في حوار مع المحللة النفسانية والأنتربولوجية غيثة الخياط .. القراءة العميقة لرسائلي مع الخطيبي تجعله قريبا جدا مني، وفي الآن ذاته بعيدا عني

غيثة الخياط كاتبة وطبيبة ومحللة نفسانية، وأنتروبولوجية. أستاذة جامعية بفرنسا وإيطاليا وكندا. تنتمي إلى لفيف المثقفين المغاربة والمغاربيين البارزين المعاصرين. مؤسسة جمعية « عيني بناي» ودار النشر بنفس الاسم. أول امرأة في تاريخ المغرب، وجهت رسالة مفتوحة إلى ملك البلاد محمد السادس، سنة 1999 تعارض فيها الحركات الرجعية الداعية إلى عودة المرأة بوصفها ربة بيت.
ألفت الكاتبة الخياط عشرات الكتب: « المرأة الفنانة في العالم العربي» و «العالم العربي بصيغة المؤنث» و « أسئلةعربية» و»مغرب النساء العظيم» و»طب نفسي حديث للمغرب العربي»، وبعض الأعمال الأدبية من بينها «الحدائق السبع»، وقد جرت ترجمة العديد من مؤلفات غيثة الخياط إلى اللغة الإيطالية والإنجليزية. كما لها مقالات عديدة حول وضعية المرأة والفن والطب النفسي والسياسة والعلم…
وقد تقرر منحها جائزة ‹كوستا دامالفي›Maiori Costa d’Amalfi2007وجائزة «أسيزي» الإيطالية في نفس السنة، كما وقع عليها الاختيار للترشح لجائزة نوبل للسلام سنة 2008.

– أنت محللة نفسانية وكاتبة. هل تسبق كتابتك التحليل النفسي وتتقدم عليه؟
– تماما. لقد مارست الكتابة قبل أن أكون طبيبة ثم طبيبة نفسانية، قبل أن أخضع للتحليل النفسي (بباريس، مدرسة جان لاكان) وأصبح محللة نفسانية.

– كتبت في القصة القصيرة وعن الفن..
– أما الفن فأنا لم أكتب عنه فقط ، بل إني ممارسة له.

– لقد ظلمت عربيا وطالك النسيان على هذا المستوى.
-لقد بقيت النسوية لصيقة بهوتي في الكتابة.

– خضعت للتحليل النفسي، هل كان الدافع مهنيا أم شخصيا؟
– الأمران معا. فهذا الإجراء معمول به بمدرسة جان لاكان بباريس، والهدف منه تنمية قدرات الطبيب الطالب لضبط ممارسته وكان «برنار تيس» هو من أشرف على هذا التحليل النفسي
في الواقع، كان تكويني كلاسيكيا، في بداية الأمر، درست الفلسفة، واللغة اللاتينية ولغات أخرى. ولما صرت علمية، لم أقدر على التجرد مما تلقيته سابقا وهذا كان يفضي، منطقيا، إلى دراسة الآداب أو الفلسفة. أستاذي في الفلسفة (جون فيراري، متخصص دولي في كانط، صديق عبد الكبير الخطيبي) تأسف ولا يزال على عدم متابعة دراستي في شعبة الفلسفة لأكون «فيلسوفة». لكن أعتقد أنني صرت كذلك، على نحو مختلف، بالاشتغال في بعض مجالات الانتربولوجيا (أنا حاصلة على دبلوم في الانتربولوجيا من مدرسة الدراسات العليا في العلوم الاجتماعية E.H.E.S.S )، إضافة إلى أنني أحدثت كرسيا علميا في أنتربولوجيا المعرفة، بالجامعة الإيطالية.

– لماذا الأنتربولوجيا؟
– أنا أفضل الأنتربولوجيا، أما السوسيولوجيا فلا تعنيني كثيرا.

– «مراسلة مفتوحة» التزمت بالتحاب غير أن موضوعات أخرى طرحها الكتاب أيضا (التشكيل، اللغة، الترجمة، الالتزام…) وأخذت الرسائل بعدا آخر. هل كنت والخطيبي راضيين عند طرح هذه الموضوعات الطارئة؟ n بكل تأكيد، لم تعد هذه المراسلة لغرض نشرها، على أي حال ليس في بداية الأمر، رغم ذلك فقد كانت «مهددة» بالنشر، بما أننا كاتبان. توالت المواضيع أو تولد بعضها من بعض. متعتنا كانت في الكتابة والتبادل لأننا، من جهة أخرى، كنا نلتقي في مناسبات مختلفة خاصة بالمهرجان الدولي للفيلم بمراكش عند التحضير له وأثناء فعالياته. كان حديثنا يدور أيضا حول السياسة، الموسيقى، الأفلام، المؤتمرات الدولية، عن المكسيك، نادي القلم الدولي الذي أدخله إلى المغرب وبسرعة أدمجني ضمن أعضائه.
في الواقع، ظلت الرسائل بمثابة الخيط الموجه لصداقة تشكلت، بفضل هذه الرسائل، وتعززت دون انقطاع. كان التحاب، بيننا، إحساسا قويا بالصداقة، مزدوج الاحترام، والتواطؤ وبقدر كبير من التقدير المتبادل. في يونيو من سنة 2008 قدمته بمناسبة الندوات التي كانت تعقدها «سوشبريس» من أجل نوع لناد يضم الصحافة المغربية جميعها، في مقرها، بالدار البيضاء. هذا يعني أنني أقرأ له كثيرا وألم، في الحقيقة إلى حد ما، حسب كتاباته، بمجموع أعماله وفكره. القراءة العميقة لرسائله تجعله قريبا جدا مني وفي الآن ذاته بعيدا عني عصيا على التعريف.
إذن، ما تسميه بطريقة جميلة جدا «المواضيع الطارئة» لمراسلتنا كانت تغذي تفكيرا لاحقا، تساؤلات ينبثق بعضها من الآخر، فنتيجة اللامتوقع،تحديدا تظهر، رسائل متوالية بمرور الوقت…
حظي الكتاب بترجمات إلى الانجليزية والإيطالية، لكنه لم يعرف طريقه إلى العربية، إنه وضع كارثي حقا.

– أحصت رجاء بن سلامة مجموعات الرجال والنساء الذين كتبوا عن الخطيبي؛ هناك عشر مجموعات (أعمال جماعية)، ثمانية وعشرون كاتبا وعشر كاتبات، عدد النساء الكاتبات له دلالته، إذا قارناه بعدد النساء الكاتبات اللواتي اهتممن بمعاصريه من الكتاب، بصيغة أخرى الكتابة الخطيبية جذبت إليها الكتابة النسوية أكثر من كتابات معاصريه من الكتاب.
n أنا لا أتفق مع هذا التأكيد…إذا أردنا القول بأن عدد النساء اللواتي كتبن عن الخطيبي بالغ، أو مهم أو مؤثر، فالأمر نسبي تماما. كان الخطيبي يملك القدرة على الغواية الفكرية، وربما من هنا يعزى اهتمام النساء به. هناك أيضا واقعة تؤكد أنني لم أعمد إلى الكتابة عنه أو حوله، بيد أنني عمدت إلى الكتابة معه، وهذا أمر مختلف كليا.
علاوة على ذلك، فالأمر يبدو كاريكاتوريا بعض الشيء حينما نريد بناء ترابط بين النساء والخطيبي، لم يكن مناصرا للنسوية ولا معاديا لها. فالأهم هو تحليل مكانة النساء في أعماله، ورواياته، وشعره، ودراساته. فهذا موقف طفولي قليلا ما، القائل إن الكتابة الخطيبية تجذب كتابة النساء أكثر من غيره من كتاب عصره. إضافة إلى ذلك، ينبغي القول إن الخطيبي بذل كثيرا من الجهد حتى يعرف بنفسه ويصبح مقروءا، لكن دون القول، إنه كان متاحا أو مستعصيا، بالنسبة للجميع.

– هل كان الخطيبي مناصرا للنسوية؟
– لم يكن الخطيبي مناصرا للنسوية بالمعنى الحصري، ولا معاديا للنساء (فقد تقاسم مع كثير من النساء حياتهن). كان كثيرا ما يقف بجانب بعضهن، دون أن يكون مناضلا من أجل القضية النسائية أو النسوية. لا أعرف كيف استطعنا القول أو الكتابة، في أعماله: «يمس الأنثوي، الممتع…» بالنسبة لي، هذه جملة فارغة لا تعبر عن شيء ذي أهمية.
إضافة إلى ذلك، ما معنى أن يكون الرجل مناصرا للنسوية؟ هل هو الذي يدافع عن المرأة؟ الذي يكتب عنها؟ الذي يحبها؟ أريد أن أبقى، في إجابتي، مرتبطة بما عشناه وأنجزناه سويا: صداقة أكثر عمقا، واحتراما وتقديرا، مراسلة مكتوبة بخط اليد، ونقاشات أكثر جدية، فكرية، زاخرة بمواضيع الساعة، إشكاليات ثقافية، فنية، بل علمية أيضا. (نظم بالرباط في ماي 2005 يوما دراسيا شاركت فيه بمداخلة» العلم، العلماء، والمثقفون» والتي أصدر أعمالها، المركز المغربي لنادي القلم الدولي سنة 2007، بدار النشر عكاظ، بعنوان « المثقف، المجتمع، والسلطة».
هل من الضروري أن أرى في المراسلة التي تبادلتها مع الخطيبي موقفا نسويا من جهته، لأنه اختار التراسل مع امرأة بدلا من رجل؟ هذا وارد، وإذا كان الأمر كذلك، فسيكون أمرا سعيدا، وأنا جد مسرورة، وفخورة أيضا…أجيب بالتالي، بهذه الجملة الأخيرة، عن سؤالك الذي طرحته علي:» هل يمكن تعميم هذا الحكم على تجربة الكتابة الفريدة مع الخطيبي؟»، في ما يتعلق بما قالته رجاء بنسلامة.» يلامس الأنثوي، الممتع…هو إحصاء قامت به الجامعية التونسية رجاء بنسلامة- هل تتفقين مع هذا التعليق؟ (الندوة الدولية: أي إرث ترك عبد الكبير الخطيبي؟ 20، 21، و22 مارس 2019

– من وجهة نظرك، كيف تجدين الخطيبي في الكتابة المدعوة نسوية، وكيف تلقى هذه الكتابة؟
– تعرف أن كل شخص يتلقى العمل الفني على نحو مختلف، في مجال تحليل النص والتعليق عليه والدراسات المعمقة لكل ما ينتجه كاتب أو مؤلف أو مفكر، هناك حساسية الشخص الذي يدرس هؤلاء، مستثمرا حصيلة معارفه، ومجموع مؤلفات وكتابات المؤلف موضوع التحليل، وثقافته. وهذا يبين أننا لم نتخذ بعد المسافة لمعرفة من هم المتخصصون في الخطيبي، وإذا كان من بين هؤلاء المتخصصين تلك الكتابة المدعوة نسوية، والاستقبال الذي حظيت به لديها أعمال الخطيبي، هناك متن مهم، حاسم حقيقة.من المؤكد، هناك آسية بلحبيب، ونساء جامعيات أخريات أفضن في تحليل أعمال الخطيبي: فما أنتجنه هو ما ينبغي تحليله بدقة.

– ما المكانة التي تبوأها الخطيبي في التحليل النفسي؟ وكيف استلهم التحليل النفسي وأفاد من صداقاته مع المحللين النفسيين مثلك؟
– لا يمكن التحدث، بالدقة المطلوبة، عن مكانة للخطيبي داخل التحليل النفسي؛ غير أنه كان شديد الاهتمام به يقرأه بكثرة، شغل التحليل النفسي كثيرا الحقل الثقافي عندما كان طالبا بباريس وفي أوساط الانتلجنسيا في سنوات الخمسينيات والتسعينيات. كل أإصدقائه، وخاصة رولان بارث، إذا لم يكونوا خبراء في التحليل النفسي فهم على الأقل مثقفون لهم معرفة كبيرة بهذا الاختصاص وفي التفريعات
وفي التشعبات بين الفلسفة والأدب، الانتروبولوجيا، التحليل النفسي وتوجهات مثل البنيوية على سبيل المثال، فكل هذه التخصصات يغذي بعضها بعضا. من جهة أخرى فالمراسلتان الوحيدتان المحفوظتان والمنشورتان جرتا مع محللين نفسيين، جاك حسون وأنا نفسي.

– حكيت في موضع آخر أن محللة نفسية تقيم بباريس، ثارت ثائرتها لقراءة «عشق اللسانين»، فمزقت النسخة التي كانت تملكها (بعد قراءتها). إنها حركة من التحاب والجرح العميق.
سألتها إن كانت اقتنت نسخة أخرى
– أجل، أجابتني.»
كيف تحللين هذا الحدث المثير للدهشة الذي سرده الخطيبي، بوصفك محللة نفسانية وكاتبة وقارئة؟
– من المعتاد أن تنتاب الإنسان انفعالات عميقة، أشد عمقا، وأن تكون ردود أفعاله فورية، دون تفكير؛ إنها حالة هذه المحللة النفسانية؛ لم يحصل أن انتابني هذا الانفعال بقراءة «عشق اللسانين»؛ بينما، عزفت عن كتاب (وأنا أقرأه داخل غرفتي في فندق بمدينة تولوز)، دون أن أعمد إلى تمزيقه. أستطيع القول إن» آنسات نوميديا» لمحمد لفتح هي رواية تأخذ الأنفاس: لم أتركها بسبب مصيرها الحزين، بل تركتها لفضول الشخص الذي كان يتعقبني في هذه الغرفة من الفندق.

– من تقصدين؟
– إنه بكل تأكيد الكاتب محمد لفتح

– محمد لفتح أحد منسيي الثقافة المغربية، وبنفس القدر أنت كذلك عند القراء بلغة الضاد.
– (غيثة متأملة ) لقد علقت بي النسوية.

p لكنك من منظور مختلف أنت داخل النسوية المضادة.
n لكن أنا صارمة ضد فعل تمزيق كتاب كيفما كان لأنه يحمل دلالة شيء ما، حتى تلك لا يعتد بها، أو تثير السخط، أو لا تحتمل…لقد نشأت وسط الكتب، وهي مقدسة عندي، إنها كنز الإنسانية! فتمزيقها هو سلوك مريض، وأمي أو منحرف. فلا سبيل للتقريب بيني وبين تلك المحللة النفسانية الباريزية.

– «كنت الابن الطبيعي لشهرزاد ( Ero il figlio naturale di Sherazade) فانا أحاول أن أقول بهذا، أن هناك في ما وراء البديل العنيف: احكي حكاية وإلا قتلتك، لعبة غواية، كانت دائما تحتضن جمال الحركة، وطقس الحب والصداقة». ما هي إضافتك إلى ما قاله الخطيبي؟
– قراءة الخطيبي، يسرد قصة» من أجل جمال الحركة، طقس الحب والصداقة» هي ساذجة وربما طفولية؛ ليس ثمة جمال لحركة للحب والصداقة في واقع التهديد بالموت والغش من أجل إنقاذ الحياة. فالخطيبي في ذلك ينتمي إلى مثقفي سنوات الستينات والتسعينات الذين يبجلون ماضيا وشخصيات لا أثر للإجلال فيها؛ وهو في ذلك يشبه فاطمة المرنيسي التي أنجزت عملا حول الحريم وحول شهرزاد.
أنا، مع الحقيقة القاسية والصادمة، أم من أجل صنيع لا يجهر بالحقيقة إذا هددت حياة صاحبه. بهذا المعنى، فانا مثقفة تلقيت تكويني في العلوم، طالما أنني طبيبة حاصلة على ثلاثة تخصصات في الطب. فأنا أؤمن بالحقيقة العلمية ولشد ما يضحكني الحديث عن «مختبرات» و»باحثين» في كليات الآداب!! فهذا انتحال شيء لا يمت بصلة إلى التخصصات العلمية الموسومة بالصرامة والدقة. وحتى «العلوم الإنسانيةّ» فهي أقل صرامة ودقة، لأن الصرامة إما أن تكون علمية أو لا تكون.
غير أنني سعيدة، سعيدة للغاية، كون الخطيبي أدرك أننا جميعنا أبناء شهرزاد…أبناء وبنات القهر والقمع (شهريار المخدوع إذن سيلحق الإحباط والقمع بكل النساء) الشراسة والوحشية (شهريار سيغتصب كل عذارى مملكته)، فنحن جميعا أبناء وبنات ولدتنا نساء مستكينات كن مجبرات على استعمال أساليب الحيلة والكذب والإغواء والاستعداد للتضحية بالنفس من أجل البقاء وإنجاب الأطفال… من أجل الرجال الذين كلهم شهريار…زاجرون وشرسون ومتوحشون … لو قدر للخطيبي أن يعيش حياة أطول، فسيكون بإمكاننا ساعات أو أشهر أو سنوات لفتح باب هذا النقاش الذي بثيره سؤالك.
– ترددت في أن أسألك هل كنتُ في ضيافة محللة نفسانية أم صديقة؟
– الأمران معا


الكاتب : حاورها: محمد معطسيم

  

بتاريخ : 13/03/2020