها بسبب إجراءات ومساطر  وتشريعات تعتمدها ..أو بعلة   الإعتمادات المقترحة والمرصودة  ومساطر تنقلها في علاقة بالحسابات المفتوحة لها أو بسبب أن العقار يحتاج إلى إجراءات قانونية معقدة بين الوزارة الوصية عليه  والوزارة صاحبة المشروع و المعنية بتنفيذه ..
لهذا نحن أمام منظومة  تشريعات ومساطر و سياسات وممارسات وإشكالات تدبير الزمن   تحتاج إلى بناء جديد و إعادة  هيكلة جوهرية وفعالة متسمة بالنجاعة والمرونة والحكامة والجودة  ..لتجنب أن تصبح  مهددة بالإنهيار بأدنى هزة وحتى بدونها ..
إن انهيار القيم والثقة والمصداقية  التي هي من مقومات اللحمة  الضامنة لتماسك أي بناء  يتسبب في  تعطيل واعتزال وهجرة جل الطاقات الضرورية لتحقيق تنمية فعلية ديموقراطية حكيمة عادلة ومستدامة ..
إن تدبير اللحظة التي نحن فيها بكل المؤسسات من الجماعات الترابية إلى التشريعية والتنفيذية تحتاج إلى ثورة فكرية معرفية وثورة عملية علمية تقطع في الحاضر مع كل ما هو بئيس من الممارسات المتخلفة والفهم السطحي الشكلي للديموقراطية    والعبثية والتعصب والظلامية …
إن تعميم ونشر العلم والتعلم واكتساب المعارف وتملك المهارات واستثمارها على أفضل وجه في كل مفاصل الدولة أفقيا وعموديا أمر ضروري  ليستوعب ويفهم المجتمع ما يحصل ,  بل وليشارك في وضع  البرامج والبدائل والحلول ويستطيع التمييز بين  الصالح والطالح  من السياسات  ويختار بقناعة وحس وطني ..وليعمل كشريك قوي ويقظ بنملكه لعقل نقدي بناء يعي ما يقول ويفعل وما يحصل …
إن  أول تحد  أمامنا هو إطلاق ثورة شاملة مؤطرة بشكل جيد تجند لها كل الطاقات وتوفر لها كل الإمكانيات لبناء مجتع المعرفة .. فالشعب الذي سنخوض به المعارك ضد التخلف والجهل والتنافس القوي  بين الدول المتقدمة لايمكن أن يحقق المطلوب  وجزء هام من المواطنين  يشعرون  بالخصاص أو التهميش أو الغربة أو الظلم ..
قال ابن القيِّم: (الحِكْمَة: فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي)


بتاريخ : 03/11/2017