فِي مَحَبَّةِ اَلْبَيَاضِ

(1)

كتابة السيرة الشعرية؛ هي كتابة تحاول القبض على محطات حياتية وإبداعية شكلت عصب تشكيل ذات مبدعة في سيرورة وجودية تتسم بالتحول والحلحلة ،وتترجم ما لحق الحياة الشخصية للمبدع من انتقالات عميقة أسهمت في تثوير التجربة الشعرية ،ومن ثم لابد من إعادة النظر في الطريقة الأنجع لملاحقة المسيرة الإبداعية لكل مبدع ،فتدوين السيرة الشعرية هي إضافة نوعية للمشهد الشعري بصفة خاصة أو الإبداعي بصفة عامة،وإغناء للتجارب السالفة والتجارب اللاحقة ،التي ستتسلم مشعل الإبداع في قادم الآتي لتضيء ما استطاعت من عتمات في الكتابة الأدبية. ولاعجب أن نؤكد على أن كتابة السيرة الشعرية هي رهان وانشغال يؤرق الشاعر أو المبدع ؛فشغله الشاغل الأول هو الإبداع ،لكن في اللحظة ذاتها يتأمل حياته الشعرية وهي مدونة كتابة تستنشق روائح أصوات تقيم في الدواخل،وتمنحه رصيدا من الرغبة في مواصلة المغامرة التي ارتاد عوالمها منذ أن شبت نيران العشق الأولى وهو يحبو في درب الوجود ببراءة الأطفال،فكم من شاعر أو مبدع كان الحب الشرارة التي التهمت الجسد الطري العود والغر في حياة المحبة ،وعليه فالإبداع سليل المحبة ،والابن الشرعي للحياة التي ،من خلال العملية الإبداعية،تزرع في الذات المبدعة البذور الأولى لمقاومة الرتابة والملل في الحياة اليومية للإنسان في عالم متقلب المزاج والأحوال،هكذا يحاول الشاعر أن يقاوم هذه الوضعية السلبية بالتعبير عنها إبداعيا،لكن هذا الأمر لن يتحقق إلا عبر المحبة ،فهذه الأخيرة تربك الأقاصي وتحفز الذات إلى البحث عن الروافد الثقافية المختلفة الينابيع لصقل هذه الطاقة،وجعلها أكثر اشتعالا وتوقدا لما لها من أدوار أساسية في منح القدرة لمواصلة اقتحام تخوم العالم المحير؛والملهم للذات حتى تستبطن الغامض والملتبس في الفكر والوعي البشري،فالاتصال بالموروث بشتى تجلياته ضرورة معرفية،لأنه يمثل الركيزة الأساس التي تشيد الذات المبدعة شخصيتها الإبداعية؛وتعكس الهوية. فالتراث هو هذه المحصلة الممتدة في الذاكرة، سواء تعلق الأمر بالموروث الأدبي والفكري،والفني أو بالموروث الشعبي المتجلي في الأغنية الشعبية أو النتاج الشفهي ،فهذا الكل هو الذي يؤصل التجربة الشعرية ،أو بالانفتاح على ثقافة الآخر التي تعد واجبا حضاريا يلعب وظيفة تثري الإبداع.

(2)

هكذا تقف أيها الطفل الصغير أمام مرآة الذات؛ كي ترى ملامح وجهك الغارق في دموع طفولة بئيسة ،لم تحصد منها غير هذا القلق الوجودي،و الغوص عميقا في ذاكرة البدايات أو الإرهاصات الأولية في كتابة الشعر؛بداية لابد لك من الإقرار بأن مدرسة الأسرة كانت مدرسة بجدران مفتوحة على الحياة،حيث الأب والأم مُدَرِّسان فاشلان في تلقين أبجدية القراءة والكتابة،لأن أقدامهما لم تطرق أرضية فصل دراسي قط،لذلك ظلا مخلصين لأميتهما التي كانت شائعة في القرية التي سقط فيها الرأس هاربا من ظلمة الرحم إلى عالم التيه،لكن الأم كانت فقيهة في تعليمك درس المحبة،وتلقينك المبادئ الأولى لعشق الحياة ،إذ كانت رحيمة بالجسد النحيل الذي لا يقوى على مقاومة الصعاب ،ومن ثم ورثت عنها هشاشة الروح ،وعاطفة ضاربة في الصدق وملتحفة ببياض الإباء والنخوة التي إن مسها الضر انتفضت وثارت ضد من يريد المساس بقداستها وكيانها.أما الأب فقد كان مبدعا في الحياة،ممثلا بارعا في صناعة الفرح ؛ هادئا هدوء الدراويش المقيمين في محراب المناجاة،لذلك كثيرا ما عثرت عنه يعض أصابعه إما ندما عن خيبات لازمته؛أو تعبيرا عن فقدان ما،فأورثك بعضا منه،لكنك عرفت فيه صلابة المقاومة وأنفة الرجال المتشحة بالليونة ومحبة الآخر بأريحية قل نظيرها ،وأيقنت فيه الرغبة الجامحة لتعليم الأبناء ،فأرسلنا إلى المسيّد لحفظ القرآن وتعلم أبجديات الكتابة،وهنا لابد لك من الإقرار بفضل هذه المدرسة العريقة التي تخرج منها كثير من الأدباء والمفكرين الذين أسهموا في الفكر العربي والإنساني،ولولاها لما كنت هنا أمام شاشة الحاسوب ؛كي تخط هذه السيرة،لأن المسيّد ،بالنسبة لك ولجيلك شكل دعامة أساسية في تكوين وتعليم أجيال كثيرة،ومع ذلك تقر أمرا آخر يتعلق بك حيث كنت طالبا مشاغبا ومثيرا للقلاقل داخل هذا الفضاء الذي كنت تنفر منه نظرا لقساوة الفقيه ،وللتاريخ فقد كان فقيها بمعنى الكلمة،كريما في بذل المجهود من أجل تعليمنا أبجديات القراءة و الكتابة،لكن الذي ينبغي أن تشير إليه هو أن هذا الفقيه كان نعم الفقيه في سلوكه ولباقته،مما يشفع له قساوته؛إذ زرع في قلوب الصبيان محبة البحث عن الصحوة الجوانية التي تشع أصالة وقيما نبيلة في الحياة والنهل المعرفي،فهذا الفقيه يسمى سي عبد الله -رحمة الله عليه- اسمه يدل على خصاله الحميدة وسجايا النبيلة،فقد كان عبدا لله ،إنسانا يحب الناس،مُوثِرا على نفسه في الشدائد والمسرات،فقيها أنيق الهندام ،صبوح الوجه،نور الإيمان يسطع من محياه الوسيم نضارة ووسامة،البياض كان لباسه الذي يزيده مهابة وقيمة وحظوة،فالجلباب أبيض ؛البَلْغَة بيضاء؛الجوارب هي الأخرى تلتحف النصاعة البيضاء،التسبيح حبيباته بيضاء،وجهه تكسوه لحية بيضاء،وبالتالي فأنت من سلالة البياض الذي صاحبك منذ نعومة الأظافر،بل أكثر من ذلك كانت المادة(الصلصال) التي نمحو بها اللوح هي الأخرى ذات لون أبيض،كل هذه الأشياء كان لها الأثر الجلي في جعلك مرتبطا بالبياض ارتباطا وجوديا .

(يتبع)


الكاتب : صالح لبريني

  

بتاريخ : 20/09/2019

أخبار مرتبطة

روني شار يقول بأن على الشاعر أن يستيقظ قبل أن يستيقظ العالم لأن الشاعر حافظ وجوه الكائن اللانهائية.شعراء أساسيون مثل

رَفَحْ جرحٌ أخضرُ في مِعْصم غزَّةَ، وَنَصْلٌ في خاصرة الريحِ. ماذا يجري؟ دمُ عُرسٍ يسيلُ أمْ عروسُ نِيلٍ تَمْضي، وكأنَّ

– 1 – هل الرمز الشعري الأسطوري ضروري أو غير ضروري للشعر المغربي؟ إن الرمز الأسطوري، اليوناني، خاصة، غير ضروري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *