كهف الأحقاد

 

لتلك الذكرى رائحة نفَّاذة تملأ حلق الحاضر غصَّات مؤلمة وتهدي الحنين تفاصيل نبضٍ له رعشة الاحتجاج ولن تسمع سوى « واااااطلع !! واطلع !!! « ، وحدها هذه الكلمة الشفرة كانت صرخة متمردة كفيلة بجعل غالبية التلميذات والتلاميذ يرفضون الصعود إلى قاعات الدرس ، يتجهون نحو الهضبة الملتصقة بملاعب التربية البدنية ، في دقائق ، يشكلون حلقات النقاش والغناء ، ويحضن العشب المتوحش شغبا مكبوتا وأحلاما بريئة .
لم نكن نعرف حقيقة من يقف وراء الأمر بالصعود ، صيحة وحيدة كانت تكفينا ، تفرغ القاعات تلامذتها ، تحضن الممرات والأدراج نحيب الريح المسعورة على الدوام ، وفي الساحة المعشوشبة تتردد أغاني لمشاهب والغيوان وشعارات الإدانة لأحقاد كشرت عن أنيابها لقتل الفقراء وإطفاء حماس الصحوة .
قيل لنا إنهم سيحرموننا من الحق في التعليم ، ساد الغضب ، توحَّد الجميع ضد ذئاب تحلم بتدمير رغبتنا في الحصول على المعرفة والخروج من ظلمة الكهوف والتخلف ، مات ليوطي ولم يمت مخبروه وفروعه المشوهة ، جحظت عيونهم من الحقد والندم ، تناست سلالة الخيانة أن المدرسة هي الملاذ المنقذ ، وأرادت خلق قطيع طيِّع لا يرفض ولا يعارض .
بحماس مختلط التجنيس والانتماء ، رغم تباعد الجماعات والفصل بين الأقسام ، ردد الشباب فين غادي بي يا خويا، وحَيدُوه وحَيِّدوه ، وراه ليام الظلم تفوت وناسها يغيبوا يا قلبي ، تنافسوا إناثا وذكورا حول من ينشد بصوت مسموع لا يخاف ولا يصمت ، آمنوا بقدرتهم على الاحتجاج وفضح أقنعة الوحوش الحقيرة ، فيما توزع عدد قليل من الفوقيات والسراويل القصيرة بين الممرات المتربة ، والتلميذ المخبر « ولد الهوارية « بآلة تصوير متطورة يلتقط بعشوائية خبيثة صورا ، يتنقل بين الجماعات ، يستبلد الأبرياء ، ويوزع النكت بحقد موروث .
لم يفاجئنا المخبر المندس المكلف بقتل الفكرة ، كذبوا عليه وقالوا له نحن العروبية سنقف في وجه الفوّاسة حتى لا يحكموننا ويأخذوا كل شئ ، وكانت الشاوية مسقط رؤوس الأشراف والأنذال في الآن ، لم نسأل عن سبب ارتدائه للبذلة السوداء ، مقدمات اختياره الحقير واضحة ، والمكافأة كانت انسلاله بسرعة نحو كراسي المقدمة اللئيمة ، وقانون العصابة مع ثنائية الاستغباء والاستحمار ما زال ساري المفعول .
التحق بنا من كانوا خارج سور المؤسسة ، ومن الفم للأذن همْساً انتشرت أخبار عن تواجد فرق المخازنية وأدوات مكافحة الاحتجاجات وإفشال الإضرابات ، صفقنا للمدير الذي رفض الترخيص لدخول أجهزة القمع ، اقتنعنا أننا داخل قلعة العلم والمعرفة ولسنا تابعين لأوامر أم الوزارات ، تحمسنا وغنَّيْنا « السايق تالف والراكب خايف « ، اعتقدنا أن الإدارة والأساتذة سيحموننا من سعار العصي المرعبة ، تجاوزنا باب الخروج ، واصلنا الغناء والأناشيد والاحتجاج ، ودون مقدمات ، انقضت علينا كائنات العض والضرب والركل و تشتتنا راكضين في كل الاتجاهات .
رغم انفراط حبيبات السبحة المقرونة بالسهو والشرود ، لم أستطع نسيان آلام السقطة الموشومة ، ركضنا بعشوائية هروبا من أحقاد مفترس لا يرحم ، وعند مكتبة النجاح ، تساقطت أجسادنا فوق بعضها كأوراق شجرة قتلتها قسوة الخريف الحمقاء ، التفتنا إلى الخلف ، كانت الملابس الموحدة في الترهيب تلتقط ضحاياها وترمي بها في « القَشْقِيشَة « المهووسة بإفراغ الذي تحمل بالكهف الملعون .. تزايدت صرخات الرعب وتضاعفت إعلانات البحث عن المختطفين والمختطفات ومجهولي المصير .
تسللنا من الدروب الفرعية لحي التقدم ، خفّ إحساسنا برعب المطاردة ، هدأت أنفاسنا ، غمرتنا نشوة الانتصار على أخطبوط الرعب وسياسات الأمر الواقع ، وصلنا درب السعادة ، صادفنا قرب مسجد فريميجة والد الصديق عبد الرحيم متوجها لصلاة العصر ، استغرب عودتنا المبكرة من المدرسة ، سألنا عن السبب ، قلنا له « دايرين الإضراب « ، ارتدى رحمة الله عليه جبة الناصح الحكيم وقال : « اسمعوا أوليداتي راه ما عندكم غير القراية هي اللي تنفعكم وتنقذكم ، خدموا عقولكم واتبعوا ما يصلح لكم ، ولا تتبعوا أعداء المخزن ، لستم قطيع البقر اللي قال لكم مُّوووووه ما نقراوش تبعوه وتقولوا موووووووووووووه « ، التزمنا الصمت ، لم نرفع عيوننا نحو تجاعيد وجهه التي لا تحصى ، تركناه يكمل حكمة الآباء الخنوعة ، توجه للمسجد ، وانفجرنا ضاحكين من تشبيهه غير البليغ .
بمعتقل درب مولاي الشريف ، قريبا من ممر شاحنات الحجر ، وضعوهم في عمق الظلام ، تحت الأرض ، سلطوا عليهم الحجاج وأحقاد الخيانات ، وفوق الزنازين القاسية ، مارسوا شماتتهم المرَضية ، ركضت خيول التبوريدة بمحاذاة ملعب لافارج ، غنت الشيخات للمخبرين ، ورقصت للقواد المنتشين بأوامر الطغاة .
ما زلت أتذكر ، في ليلية صقيعية الهوية ، حوالي الساعة العاشرة ، كان الوالد يمسك بيسراي ، تجاوزنا الباب الشرقي لمقاطعة الأحلام ، اقتربنا من الحاجز الغامض ، سمعنا صرخات قوية يأتي صداها من جهة مجهولة ، أشار إلينا حارس المدخل بالابتعاد إلى الجهة المقابلة ، اتجهنا نحو قوس بشار الخير ، سألت أبي عن مصدر تلك الصرخات المرعبة ، جرني بعنف وقال لي خائفا : « لا أعرف ، زيد واسكت ! « ، وفيما بعد ، لعنت جبن الوالد وجيله الخوّاف من فضح مستور الجريمة ودكتاتورية المخزن البليدة .
أخبرني الجيلالي المردة كحّل الفردة قال : أعطوني المكنسة ، أمروني بنزول الأدراج السرية ، صرخات الأبرياء يتردد صداها بين الممرات ، والرائحة الكريهة قوية ، اختنقت أنفاسي ، عجزت عن تنظيف مجزرة التعذيب ، استسلمت لغيبوبة قاهرة ، نجوت من الموت ، ومنعوني من البوح بسر المكان .
كان المخزني الصغير يرى نفسه في مقام الدولة ، يفعل بالناس ما يريد ولا من محاسب ، ووقوف السيمي قرب الحاجز الحديدي الموجود خلف عمارة المقاطعة لم يكن يثير الاستغراب ، يدخل بسطاء بشار الخير من باب حيهم المقابل لباب الجحيم دون أن يسألوا ما الذي يحرسه المخازنية حقيقة ولماذا لا يفارقون المكان ، بسذاجة بريئة كنا نفسر تواجدهم بحراسة العمارة وسيارات سكانها من موظفي أم الوزارات ، ولم يخطر ببالنا أن ما تحت الأرض يخفي حجاجا أوغادا ومجزرة حقيقية تنتقم من أولاد الشعب .
كانت السقطة والشهادة وسؤال الألم ، من يومها أدركت يقين الحكاية ، مسار مرسوم بقلم شيطاني شرير ، بذاك الحي الحزين ، التصقت بنا لعنة الحلم المستحيل ، تصالحنا مع اختيارات اعتقدناها حرة ، شهداء وعشاق وأشقياء ، ديناصورات وغربان شؤمٍ مدروسٍ ، والوحوش تدافع بشراسة عن جشعها الخرافي المزمن .


الكاتب :  حسن برما

  

بتاريخ : 16/02/2018

أخبار مرتبطة

روني شار يقول بأن على الشاعر أن يستيقظ قبل أن يستيقظ العالم لأن الشاعر حافظ وجوه الكائن اللانهائية.شعراء أساسيون مثل

رَفَحْ جرحٌ أخضرُ في مِعْصم غزَّةَ، وَنَصْلٌ في خاصرة الريحِ. ماذا يجري؟ دمُ عُرسٍ يسيلُ أمْ عروسُ نِيلٍ تَمْضي، وكأنَّ

– 1 – هل الرمز الشعري الأسطوري ضروري أو غير ضروري للشعر المغربي؟ إن الرمز الأسطوري، اليوناني، خاصة، غير ضروري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *