قراءة في المجموعة القصصية « مدينة تأكل أولادها» للكاتب شكيب أريج

تعتبر المدينة أحد المواضيع التي لقيت إقبالا في التناول على المستوى الأدبين العالمي والعربي سواء شعرا أو نثرا ، باعتبارها فضاء يمكن من رصد وتشخيص التحولات العميقة التي لحقت الذات والمجتمع ، بفضل غنى هذا الفضاء بإمكانات كبيرة لبلورة الدلالات والمعاني ، فهي عالم خصب مليء بالنماذج الإنسانية وبالمفارقات ، ويكفي المبدعَ أن يرصد هذا الفضاء بعين فاحصة ليقف على تجارب ومواقف لا حد لها ، وقد تعددت المواقف منها بين الاحتفاء والقبول والرفض والإدانة ، فكيف تحضر المدينة ضمن هذا المتن القصصي ؟ وما الموقف الذي تعكسه منها ؟
«مدينة تأكل أولادها» موضوع هذه القراءة ـ هي باكورة أعمال الكاتب شكيب أريج ، وهي الصادرة عن دار الرحاب الحديثة بلبنان سنة 2018 وتقع في 141 صفحة وتتكون من عشر قصص هي : الحلقة ـ مستعجلات ـ الملعونة ـ عبيقة ـ لا كلام إلا ما أضمر ـ الخم ـ الشعرة ـ الفخ ـ رجل الجريدة والعمود ـ دموع السُنونو.
إن هذه الكائنات القصصية تتآزر في ما بينها لتقديم صورة المدينة التي تأكل أولادها ، هذا العنوان الذي يعكس كدالِّ المضمون السردي للنص كمدلول ، وهو عنوان يدخل ضمن العناوين الإحالية على نوع الفضاء « المدينة» ، وقد جاء هذا الفضاء نكرة في العنوان تفاديا لربطه بمدينة معينة ، فالمدينة هنا ليست مدينة الكاتب بالضرورة ، فقد تكون مدينتي أو مدينتك ، هذا العنوان مستعار من القولة الشهيرة « القطة التي تأكل أولادها « ، فمن المعلوم أن بعض القطط تنفي أبناءها وتبعدهم بل وتلتهم بعضهم خوفا عليهم من شر الآخرين، أو لتقديرها بأن فرص عيشهم معدومة أو ضئيلة فتتخلص منهم توفيرا للجهد والطاقة . إنه عنوان يؤشر منذ الوهلة الأولى على العنف الذي يمارسه هذا الفضاء في حق أبنائه ، فالمدينة تقتات على أبنائها ، تمارس في حقهم النفي والتهميش والإقصاء .
لقد اختار السارد فن الحلقة ليعرفنا على مدينته ، بعد أن اتخذ الساحة التي تحتضن الحلقة كفضاء للرصد ومحاولة الفهم ،» اجلس هنا في هذه الساحة العجيبة حيث الحياة تدور بك ولا تدور بها ، من هذا المرصِد يمكن أن ترى وبعفوية شديدة الذين يكافحون ويغنمون ، والذين يَرثون ويمرعون والذين يُهانون ويهينون ..»ص : 16
إن المدينة التي يقدمها مدينة مسورة بالجهل ، مسورة بالحزن والجوع ، تجتاحها جحافل من البشر تحملهم وسائل نقل مكدسين أشبه ما يكونون بقطع لحم بدكان جزار، ثم تتقيأهم ليملؤوا فضاءاتها لغطا وازدحاما ، إنها مدينة الانتظار حيث الطوابير في كل مكان أمام الشبابيك البنكية، وفي أبواب الإدارات العمومية ومصالح استخلاص الماء والكهرباء وأمام المستوصفات والمتاجر … جحافل بشرية تتبول على أسوار المدينة وتقلص مساحاتها الخضراء وتملأ سماءها دخانا وتصبغ جدرانها وأرصفتها بالسواد ، أطفال ، متسولون ، حمقى وبهاليل ، سكارى عمال ومياومون ينغلون في كل مكان .
إنها مدينة الأقنعة ، مدينة الكذب والنفاق ، لغة المدينة تقول كل شيء سوى الحقيقة ، لغة تصر على إضمار الأشياء وتسميتها بغير مسمياتها ، لغة تداري على نقص حاد في القيم وفي الأحاسيس .
إنها مدينة تتراكم فيها الآلام بسبب تناقضاتها ، فمستشفى الرأفة بريء من اسمه براءة الذئب من دم يوسف عليه السلام ، تؤثت فضاءاته لافتات الترحيب وتوهم بحسن الاستقبال ، ولكن المرضى لا يجدون سوى الشارع كرسيا للانتظار وحيث تتحول المستعجلات إلى مستعجنات تعجن فيها كرامة الإنسان وآدميته ، تغيب الرأفة والرحمة ، يغيب الضمير المهني ، فعلى المرضى أن يتحاملوا على آلامهم وأن يكونوا أقوياء .. أقوياء على تحمل الإهانة على تحمل المذلة ، فيتحولون إلى نعوش متحركة وخراف تساق ، تحلب هنا وهناك توبخ وتعنف .
إنها خم كبير ، تسكنها طيور مهيضة الأجنحة تملأ الفضاء نقنقة والأرض برازا ، تقتات على كل شيء تنقر الحب والفضلات والبراز ، خم تحكمه ديكة قليلة من أصحاب السيارات الفارهة والأملاك الكثيرة ، لا تهمها نقنقات الدجاج ما دام وديعا ورأسه في الأرض ويقنع بالقليل ، كل ما يؤرق الديكة هو ذلك الدجاج المتنطع الذي يأنف شرب البول إن لم يجد الماء ، يأنف أن العيش خادما للديكة .
المدينة سور عظيم يحيط بالخم وداخل الخم غيتوهات ومعازل : فيلات للديكة وأقفاص للدجاج المتنطع وحفر وقبور للدجاج المستكين ، إنها مدينة التفاوتات الاجتماعية والطبقية وأكل عرق الكادحين ، مدينة تؤمن بالخرافة وتبحث عن ملاذ بين الأضرحة ، مدينة تحاصر الحب وتغتاله وتطارد العشاق في كل مكان ، تحاصرهم بالأعين وتلوكهم بالألسن ، وتلاحقهم باللعنات ، إنها مدينة تعلم أطفالها أن الحب رذيلة ، ولا تتورع عن تسليمهم لبراثن التحرش والاغتصاب في صمت رهيب وتواطؤ مخجل .
إنها مدينة التناقضات حيث يحضر أمام كل قصر ألف كوخ وأمام كل مشرد ألف شرطي ، مدينة فقد سكانها شعور الدهشة ، فقدوا الاهتمام بمدينتهم وعوضوه بتسليم مريع لواقعهم ، فلا أحد يحتج أو يتذمر ، يحدث أحيانا أن تصدر عبارة تبرم من أحد المتجهمين الذين يسكن الجحيم عيونهم ، ولكن هذه النيران سرعان ما تخبو فالناس لا يأبهون، يتلاعب الساسة والإعلام والدجالون بعقولهم فلا يصدقون أن المدينة تتحول إلى مسخ ، إنهم في حاجة إلى عين ثالثة ، إلى التحليق عاليا .. عاليا جدا لكي يروا مدينتهم على حقيقتها فليس هناك من مأساة أعظم من أن تتغير مدينة بكاملها ولايشعر بذلك أحد .
وضمن هذا الفضاء الذي يعج بالتناقضات يرسم السارد بورتريهات لحيوات متجاورة تتداخل مساراتها ، فالقصص هنا لم تكتب وفق النمط التقليدي جزرا مستقلة بذاتها، بل إن هذه الكائنات القصصية لا تكف عن الحركة وعن اقتحام الحدود الفاصلة بين هذه القصص ، فلا تكتمل صورة هذه الكائنات إلا بملاحقتها عبر الجسور التي تخلقها بين هذه الجزيرة وتلك وتجميع تفاصيل الحبكة المتناثرة هنا وهناك، إنها شخصيات تنتمي في غالبها إلى فئات اجتماعية مقهورة ، تعاني التهميش والاستغلال ، تعاني القمع والإذلال ، تعاني من التحرش والابتزاز ، تعاني آلام الجوع والفقر والبطالة ، تعاني وطأة المدينة وسطوتها حيث تطحن وتسحق في دوامتها قسرا ، فالكل يدور وما لا يدور لا يعول عليه .
إن القارئ لهذه المجموعة القصصية التي كتبت بنفس روائي، يقف على كثافة في الوصف وكأن السارد يوثق المشاهد بآلة تصوير بدقة متناهية لا تغفل أدنى التفاصيل ، ويقف أيضا على لغة يغيب عنها شعور الألفة والحنين ، إنها لغة تقطر حسرة على مدينة تفقد ذاتها وتتحول إلى مسخ بعدما تنكر لها أبناؤها وتركوها نهبا ومشاعا ، لغة تستعين بسخرية مريرة لتعبر عن التذمر من هذه «الآلة العملاقة التي تسحق العظام واللحم والدماء والشعر بسكاكين هي عقارب ساعات .. ساعات ذات شفرات حادة ، تأتي على الرؤوس تخطفها ، تنهشها ، تفترسها ..» ص 123
ويمكن إجمالا أن نقول إن المجموعة القصصية « مدينة تأكل أولادها « تستحق القراءة نظرا لتوفرها على العديد من المقومات الفنية التي تؤهلها لذلك ، فلغتها بسيطة وسلسة ، ولكنها موحية تغري بالتأمل ، لغة تستعين بسخرية تنكأ الجراح وتعبر عن الرفض والسخط والاحتجاج ، والثورة على الخنوع والتسليم بالأمر الواقع .


الكاتب : ذ. خالد الخراز

  

بتاريخ : 14/06/2018

أخبار مرتبطة

743 عارضا يقدمون أكثر من 100 ألف كتاب و3 ملايين نسخة 56 في المائة من الإصدارات برسم 2023/2024   أكد

تحت شعار «الكتابة والزمن» افتتحت مساء الأربعاء 17 أبريل 2024، فعاليات الدورة الرابعة للمعرض المغاربي للكتاب «آداب مغاربية» الذي تنظمه

الأستاذ الدكتور يوسف تيبس من مواليد فاس. أستاذ المنطق والفلسفة المعاصرة بشعبة الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز ورئيسا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *