قتيلان وجريحان في انهيار جدار محاذٍ لورش بناء تحوّل إلى «مقبرة» بدرب السلطان

سال فيه عرقهم ودماؤهم خلال قيامهم بالحفر واستعدادهم لوضع الأساسات

 

 

كانت الساعة تشير إلى حوالي الثالثة و45 دقيقة من بعد زوال يوم الأربعاء 13 مارس 2019، حين ارتفع دوّي سيارات الإسعاف والوقاية المدنية بحي لاجيروند، متبوعة، بشكل متباين ومتباعد زمنيا، بسيارات للأمن والقوات المساعدة، الأمر الذي جلب انتباه الساكنة والمارة، وأشّر على وقوع خطب جلل ليس بالهيّن، وهو ما تأكد بعد أن تبيّن أن الأمر يتعلق بسقوط جدار عقار عبارة عن مرآب مهجور، مجاور لورش بناء يتواجد بملتقى زنقة دمياط وشارع لاجيروند بتراب عمالة مقاطعات الفداء مرس السلطان بالدارالبيضاء، الذي انهارت حجارته الصفراء الضخمة فوق رؤوس عمال بناء، كانوا يقومون بأشغال الحفر في الورش استعدادا لخطوة تشييد بناية، بعد أن هدموا بنيانه القديم خلال فترة سابقة.

ورش العرق والدم

تحلٌّقت أعداد كبيرة من المواطنين بمكان الحادث، والكل مصدوم لهول ما وقع، وهم يتابعون فجوة كبيرة في سور «كراج» في ملكية ورثة «آيت امزال»، وركام الحجارة التي تهاوت منه أسفل الورش بمعدل طابقين تحت أرضيين، في حين كانت أخرى لا تزال معلقة في السماء مشدودة بجزء من قضيب حديدي، معلنة عن إمكانية تداعيها في أية لحظة. اشرأبت الأعناق تبحث عن أجساد، وتناسلت الأسئلة تباعا تستفسر عما وقع، وكيف حدث، وهل هناك عمال تحت الأنقاض؟
كان الكل مذهولا، وبدت الصدمة على وجوه ومحيّا عدد من العمال، الذين كانوا يستفسرون عن بعضهم البعض، إلى أن تأكد أن هناك أربعة من زملائهم يوجدون أسفل الحجارة والأتربة، وبالفعل سارعوا بمعية عناصر الوقاية المدنية إلى البحث عنهم ومحاولة إنقاذهم، حيث أمكن استخراج شخصين اثنين، وعاينت «الاتحاد الاشتراكي» حمل أحدهم على أكتاف أصدقائه، وجرى نقل الضحيتين على وجه السرعة صوب مستعجلات مستشفى «بوافي»، ويتعلّق الأمر بكل من «يوسف . ب» من مواليد سنة 1988 بتمارة، الذي تلقى الفحوصات الضرورية والإسعافات، وتبيّن أن وضعيته مستقرة وخرج من الحادث سالما، خلافا لزميله «رشيد . خ» من مواليد 1993 بشيشاوة، الذي تعرّض لكسر على مستوى الساق.

بحث وتنقيب

في الوقت الذي كان فيه المصابان يتلقّيان العلاج، كانت فرق الإنقاذ تتقاطر على مكان الحادث، وتم الشروع في نبش الأنقاض بشكل بدا بطيئا ورتيبا لكل من كان يتتبع تفاصيل الواقعة، مما خلّف استياء وألما بالنظر إلى أن مرور الوقت وتأخر انتشال عاملين اثنين تأكد وجودهما تحت الحجارة والأتربة لن يصبّ في مصلحتهما. كان الجميع يتفاعل مع عناصر الإنقاذ وهم ينتشلون الحجارة رويدا رويدا، وينبشون الأتربة بأدوات «تقليدية» ويملؤون الدلو تلو الآخر، إذ لم يكن ممكنا استعمال معدات ثقيلة رغم استقدامها مخافة تداعي «أطلال» الجدار التي كانت معلّقة في الهواء، وتأكد أن تلك الأكوام التي تكدست في الأسفل شكّلت حاجزا للضغط عليه حتى يبقى على وضعيته ولا يتداعى فيتسبب في وقوع ضحايا آخرين، حيث كان يتم التعامل مع الوضع باحتياط كبير، خاصة حين كانت صافرة جهاز تقني تدوي معلنة عن وجود اهتزاز محذرة من إمكانية وقوع انهيار.
مشاهد وصور مؤلمة وحزينة خيّمت على مكان الحادث، إذ جلس عدد من العمال القرفصاء وهم يتابعون المشهد ويتحسرون على ضياع زملائهم، وذرف بعضهم الدمع، في حين عجز البعض الآخر عن الكلام، أما الذين تكلموا فكان كلامهم متقطعا وكله حسرة. المواطنون بدورهم وبدافع الفضول تحلقوا حول المكان، واقترب بعضهم بشكل أكبر والكل يحاول التطلع إلى الأسفل لرؤية ما يقع، فتدخلت المصالح الأمنية والسلطات الترابية التي هرعت إلى مكان الحادث لإبعادهم، خشية تداعٍ مفاجئ لأجزاء من الرصيف. وفي الجهة الأخرى هبطت عناصر من الوقاية المدنية رفقة كلب مدرب بهدف استشعار مكان تواجد العاملين، لكن لم تتم الاستعانة به وظل جانبا، بعد أن اهتدى المنقذون لأحدهما وتم وضع حواجز خشبية فوق رؤوسهم وانكبوا في النبش فوق الضحية ومن حوله، ولم يكونوا يرفعون رؤوسهم إلا لشرب المياه حين ينال منهم التعب.

استنفار وقلق

أوقفت عناصر أمن المرور حركة السير في اتجاه مكان الحادث وعملت على تحويل الاتجاهات، في الوقت الذي اصطفت سيارات الوقاية المدنية و»حاوية التدخل التقني» التابعة لها، ودوريات الأمن والقوات المساعدة في كل مكان، كانت أجهزة اللاسلكي ترسل وتتلقى البرقيات، والمعطيات تُنقل لمختلف المسؤولين عبر الهواتف النقالة أولا بأول، وخلال كل هذا وذاك، حلّت بالمكان عناصر الشرطة العلمية، فرئيس قسم الشؤون الداخلية ومدير ديوان عامل العمالة أولا، ثم رئيس الدائرة وبعد مدة التحق قائد الملحقة الإدارية التي لا تبعد عن مكان الحادث إلا ببضعة أمتار، في حين كان أعوان السلطة وموظفي الكتابة الإدارية متواجدين منذ اللحظات الأولى للحادث، وبالموازاة مع ذلك حلّ مسؤولو مصلحة التعمير بمقاطعة مرس السلطان والتحق بهم مدير المصالح، وصار المكان قبلة ومحجّا للجميع.
كانت الساعة تشير إلى حوالي الساعة السادسة حين حلّ عامل العمالة ومعه رئيس المنطقة الأمنية، تفقدا رفقة مرافقيهم في البداية الوضع من الأعلى، قبل أن يقرروا جميعا النزول إلى الأسفل، ومتابعة الأمر «عن كثب»، والتوصل بمعطيات أوضح من طرف المسؤول عن فريق الإغاثة والإنقاذ، ومحاولة تجميع المعطيات التي قد تكون سببا في وقوع ما وقع، والذي توحي كل المؤشرات بأن الأمر يتعلق بأخطاء تقنية، وفقا لما استقته «الاتحاد الاشتراكي» من مختصين في مجال التعمير.

جثتان تحت الأنقاض

ارتفعت حدة القلق ومنسوب التوتر مع دوران عقارب الساعة، وكانت الحيرة تزداد وتتعاظم واليأس يدب في النفوس، ولم تكن الملابس ولا جزء الجسد الذي اتضحت بعض معالمه وسط الأنقاض بمؤشر يبعث على الأمل والتفاؤل، وهو ما تأكد حين كانت الساعة تشير إلى حوالي السابعة إلا 5 دقائق، موعد انتشال جثة أحد الضحيتين، الذي أسلم روحه إلى بارئها تحت التراب قبل ذلك، ويتعلّق الأمر بعامل شاب، «زوهير . ب» من مواليد سنة 1999 بأزيلال، الذي لم يتم إنقاذه ولم تفلح كل تلك التعزيزات البشرية واللوجستيكية، التي كان بعضها شكليا/استعراضيا، في تمكينه من مواصلة التنفس وتأمين استمرار دقات قلبه.
خيّم الحزن على المواطنين والصحفيين الذين ظلوا في مكان الحادث، حتى بعد أن غابت الشمس وأرخى الليل سدوله، وعمّ «صمت الأموات» على المنطقة، الذي أبى إلا أن يزيد من حجم الألم، حين تم انتشال جثة الضحية الثاني حوالي الساعة التاسعة وعشر دقائق، ويتعلق الأمر بـ «جمال . ح» من مواليد سنة 1979 بتازة، الذي ختم على نهاية يوم دام بورش بناء سال فيه عرق العمال وسالت فيه دماء بعضهم وأزهقت فيه روح اثنين منهم، بعد أن دفنا في التراب لمرتين، الأولى على حين غرّة وهم أحياء، والثانية حين سيوارى جثمانهما الثرى أمام أسرهما ومعارفهما.

