كتابات في تاريخ منطقة الشمال:«الوعي الوطني وحركة التعليم الحر بالقصر الكبير»

استطاعت الحركة الوطنية بشمال المغرب وضع معالم هوية نضالية أصيلة، جابهت مشاريع الاستعمار، وعرقلت مخططاته فوق الأرض المغربية. لم يكن الأمر يتعلق –فقط- بحركة تعبوية سياسية، ارتبطت بصدمة رد الفعل المواجه للغزو وللتدجين الاستعماريين، بقدر ما أنها تحولت إلى مشروع مجتمعي طموح، ظل الرهان عليه قائما من أجل تحقيق النهوض المنشود. لقد استوعب وطنيو الشمال، ومنذ نهاية الريف التحريرية سنة 1926، أنه لم يكن من الممكن قهر الاستعمار الغاصب بحد البندقية وبدوي المدافع فقط، بل كان لابد من العودة لتحصين الذات عبر بناء الإنسان المغربي القوي، والمعتز بانتمائه، والمبادر في مشاريعه، والجريء في تطلعاته. لذلك، بدأت الأعمال التأصيلية الأولى الهادفة إلى العودة لتفكيك أزمات الذات العليلة، في أفق توفير العلاج الناجع القادر على تحقيق الاستدامة لكل مشاريع التحرر والنهوض.
لم يكن الحاج عبد السلام بنونة مغاليا عندما طرح مشروعه التحديثي القائم على أساس بناء الذات، اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وفكريا وسياسيا، كشرط أساسي لأي محاولة لكسر الطوق الاستعماري. فمحاربة الجهل والأمية والبطالة والخرافات…، لا تقل أهمية عن صوت البندقية، بل ربما كانت آثارها أكثر عمقا ونتائجها أكثر تأثيرا وصداها أكثر امتدادا. في هذا السياق، استطاعت الحركة الوطنية بالشمال بلورة مشروعها التحرري الذي استهدف العودة إلى المجتمع من أجل إعادة تفكيك بناه، قبل الانتقال إلى تشييد الصرح المبتغى والمطمح المأمول. فكان التركيز على قضايا التربية والتعليم والإعلام والعمل الثقافي، واجهة مشرعة للعطاء وللفعل المتجدد الذي ألهم جيل معركة الاستقلال، بل وأرخى بظلاله الوارفة على أداء قطاعات عريضة من نخب منطقة الشمال خلال المراحل اللاحقة. ويمكن القول، إنه لا يمكن فهم منطلقات أداء الحركة الوطنية بالشمال، بدون العودة إلى استنطاق تجارب العمل التربوي الذي ارتبط بمشاريع التحرر وفق ما عكسته برامج التنظيمات السياسية للمرحلة، وعلى رأسها حزب الإصلاح الوطني وحزب الوحدة المغربية.
وإذا كانت الأعمال الأكاديمية المنشغلة بالموضوع، قد اهتمت –أساسا- بالتوثيق لتجارب العمل التعليمي والتربوي والإعلامي بمدينة تطوان بالنظر لوضعها كعاصمة للمنطقة الخليفية، ومن خلال تجاربها الرائدة مثل “المعهد الحر” أو “معهد مولاي المهدي” أو مجلة “السلام” أو مجلة “الأنيس” أو جريدة “الحرية” أو جريدة “الحياة” أو جريدة “الريف” أو جريدة “الوحدة الكبرى”، فالمؤكد أن الأمر لن تكتمل جوانبه التوثيقية إلا بالانفتاح على تجارب أقاصي المنطقة الخليفية، بمراكزها الحضرية العديدة المتناثرة. فكانت النتيجة، تزايد الوعي لدى المهتمين بضرورة العودة لتفكيك الموضوع بعيدا عن المركز بتطوان، بحثا في الامتدادات وتحليلا للسياقات وتجميعا للتفاصيل. هذه التفاصيل التي ظلت تصنع بهاء العمل الوطني الراشد، وتؤصل لهوية الحركة الوطنية بمنطقة الشمال، من موقعها كحركة جماهيرية حققت حولها التفافا واسعا، ساهم في تأثيث الذاكرة الجماعية لساكنة المنطقة خلال زماننا الراهن.
في سياق هذا الجهد العلمي الأصيل، يندرج صدور كتاب “الوعي الوطني وحركة التعليم الحر بالقصر الكبير”، للأستاذ مصطفى الشريف الطريبق، خلال سنة 2018، وذلك ضمن منشورات جمعية البحث التاريخي والاجتماعي بالقصر الكبير، في ما مجموعه 110 من الصفحات ذات الحجم الكبير. ويمكن القول، إن هذا العمل يقدم حصيلة نبش عميق في رصيد التراث المادي والشفاهي الخاص بتجارب العمل التعليمي بمدينة القصر الكبير خلال عهد الاستعمار الإسباني. فمن الواضح أن العمل قد استنزف من صاحبه الكثير من الجهد ومن التنقيب، تجميعا للمادة المصدرية والوثائقية، وتصنيفا لها، وتقييما لمضامينها، قبل استثمارها في تدوينه القطاعي الذي توزعت عبره مجمل أبواب الكتاب. لقد كان الأستاذ الطريبق حريصا على تقديم نتائج غير مسبوقة حول تفاصيل الجهاد التربوي الذي قادته نخب مدينة القصر الكبير، دفاعا عن حق أبناء المغاربة في تعليم حر، مغربي، عربي، مسلم، منفتح على العصر، وقادر على التحول إلى واجهة للتأطير السياسي من أجل الحرية والكرامة وبناء الشخصية المغربية المعتزة بانتمائها، والقوية بسلاح العلم والمعرفة والفكر. في هذا الإطار، برزت تجارب على تجارب، ومسارات على مسارات، وأسماء على أسماء، نجح الأستاذ الطريبق في تتبع جزئيات أدائها، وفي إبراز تقاطعاتها القائمة مع مشاريع انبثاق الوعي الوطني التحرري البديل عن المدرسة الاستعمارية أولا، ثم عن نماذج التلقين التقليدي الموروث عن العهود السابقة ثانيا.
لم يكتف المؤلف بتقديم معطيات إحصائية تقنية جافة، ولا مجرد تجميع كمي للوقائع وللأحداث، بل ظل حريصا على إنصاف ذاكرة ذوي الفضل في صنع توهج ما يمكن أن نسميه ب”مدرسة القصر الكبير”. هي مدرسة للعطاء الوطني الخالص، أينعت أسماء رائدة، نجح المؤلف في التوثيق لعطائها ولإسهاماتها، كما نجح في الكشف عن مبادراتها المتداخلة داخل مجال التربية والتعليم، سواء من خلال العمل داخل الفصول التعليمية، أم من خلال الأنشطة الموازية وعلى رأسها تجارب المسرح المدرسي، أم من خلال المواكبة الإعلامية، أم من خلال التأطير الحزبي المباشر، أم من خلال الامتدادات المجتمعية التي جعلت الجميع، نعم الجميع، ينخرط في العملية التربوية، من الأسرة إلى المدرسة مرورا بالشارع وبالجمعيات وبالمنظمات السياسية… بمعنى، أن المدرسة الوطنية أصبحت شأنا عاما، احتضنه المجتمع بكل تلاوينه بعد أن جعل منه أفقه المفتوح على الحرية وعلى الكرامة.
ولعل هذا ما أضفى على أداء الحركة الوطنية بشمال المغرب ميسمها الخاص وهويتها المميزة التي انفردت بها. ولقد أجمل الأستاذ الطريبق هذا الملمح، عندما استشهد في كلمته التقديمية، بفقرة وردت في وثيقة “عريضة مطالب الأمة” التي قدمتها الحركة الوطنية في الشمال يوم فاتح ماي من سنة 1931 إلى رئيس الحكومة الإسبانية. تقول الوثيقة: “ومما لا شك فيه أن بلادا على باب نهضتها تحتاج إلى صحافة حرة تثير الفكر العام وترشده، وتحتاج إلى جمعيات تدربها على الحياة العامة وتشعر الجماهير بكرامتهم، وتهذب مبادئهم، هذا زيادة على كون حرية النشر والصحافة والجمعيات هي من الحريات اللازمة للإنسان والتي لا غنى له عنها، وكل قيد في سبيلها هو عقبة في سبيل الترقي وتنوير الأذهان، مع كونه ماسا بأقدس حقوق الإنسان… ثم إننا نسجل هنا بمداد الأسف كون الحكومة السابقة لم تبد أي اهتمام بتعليم الأهالي كما يجب، فقد مضى على الحماية ما يقرب من عشرين سنة لم تفتح خلالها مدرسة ابتدائية خاصة بالأهالي مبنية على ثقافتهم الخاصة ولغتهم العزيزة…” (ص ص. 4-5).
لقد كان الخطاب مبادرا في كل شيء، عندما جمع بين قضايا الحرية والنضال من أجل حقوق الإنسان، ثم بين العمل التربوي والتعليمي الهادف إلى تعميم الوعي الوطني وتحصين الشخصية المغربية. كان هذا الخطاب الوطني سابقا لزمانه، مما أعطاه قوته التعبوية، بل وأضفى عليه صفات المشروعية التاريخية التي لازالت تصنع راهنيته إلى يومنا هذا.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 18/12/2018