قضية الصحراء المغربية.. حتى لا نخطئ العنوان

سمحت لي تجربتي الحياتية، أن أكون منتميا لجيل شاهد على مرحلة كاملة من تاريخ المغرب المعاصر، وضمنه تاريخ ملف قضية الصحراء المغربية، مما يخولني أن أقدم قراءة أكثر شمولية حول هذا الملف الذي يقوض مصير منطقتنا المغاربية، كلها، ويفضح بالملموس، من هو فعلا خصم للحلم المغاربي، ولحقوق شعوبنا في المغرب والجزائر وتونس في التقدم والنماء والأمن. ومن هو حام لذلك الحلم المشروع ومدافع عنه، بدون متاجرة أو مزايدة سياسية ضيقة.

فأنا من مواليد 1935، بإحدى قرى الأطلس الكبير، تفتح وعيي السياسي أثناء مرحلة الصراع الوطني المغربي من أجل الحرية والإستقلال، وشكلت شخصية الملك محمد الخامس، العنوان الأبرز في تلك المرحلة لمعنى ذلك الصراع الوطني، خاصة حين تم نفيه وأصبح الشعار السياسي عند عموم المغاربة، وفي الطليعة منهم جيل الشبيبة، سواء بالبوادي أو بالمدن، هو «بن يوسف إلى عرشه». هكذا، فحين عاد ذلك القائد التحرري (هكذا كنا نرى نحن إلى محمد الخامس رحمه الله وطيب ثراه، إلى جانب باقي قادة التحرر العظام في العالم، مثل هوشي منه بالفيتنام، وجمال عبد الناصر بمصر، ونيكروما بغانا، وباتريس لومومبا بالكونغو). بالتالي، فقد عشت لحظة عودته، وأنا شاب في العشرين من عمره، بالدار البيضاء، كمرحلة واعدة للتحرر والتقدم والحلم بمغرب جديد، وبمغرب عربي كبير، متعاون ومتآزر، تماما مثلما كنا نرى ذلك في التعاون بين الدول الأروبية بعضها ببعض. وكنا نعتبر أن عودة ذلك القائد التحرري الوطني، ليست سوى مرحلة من أجل استكمال تحرير باقي الأراضي المغربية المحتلة من قبل الإستعمار، سواء الفرنسي في الصحراء الشرقية للمغرب (منطقة تيندوف وتوات وبلاد شنقيط) أو الإسباني (في الصحراء الجنوبية للمغرب، بأقاليم آيت باعمران وطرفاية والساقية الحمراء ووادي الذهب. أو بالشمال حيث سبتة ومليلية والجزر الجعفرية). وحين قال رحمه الله «لقد خرجنا من الجهاد الأصغر لندخل الجهاد الأكبر»، فإننا كنا نعتبر معركة التحرير تلك، جزء مركزيا من ذلك «الجهاد الأكبر».
ومثل الكثير من أبناء جيلي، فقد وجدنا في الخطاب السياسي للحركة الوطنية، صوتا لطموحاتنا الشعبية تلك، فوجدتني طبيعيا أنخرط في حزب الإستقلال، ثم في الحركة الإتحادية الوليدة سنة 1959 (حتى وإن كنت حينها مثل الكثير من أقراني من الشباب، غير متحمسين كثيرا لفكرة الإنفصال، لكننا وجدنا أنفسنا مكرهين عليها بمنطق تطور الأمور، وكنا نعتبر طروحات الشهيد المهدي بنبركة مسنودة وقوية ومقنعة وصوتا لنا). لقد وجدنا، كشبيبة في طروحات شيخ الإسلام بلعربي العلوي، الوطنية والتقدمية دينيا، وفي طروحات عبد الرحيم بوعبيد السياسية والإقتصادية، وفي مواقف عبد الله إبراهيم والمهدي بنبركة والمحجوب بن الصديق العمالية والنقابية والدستورية، وفي مواقف عبد الرحمن اليوسفي والفقيه البصري الصحفية والمقاومة، صدى لطموحاتنا كجيل، فانخرطنا فيها بشغف وإيمان، أشبه بالإيمان الصوفي. وكنا ولا نزال، نعتبر قضية الأرض وتحريرها، قضية مقدسة. ولم نكن نتصور حينها أبدا، أن المستقبل يخبئ لنا، التطورات التي عرفها ملف حقوقنا في استكمال تحرير أراضينا المستعمرة، وأن تأتينا الضربة من عند رفاق الأمس في النضال الوطني من أجل الحرية والإستقلال، بالجزائر. وأرواح الشهداء الطاهرة، من الشعبين المغربي والجزائري، هي التي ستحاسب الجميع غدا أمام الله.
لقد كبرت، مثل غالبية أبناء جيلي، على معطى اجتماعي، يجعل علاقتنا بإخوتنا في الصحراء، من أبناء القبائل الصحراوية، علاقة تواشج وتكامل وطنية، حيث كنا جميعا منتمين إلى ذات الهوية الوطنية المغربية. فمنذ صباي الأول، فتحت عيني، في مرتفعات الأطلس الكبير الجنوبي، قرب جبل سيروا، وفي منطقة جغرافية تتلاقى فيها ثلاث جغرافيات مختلفة، هي المناطق الباردة والماطرة للأطلس الكبير، والمناطق المنبسطة شبه الجافة لإقليم وارزازات حتى طاطا غربا وحتى تيندوف شرقا، ثم المناطق الجبلية القاحلة للأطلس الصغير وصولا حتى آيت باعمران وكلميم وآسا والمحبس والسمارة (وهي المناطق التي تعرف بجغرافية آيت واوزكيت التي أنتمي إليها كما درسها في أطروحة جامعية له الأستاذ إبراهيم ياسين). أقول فتحت عيني، على رحلات القبائل الصحراوية من الرحل، التي كانت تأتي للإنتجاع في مناطقنا أثناء فصلي الربيع والصيف، بماشيتها من الماعز والنوق والجمال، وكانت العلاقات بيننا سلسة وعادية تماما، وكنا نلعب جماعة مع أبنائهم وصغارهم من أقراننا، ونأكل أكلهم ويأكلون أكلنا. وبعد أن اشتد عودي، وبلغت 14 من عمري، اشتغلت مع أحد أعمامي في التجارة (خاصة تجارة الشاي والسكر والتمور)، وكنت شاهدا على قوة الروابط بين مناطقنا المغربية من مراكش حتى عمق الصحراء، وأن العلاقات الإنسانية والروحية الدينية والتجارية بين أبناء تلك المناطق واحدة وقوية، في مرحلة الأربعينات من القرن 20. وأذكر أن أبناء الصحراء المغاربة الذين كانوا يأتون إلى مناطقنا هم من الركيبات وآيت ابراهيم وآيت لحسن وزريكيين وأولاد دليم، وكانوا يرعون ماشيتهم، ويشترون بالمبادلة الشعير والقمح والذرة واللوز والجوز والزعفران من قرانا، المنتشرة بمناطق تاسريرت وزناكة وسكتانة وآيت عثمان وآيت أوبيال وآيت واغرضا وآيت سمكان وتيديلي شرقا، وآساكي نايت يحيا وصولا حتى آيت ملول غربا، وإغرم وصولا حتى إداوكنسوس جنوبا. ولقد ظل ذلك الوضع قائما حتى بداية السبعينات من القرن الماضي. حيث غيرت الحسابات السياسية الأنانية والتوسعية لبعض قادة الجزائر وليبيا (خاصة الثالوث معمر القدافي وهواري بومدين وعبد العزيز بوتفليقة)، بالتحالف مع الديكتاتورية العسكرية لفرانكو ورفاقه بإسبانيا، الحال من التعايش إلى القطيعة، وسعوا بكل ما امتلكوا من ثروات أبناء شعوبهم، من بترول وغاز، عبثا إلى محاولة تمزيق المغرب، وجعلنا أشبه بخريطة مرقعة. وللأسف ركب الجميع، هناك، شعارات التحرر والتقدمية كذبا وبهتانا، أثناء الحرب الباردة، لضرب وحدة الأراضي المغربية، ووحدة النسيج المجتمعي للمغاربة، بكل فئاته وأصوله الثقافية المتعددة. فنحن لم نكن نستشعر أبدا أننا صحراويون أو أمازيغ أو عرب أو أندلسيون، نحن فقط كنا مغاربة وبقينا مغاربة.
على الأجيال الجديدة، أن لا تنسى أبدا، أن مخاطر اليوم لا تشبه مخاطر البارحة. جيلنا واجه خصما واحدا واضحا هو الإستعمار، واليوم هم يواجهون خصوما كثيرين، أغلبهم من دمنا وعرضنا وإخوتنا، في الدين واللغة والتاريخ. اليوم لا تواجهون فقط، حكام الجزائر، الذين تنكروا لكل تاريخ شعوبنا المشترك، ولدماء الشهداء من المغاربة والجزائر، بل إنكم تواجهون أطماع قوى أخرى متعددة، فيها الصهيوني وفيها الفارسي وفيها العثماني. وجميعهم، يعلمون أن قوة المغرب والمغاربة، آتية من تاريخهم، ومن استقلالهم الذي بنوه بالتضحيات منذ قرون وقرون، ضد مختلف الأطماع التي كانت تأتينا من المشرق ومن الشمال. فأجدادنا، صنعوا لنا دولة من خلال الدفاع عن الأرض والعرض أمام العثمانيين وأمام الحروب الصليبية للإسبان والبرتغال والإنجليز، قبل الفرنسيين. والمعركة اليوم، لهذه الأجيال هي معركة الحافظ على هذا الموروث المغربي والوطني، وأن ينتبهوا، إلى أن أخطر معركة يواجهونها، هي معركة الهوية، حيث لا أفهم كيف أننا اليوم نتحدث عن شئ إسمه «حكومة الإسلاميين»، بينما الواقع أن كل المغاربة مسلمون، وليس هناك مزايدة على هذا الواقع من قبل أي كان، ولا يجب أن تكون. مثلما لا أفهم هذا النقاش حول الأمازيغية، الذي الغاية منه الإستغلال السياسي للبعض من أجل بث الفرقة بيننا. بينما كل المغاربة أمازيغ من زمان، وكلنا كنا ضحايا النزاعات القبلية للفوز بالنفوذ والسلطة، ولم يكن ذلك أبدا بسبب اللغة والطائفة الدينية. فاحذروا الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
إن مسؤولية الأحزاب المغربية، ومسؤولية الإعلام المغربي، ومسؤولية الدولة المغربية (من خلال نظام التعليم)، لكبيرة جدا، لحسن الدفاع عن قضية وحدتنا الترابية، ليس من موقع الضعف، بل من موقع القوة. فنحن أصحاب قضية عادلة بالقانون والتاريخ والعلاقات المجتمعية. وعلينا نحن أن نمتلك المبادرة، وليس أن نكون مرتهنين لمبادرات الخصوم. والأهم في استعادة المبادرة، هو السؤال حول مدى نجاحنا، في تقوية جبهتنا الداخلية، من خلال محاسبة ذواتنا، عن مدى تحقيقنا لمشروع جيل الحركة الوطنية، المتمثل في بناء دولة المؤسسات والديمقراطية والعدل والقانون. والمحاسبة هنا، كما قال مرة الرئيس الأمريكي المغتال كيندي، ليست « ماذا فعلت بلادي لي، بل ماذا فعلت أنا لبلادي؟». والمعركة أمام أجيال اليوم، وأمام شبيبتها، أصعب وأعقد من معركة جيلنا نحن، لأنها معركة مزدوجة، معركة مع الخارج والخصوم ومعركة مع الذات. وعلينا أن ننتصر للخطاب الوطني للمغاربة،  وأن نتوقف عند الخطاب الملكي، للملك محمد السادس، بمناسبة الذكرى 50 لاستقلال المغرب، أمام ضريح جده محمد الخامس رحمه الله، والذي رسم خريطة التحديات ووضع كل طرف أمام مسؤوليته التاريخية، مؤكدا أنه ينطلق في ذلك من موقعه كمواطن مغربي، وهذا كان رسالة جد هامة لمن يعتبر. لذا علينا، أن نحاسب من خلال ذلك الخطاب الوطني، من هم في تناقض مع تاريخ آبائهم وأجدادهم، هناك في تيندوف وأيضا في الجزائر العاصمة. إن جماعة الشباب الصحراوي، الذين تتم المتاجرة بهم لحسابات أكبر منهم بكثير، هي التي يجب أن تكون أمام حساب ضميرها في علاقة مع تاريخ أجدادها وآبائها. وأن تمتلك الشجاعة للإعتراف أن الكثير من العناصر هناك ليست أصلا صحراوية ولا مغاربية ولا مغربية، وأنها من الصحراء الكبرى لدول الساحل. وعلينا أن نربح جبتهنا الداخلية بالمغرب، من خلال جعل أبناء شبيبة اليوم، من الشمال ومن الجنوب، تقتنع على أن معركتنا الأكبر، هي معركة بناء الدولة المغربية القوية بمؤسساتها، وأن تلك القوة لا تتحقق سوى بالديمقراطية، وبالتوزيع العادل للثروات، وبإصلاح التعليم الذي أصبح كما تنبأ بذلك بحسرة منذ أكثر من 30 سنة، الأستاذ محمد جسوس رحمه الله، لا يمنحنا سوى «الضبوعة»، حين نرى كيف أن قيمة عدم النزاهة من خلال ظاهرة الغش في الإمتحانات، عنوانا على درجة الأزمة الأخلاقية في شكل تربية أبنائنا. وهنا مربط الفرس في محاسبة نخبنا السياسية، سواء الحزبية أو النقابية، التي فقدت البوصلة الوطنية للأسف، وأصبحت تلهت وراء الغنائم السياسية.
إنها كلمة لا بد منها، من جيلي، الذي بلغ خريف عمره، إلى الأجيال الجديدة، فهل من ضمير ينصت ويستوعب النداء؟.


الكاتب : عبد الله العسبي

  

بتاريخ : 12/05/2018