مرآب ومسؤوليات

رافق حادث انهيار سور المرآب، الذي يعتبر نقطة سوداء في المنطقة، ومصدر ضرر بالغ للساكنة المحيطة به، جملة من الأسئلة، وهو الذي توجد به بركة آسنة تعتبر نقطة تجمع للبعوض الذي يغزو أجسام المواطنين صغارا وكبارا، إلى جانب القوارض، وسقفه مكون من مادة «الأميانت» المسرطنة، التي تتطلب إزالتها إجراءات دقيقة، فضلا عن تآكل جدرانه، إذ سبق وأن انهار جزء آخر منه إبان تشييد إقامة في الجهة الأخرى قبل حوالي سبع سنوات، وانهار بعد ذلك جزء من سوره الخلفي، في حين يهدد سور آخر يطلّ على مؤسسة تعليمية عمومية، الأطفال المتمدرسين والأطر التعليمية والإدارية في كل وقت وحين، مما يطرح أكثر من علامة استفهام حول السر في استمرار حضور «بنيان منخور» عوض إزالته، علما أن قانون الالتزامات والعقود هو واضح في الشق المتعلق بالمسؤولية التقصيرية، وبالتالي كان يتعين تدخل مالكيه أو السلطات المختصة، محلية كانت أو منتخبة، عن طريق مسطرة إدارية بتنسيق مع النيابة العامة لهدم العقار وتسييجه، حفاظا على أرواح السكان والمارة وكل المحيطين به؟
أسئلة أخرى رافقت الحادث، والتي تتعلق بالورش ومدى توفر شروط السلامة والوقاية فيه، من خوذات وملابس وأحذية، وغيرها من الوسائل من عدمه، وقانونية تشغيل العمال، ومدى تقيد المقاولة بتعليمات وتوجيهات المهندس ومكتب المراقبة، لأن المعاينة الأولية تظهر حفرا امتدت على مساحة غير طبيعية في الحدود الفاصلة بين الورش والمرآب المجاور له، إضافة إلى الحفر بشكل أعمق صوب الداخل على مستوى الحائط السفلي المحاذي لزنقة دمياط، مما يطرح أكثر من علامة استفهام، إن كانت تلك الأشغال تمت بتوجيه من المسؤول عن الورش أم هي عبارة عن اجتهاد شخصي للمقاولة، والتي سيكشف عنها التحقيق الذي ستتم مباشرته من طرف المصالح المختصة، إضافة إلى مدى وجود مراقبة إدارية للورش المرخص له من طرف مصالح الجماعة الحضرية للدارالبيضاء.

الشجرة والغابة

ورش ملتقى دمياط ولاجيروند، ومعه المرآب المتآكل، هما معا ليسا سوى الشجرة التي تخفي الغابة، فهناك العديد من البنايات التي تم تشييدها بجوار مستودعات مهجورة ومصانع عبارة عن أطلال، توجد بكثرة في منطقة لاجيروند، والتي من الممكن أن تتداعى جدران أي منها في أية لحظة، وقد تؤدي إلى عواقب أفدح، بسبب فعل مناخي، أو اهتزازات معينة، أو أشغال مجاورة، مهددة المستخدمين والمارة وكل من يتواجد بمحيطها، الأمر الذي يستوجب التعامل بحزم وبمنتهى الجدية مع هذا الوضع المرعب، وتفعيل المساطر الإدارية والقانونية لحماية المواطنين، عوض ترك الأشياء على حالها، والاكتفاء بعبارات الأسى والمواساة حين وقوع حوادث مميتة.
منطقة لاجيروند تحتضن كذلك وحدات صناعية ومستودعات، مراقبتها والاطلاع على طبيعة نشاطها وقانونيته واحترام الضوابط المنصوص عليها بشأن الآليات والمعدات المستعملة، هو الآخر واقع يرخي بظلاله على المنطقة ويكشف عن العديد من الثغرات التي تتطلب تجاوزا حقيقيا بتحمل كل الجهات والإدارات لمسؤوليتها كاملة.


الكاتب : وحيد مبارك - تصوير: الموساوي

  

بتاريخ : 15/03/2019