قصة قصيرة .. من غير طيار

 

كان جناحاها عاجزين، فهي لم تكد تحلق بهما لمسافة تطول أو تقصر، حتى ألقياها حيث لا تريد، لكنني لما رأيتها قد حطت قريبة مني، إزاء مدخل بيتي من جهة السطح، حيث كنت أجلس في لحظة فراغ انتظار وجبة الغداء، خُـيِّلَ لي أنها لم تأت إلا لحرماني مما يمكن أن يكون نصيبي من وجبة كانت تعد لثلاثة أفواه، هذا إذا لم يقدر لها طيرانها العاجز أن يلقي بها على مائدتنا الرئيسية التي ما زلنا نجتمع عليها ليصيب كل منا حظه منها.
لم أر في الحقيقة فيها أي تصرف أنكره، فهي قد دارت بضع دورات دون حتى أن يفطن أحد منا أو من جيراننا لها، بل إن ما كان قد يخيف منها هو استيلاؤها من حيث هي عاجزة على زاد جماعتنا منتصف هذا النهار، لذلك حرَّضتُ في البدء كل إمكاناتي الدفاعية، والتفتُّ من حولي لأرى أقرب الأسلحة التي أحتاجها في مواجهتي لطائرة، ربما باغتتني هاجمة على منزلي الصغير، واستغفلتني فلا أرى إلى أية جهة فيه ستنسل وهي تسير، أو وهي تحلق، لا يمكن لرادار حقيقي أن يرصد طيرانها الشديد الانخفاض، بل ربما احتاجت رقابتها إلى وسائل غير بشرية، مثل روبوت مرهف الحساسية، لم يصنع نظيره إلى اليوم، فيما اطَّلَعْتُ عليه من تحليلات خبراء الاستعلامات والجاسوسية.
أنا الآن ما زلت أراقبها، وأشدد من مراقبتي إياها، إلى درجة تركيزي في محاصرتها ، حتى إنني نسيت أنني أهملت ما يجب أن يحضِّره أو يرتديه الجندي في حالة مجابهة الطيران، فقد كنت مكشوف الرأس، بل أكاد أن أكون حافي القدمين، فما كنت أرتديه كحذاءٍ بيتي كان في الحقيقية فقيراً جداً، قديماً حتى أنه لا يصلح أن أبدو به في استقبال أي ضيف، قلَّ شأنه أم كان ممن ينبغي أن نظهر أمامهم، في أسوأ الحالات، أننا من متوسطي الحال وأننا نحمده …مستورون على كل حال.
وكان في الفضاء من حولي أكثر من طائر، بأحجام متعددة. تحركت وكنت من قبل هذه اللحظة أتمنى معرفة تغريدات بعض أنواعه، بل وكم حاولت في صمت بعض الأوقات، أن أقلد بصفير من شفتي جمال ألحان عصافير، أو ما فاقها أحجاماً في بعض الأحيان، لكنني أحسُّني اللحظة أمتلئ هلعا من هجوم طارئ يباغت سطح بيتي، من واحد منها أو من سرب يحط على حبال غسيل، جلست بالقرب منها، بجوار حائط حجرة النوم التي من عادتي أن أغلق نافذتها الواسعة تحسباً لما يمكن أن يأتي منها نهاراً أو ليلاً، أنا الذي لا تكف هواجسي وكوابيسي عن مضايقتي، فهي تذهب بي إلى حد أن تقول لي إنه لا ينبغي أن تثق بشيءٍ ، فلا أمن هناك يمنع من تمتد أيادي لصوص إلى الناس، حتى وهم في حجر نومهم يغطون في نوم أو يتجولون في حدائق مناماتهم، ولا قداسة لحق إنسان في هذه الأرض، لذا وجب أن نذهب في حياتنا مذهب الخائف « الذي لا تخاف عليه أمه» فلا نرى في المواجهة خطة تُحمد، خيراً من الهروب إلى أي منأى عن الأذى، ففيه منجاتنا والحمد لله رب العالمين .
كان بيتي هذا في حقيقة الأمر محصناً بخطط دفاع فاقت ما تختاره النعامة وما كان مثلها من دواب مطلوبة للمفترسين، بإخفاء رأسها أمام صياديها إن كانت من مطاريد مطلوبين، كما أختار أنا أن أخفي رأسي كلما سمعت صوتا ينادي من أمام مدخل بيتي، أو من أعلى سطحه، أما حين يكون هناك هتاف خطير، فخير الخطط عندي أن أختفي كلياً عن كل من يطلبني في الآخرين، باختيار الصمت نهاراً، أو إطفاء الأضواء ليلاً، ليدرك كل من يرى إلى جهة منزلي ألا روح تدبُّ في بدن فيه، ولا جسد يتنفس بين جدرانه .
لكن ماذا تريد هذه الطائرة الصغيرة الآن قد حطت فوق سطح بيتي؟
ألم تعرف أنني لن أسمح لها بالدخول متسللة ولا محلقة، هي التي استغفلتني حتى حطَّت فوقَه، وعليَّ أن أفكر في خطة مّا تمكنني من أسرها، أو توجيهها الوجهة التي يٍريد لها خوفي منها، بحيث لا يأتيني منها ضرر، أو تعود إلى إزعاجي في أية لحظة أو حينٍ.
***
كان دماغي يشتغل بكامل قواه، ففي لحظات قصيرة كانت جهات في رأسي، قد حددتْ أن أحاصر الطائرة الصغيرة، وأن أقودها موجها إياها لتنفذ من باب نفق، أو ما يشبه النفق في الحقيقة، إذِ انفرجت أسارير وجهي الذي من عادته، ألا يدع تجهمه إلا في حالات قليلة ، وأنا أكتشف إلى جواري على السطح ماسورة مياه، ما استعملت من قبل للماء قط، وإنما كانت قد احتيجت لإمساك ستارة نافذة مطبخ البيت، حين كان يقطن بهذا المنزل ساكن آخر قبلي، وقد عافتها صاحبة الدار التي من عادتها أن تختار من أثاث البيت ما من شأنه أن يقصم ظهري، في ما تختاره حين تريد استبدال جديد بقديم، فكيف وهي تحل بهذه المدينة في مسكن دخلناه وهو محتاج إلى كل شيء حديث؟
أعددتُ لها ما استطعت من قوة وأنا أدفع بها إلى مدخل نفق، وكنت قد أحضرتُ قدر ما يكفي من مواد مختلفة من أوراق وأسلاك، وقطعا جافة من أقرب ما تراه كفِّي صالحاً لحجب أي طريق عنها، وجعله فوق قدرتها على الدفع به لإلقائه خارجاً، حتى تعاود التسلل أو التحليق، وبينما كنت أقارب الانتهاء من بناء هذا السد في وجهها، فكرت بضرورة الإسراع إلى بناء سُدٍّ آخر من خلف هذه الطائرة الصغيرة، أغلق به منفذ نفقها الثاني، حتى لا ترى ضوءاً في آخره فتطير إليه. أو أكون مضطراً إلى تجييش من لا أريد لأقدامهم أو أجنحتهم حضوراً أو تحليقاً في فضاء بيتي الأمين.
لكن أَوَ يُعقل أن يتم على الأرض مثل هذا المشهد الحربي المتطور، تكون الضحية فيه كائنا يعتبر من أكبر الأمم التي أخرجت للناس عدداً، فمجموع كتلة أجسام أفرادها تفوق مجموع كتلة جميع البشر، ثم إن لها نظاما من المعلوميات فائق الدقة، فلو أصيب أي واحد من بني جنسها انبعثت إشارات إلى أقرب أفرادها منه لتهب إلى إسعافه حياً أم ميتًاً، وكيف يجري حدثٌ حربِيٌّ يشهد إسقاط طائرة شديدة التطور فيه، دون علم الطرف الخاسر؟
أما أنا فقد كنت أخوض ما خضته، وأنا في قمة وعيي وعلى درجة من الهدوء، أتمناها لأي طرف من بني جلدتي، إذا هو خاض ذات يوم حرباً، ضد أي طرف كان، فقد كنت متأكداً من سلامة قواي العقلية والبدنية ، رغم أن ما كنت أشعر به من جوع لحلول وقت الغداء، ليس أكثر من انعكاس شرطي لما نشأتُ متعوداً عليه، وخشية من أية متابعة لا قدر الله، فأنا أشهد أنه لم تكن في دماغي حجرة عمليات، ولا قاعات اجتماع ضباط، ولا أجنحة مطارات فيها مختلف الطائرات، صغيرة وكبيرة، وبطيار أو بدون طيار، وإلا لكنت أصبحت أنا وهذه المدينة التي تؤويني مشكورة تحت الأنقاض، منذ اقتيادي غنيمتي إلى هذا النفق المسدود، ولكان جيش الدفاع ، الذي يتحول متى أراد إلى جيش لا يرد له هجوم دَمَّرني، ولكانت ضحيتي التي أسرتُ دون بطولة ، قد حُرِّرت من معتقلها عندي، ولكان توفَّرت لها أعلى شروط النقاهة في أحسن مستشفيات الكون، رغم يقيني التام بأن دماغي لم يتعرض لأي عملية اختراق.


الكاتب : أحمد بنميمون

  

بتاريخ : 28/02/2020

أخبار مرتبطة

روني شار يقول بأن على الشاعر أن يستيقظ قبل أن يستيقظ العالم لأن الشاعر حافظ وجوه الكائن اللانهائية.شعراء أساسيون مثل

رَفَحْ جرحٌ أخضرُ في مِعْصم غزَّةَ، وَنَصْلٌ في خاصرة الريحِ. ماذا يجري؟ دمُ عُرسٍ يسيلُ أمْ عروسُ نِيلٍ تَمْضي، وكأنَّ

– 1 – هل الرمز الشعري الأسطوري ضروري أو غير ضروري للشعر المغربي؟ إن الرمز الأسطوري، اليوناني، خاصة، غير ضروري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *