لا وسطية في القصة القصيرة جدا

احتفى مهرجان القصة القصيرة جدا بفاس أيام 3/4/5 نونبر 2019، في دورته الثالثة بالقاص والروائي حسن البقالي بعد تجربة إبداعية ثرة ونوعية زاوجت بين الكتابة القصصية والروائية، إذ صدرت للمحتفى به في القصة القصيرة جدا مجموعات «هو الذي رأى»، «مثل فيل يبدو من بعيد»، «الرقص تحت المطر»، «قط شرودنجر» ، فيما كتب في القصة القصيرة «سبعة أجراس لزمن البرتقال»، الإقامة في العلبة»، جبة بورخيس»، «قتل القط» وفي الرواية صدرت له «ماء الأعماق».

 

تحكي إحدى أساطير الهنود الحمر أنهم قبل أن يسكنوا الأرض، كانوا يعيشون فوق الغمام، ومن ثمة يرون الشمس تغيب نهارا وتعود إلى وكرها عند الغروب، فأرقهم السؤال: ترى إلى أين تمضي وفيم تقضي نهارها؟
للحصول على جواب قرروا اصطياد الشمس، بنصب الشباك في طريق خروجها.
ألم يظل الفنان، المبدع لزمن طويل ذلك الشخص الملهم الذي يدين في تلقي إلماعاته لمصدر علوي: إله من آلهة الفن، أو جنية من وادي عبقر، أو مزمار سحري.. قبل أن يهبط إلى أرض البشر الفانين يخالطهم في الأسواق، تماما مثلما هبط الهنود الحمر أرضا خلال محاولتهم اصطياد الشمس. وألا يذكرنا هذا الهبوط بهبوط آخر في مخيالنا العربي الإسلامي سببه الأكل من الشجرة المحرمة؟
كل كتابة إبداعية هي بحث مستمر عن فاكهة غير متاحة.. عن شمس لها لون القلب ودمه، يهديها الكاتب للآخرين، ولها أن تلفحه، تحرق جلد الروح لديه، وتسقط منه الأشفار وشعر الرأس، ليخرج للناس مثل هندي أحمر ملفوح الجلد.
وكما أن شهرزاد لا تعيش نهارا لأن الحكايات أغمضت أعينها عن ذلك، على الكاتب أن يختفي بعد الكتابة. عليه أن يتوارى خلف النص في صمت من اقترف جريرة، ويترك الكلمة للمتلقي.
أيها الكاتب
على هدي النحل، اكتب ومت
وعلى هدي النحل، لتكن كتابتك لاسعة حريفة توقظ المواجع، في الوقت الذي تصنع فيه من الأنات نوتات موسيقية للمتعة وزلزلة الوجدان.
إن كاتبا لا يتمتع بما يكتب، غير قادر على إيصال المتعة للمتلقي. وكاتبا يعيش الصخب اليومي للنت ومواقع التواصل الاجتماعي، غير قادر على الإنصات العميق لدبيب الحبر السري.
من هنا مأساة القصة القصيرة جدا.
هي التي قمطت وهدهدت ونوغيت في المواقع النتية والصفحات الإلكترونية التي تنسخ إحداها الأخرى، حيث ينصت الكاتب إلى وقع حوافر النص أقل مما ينصت إلى تأشير الآخر وتعليقه.. الآخر صديق الصفحة الذي لا يفلت من المجاملة ومن أثر الهالة l’effet de hallo، )وعذرا على استيراد هذا المفهوم من عالم التربية، وعلم الامتحانات docimologie خصوصا( ، وبالتالي حيث كل النصوص جميلة ورائعة وفوق الوصف… ومن هنا يذوب النص الجيد فعلا، يذوب كالملح في الركام.
وإذا كان المبدع عموما يحاول اصطياد الشمس، فكاتب القصة القصيرة جدا يصطاد النجوم. يهمه نثار الأشياء وشتاتها.. يهمه أن يكسر زجاج العالم ليجمع الشظايا ويعيد تأثيثه بحماس البنائين العظام، وبما يجعل كل قصة قصيرة جدا كوة صغيرة، لكن كلها إشراق بانفتاحها على بستان من الدهشة.
يكفي أن يحسن الكاتب اختيار الزاوية التي يحدق من خلالها إلى نثار العالم، إلى دقائقه وجزئياته، بالوضوح الكافي الذي يميت كل إلغاز وتعمية، وبالعمق الكافي الذي يدحض أية سطحية واختزالية.
وإذا كان من مبادئ الحكيم الصيني أن يمسك العصا من الوسط، فلا وسطية في القصة القصيرة جدا: إما أن تخرج من التربة مستوية، ناضجة، ناصعة كالفجر، أو منقوصة التكوين مغبرة من أثر الأسمدة الكيماوية والأدوية المحرضة على الولادة، وفجة.. إما أن تنتمي بنبل إلى فن الكتابة ضمن هذا الجنس الوليد الواعد، أو تكون مجرد خبر عابر وكلام مرسل.
القصة القصيرة جدا إما أن تكون أو لا تكون.

* الكلمة الملقاة في مهرجان القصة القصيرة جدا بفاس


الكاتب : حسن البقالي

  

بتاريخ : 16/11/2019

أخبار مرتبطة

ينظم المعهد الفرنسي بفاس، يوم 26 أبريل، لقاء أدبيا مع الكاتب جيلبيرت سينوي، حول إصداره الأخير «رائدات وبطلات تاريخ المغرب».

هيا اغتسل أو تيمم وصل واقفا على الطفل الشهيد الملثم ما قال آه ساعة الذبح أو راح هاربا بجرحه يتألم

لنبدأ بلون الغلاف والعنوان، وبعد ذلك نحاور العمل، الذي سمى نفسه نصوصا نثرية، للفنان والشاعر والروائي المصطفى غزلاني. كما يبدو،

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *