لعبة الميتاسرد في رواية «النهر يعضّ على ذيله» لإسماعيل غزالي

عمد الرّوائي إسماعيل غزالي في بناء روايته الأخيرة «النهر يعض على ذيله»(1) إلى تمَثّل مجموعة من التقنيات الروائية الجديدة كتوظيف الخطاب الميتاسردي، وخلخلة النسق السردي، وتشظية الأحداث والفضاءات والشخصيات، والارتِكان إلى لعبة الاحتمال أوالافتراض، وتكسير الإيهام الواقعي وغيرها.
ويبرز الميتاسرد، على رأس هذه التقنيات، في الرواية قيْد الدراسة. وذلك باعتباره كتابة واعية بذاتها تتخذ من السرد موضوعا لها. فكيف شَغّل الكاتِب الميتاسرد؟ وما هي أشكاله الفنّية والجمالية في «النهر يعض على ذيله»؟ وما وظائف لعبة الميتاسرد في تشييد عوالم الرواية؟.
الميتاسرد «تقنيّة نصّية سردية يرتَدّ فيها السّرد على ذاتِه، ويحيل على مَحكِيِّه، بِوصْفِه مَوضوعا مِنْ مَوضوعاتِه»(2) ، هوخطاب، حسب الدكتور جميل حمداوي، «يسائل طرائق تكوُّن الإبداع ونشأته، ووصف عملية الكتابة وخطواتها، ورصد التناص والمناص والنص الموازي ، وتبيان أنواع التداخل بين النص الإبداعي والنص الميتاسردي، مع تبيان عمليات الانتقال من النص السردي إلى النص الميتاسردي، والعكس صحيح أيضا. ولم يعد الخطاب الميتاسردي أو الميتاقص اليوم مجرد تضمين أو تداخل النصوص السردية، بل يتخذ عدة أشكال تتعلق بالتناص، والنص الموازي، والعتبات، والبناء السردي، والخطاب النقدي، والخطاب التنظيري، ومتخيل القراءة والرواة، وميتاسرد الشخصية، وتكسير الإيهام السردي، ورصد عوالم الكتابة، وشرح تكون وتركيبا، وتبلورها فنيا وجماليا ودلاليا ورؤيويا..»(3). وهكذا فقَد تَفاوَت كُتّاب رواية الميتاسرد في تشكيل نصوصهم على ضوء هذا المَلمَح التّجريبيّ، ما بين طارقٍ لِهُموم الكتابة والقراءة، ومشتغِلٍ على التّضمين الميتاسرديّ وتَداخُل السُّرود، وَبين منتقِد لِمَرويِّه أو مُنظِر له، وكاشفٍ لِلُعبة السرد والإبداع.. وإذا ما بحثنا عن أشكال توظيف الميتاسرد عند إسماعيل غزالي في هذه الرّواية، فسنجِد تشغيلا للمخطوطاتٍ، وطرْقا لتيمة الكِتابة الروائيّة، وتداخلا للنصوص وتشظّيها وتقاطُعها، وحضورا للتناصّ الميتاسرديّ .. وأشكالا أخرى نفصّلها فيما يلي:

1ــ المخطوطة الميتاسردية
الميتاسرد كما حدده الدكتور فاضل ثامر “وعي ذاتيّ مقصود بالكِتابة القصصية أو الرّوائيّة، يتَمَثل أحيانا في البحث عن مَخطوطة أو مُذكرات مفقودة، وغالِبا ما يَكشف فيها الراوي أو البَطَل عَن انشغالات فَنّية بشروط الكتابة الرِّوائيّة” (4) . بهذا الشّكل تماما شغّل غزالي الميتاسرد، بِتوظيفه مَخطوطاتٍ مِن إبداعِه، وتضمينها في روايته داخِليّا، ومن ذلك نذكر:
أ. تضمين مخطوطة قصة قصيرة:
ضمَّن المؤلِّف نصّه مخطوطةَ قِصّةٍ قصيرة في الفصل الثاني مِن الرّواية، عُنوانُها “وَشم أدريانا”، ستبحث عنها شخصيّة “حارس المرمى”. هذه القصة مخطوطة مَنسوبة لشخصية كاتبةِ الروايات البوليسية “ليليان”. وتتقاطع مع الرواية المُؤطِّرة لها، وتتداخل معها سرديا في مجموعةِ مُكوّناتٍ:
ــ مكوِّن الحدث: تتمحور القصة/المخطوطة حول مَقتل ليلى في ظروف غامضة، وهو حدث مِن أحداث الرّواية.
ــ مكوّن الشخصيات: بعض شخصيات هذه القصة، هي نفسها شخصيات لها أدوار داخل الرواية. منها: ليلى، أريانا، بنيامين روث، سوزان.
ــ مكوّن المَكان: وهو مُرّاكش، المَكان الذي سافرت إليه شخصية الرواية ليلى لإنجاز فيلم وثائقي، والبحث عن صانعة الوشم بِإرشاد مِن صديقتها “ليليان”. وهو نفسه الفضاء الذي جرت فيه أحداث قصة/ مخطوطة “وشم أدريانة”
ب. تَضمين دفتر مخطوطات
وهو دفتر يعود للشاعر بنيامين روث . ستعتمده المخرجة “ أمازون” لكتابة سيناريو مسرحيّة حول روح راقصة مغدورة. جاء في الرواية: “وجدت أمازون في دفتر التخطيطات مادّة عجيبة لمسرحيّة سوداء حول مدينة مكناس طالما حلمت بإنجازها” ص 562. ولم يذكر لنا الكاتب مِن هذا الدّفتر إلّا حكاية عنونها ب “ حاشية على كِتاب الحواشي” و التي تحكي عن المخرج “آدم وولف” مع الراقصة الملدوغة بمائة أفعى ص566.
ج ـ تضمين مخطوطة رِواية
وهِي مخطوطة رواية “زهرة باخ” التي نُسِبت إلى شخصيّة ليليان كاتِبة الروايات البوليسيّة، حرّفتها “سانشيز” بعد إحراقها المخطوطة الأصلية. وهذه المخطوطة لَم يورد لنا الكاتِب نَصّها كامِلا، بل اكتفى فقط بالإشارة إلى مضمونها، فهي تكشف ضُلوع “سانشيز” في سلسلة جرائم قتل، لِذلك ستحرق النُّسخة الأصليّة مِن هذه الرّواية وَتُحرّفها، لتظهر الحقيقة في الأخير.
هذه المخطوطات المضمَّنة، بِما تحمِلُه مِن حِكايات، تدعَم الخاصّية الميتاسرديّة. كما يُمكن أن تُقرأ بوصفِها نصوصا وحِكاياتٍ مُنفَصلةً ومُستَقلّة، لكنّها في عُمْقِها تُشَكِّلُ، مع بعضِها، مَتْنا سَرديّا مُتَرابطا إلى حَدّ كَبير. لتبرز وظيفة الميتاسرد المتمثلة هنا في أنّ المخطوطات المُضَمّنة داخليّا (مخطوطة القصة القصيرة، ومخطوطة حِكاية “كِتاب الحواشي”، ومخطوطة الرّواية)، تُضيء الرواية، وتُعمّق من دلالاتها، وتشعّب مساراتها. وهكذا فلُعبة المَخطوطة الميتاسردية أعطتْ أكلَها في تَشييد صِرح الرواية مبنى ومعنى.

2ــ طرْق تيمة الكتابة الرّوائيّة
ارتباطا بالملمح السّابِق، نجد الميتاسرد أو الميتاتخييل يبرز جَليّا في تناول مَوضوعة الكتابة الرّوائيّة. بِحيث نُلفي في الفصل الثاني مِن الرّواية طَرْقا للحديث عن أربع روايات: رواية “عاشق ليليان الأخير” لشخصية حارسِ المرمى أبي إيوس، رواية “كتاب النهر” لبّاكو فيرنانديز زوج إيوس، ورواية “أن تولد بالصّدفة في مكتبة” لإيوس. رواية “الحي الخلفي للجنة” لاسماعيل غزالي، رواية “زهرة باخ” المنسوبة لليليان التي ذكرتُها. فهَمُّ الكتابة الرّوائيّة طغى على الكاتب في هذا الفصل، بِحيث تتبّعَ السّارِدُ مسارَ كتابة وتشكُّلِ وتخَلُّقِ هذه الرّوايات ومخطوطاتها قبل أن تستويَ فتُقدّم للنّشر، ثم يتابعها، بعد النّشر، بالتعليق والمساءلة والتعقيب. ومع همّ الكِتابة يحضر هَمّ الكِتاب والقراءة، وهوَس المكتبات، هوسها ومتاهيتها التي تذكّرنا بمتاهات أمبرطو إيكو في روايته اليتيمة “اسم الوردة”.
ويتجلّى الاحتفالُ بموضوعة الكِتابة الرّوائيّة، أيضا، في إلحاق الكاتِب حاشيةً أو هامِشا بآخرِ الرواية. فقد ذيّل الفصلَ الثاني بهامِش يتحدّث عن روايَتَيْ “كتاب النهر” و”أن تولدَ بالصّدفة في مكتبة” المُرسَلتيْن إلى دار النشر (القط الأسود): “ هاتفوه من دار نشره “القط الأسود” وأكّدو له وُصول مظروف رواية ثانية باسم إيوس التي وردت كشخصية في رواية “كِتاب النّهر لباكو فيرنانديز..” ص 596 -597. فهذه الحاشية بالإضافة إلى أنّها تضيء النّص الأصليّ وتستكمل تفاصيله، فهي خِطابٌ ميتاسردي يتناول موضوعة الكتابة ويؤكّد الفعل التخييلي لهذا العمل الروائي.

3ــ تشغيل التناص الميتاسردي:
التناصّ المُراد هنا ليس مجرّد إشارة إحاليّة صِرفة إلى نصوص أخرى، بل هو تناصّ ميتاسردي «دالّ يُحيل على عوالم الكِتابة والكُتب امتصاصا وتفاعلا وحِوارا ومُساءَلَةً» (5).
وبالعودة إلى الرّواية، فأوّل ما يستَرعي انتِباهنا في الفصل الأوّل من الرواية، استحضارُ الكاتب روايةَ «الحمار الذهبي» للكاتب الروماني «لوكيوس أوبوليوس»(6)، بالإحالة عليها والتّناصّ معها، بل وبإعادة مَسرحَتِها داخِل حُلْم إحدى الشّخصيات. ويَتمثل التناصُّ مع هذه الرواية في:
ــ استحضار الفضاءات المكانية (معبد إزيس، شاطِئ كنخريا، إقليم تساليا، نهر بينيوس، هيباثا..)، وهي الفضاءات ذاتُها الواردة في رواية الحمار الذهبي، باعتبارها أمكنة مرجعية
ــ تتبع مسار رحلة بطل رواية الحمار الذهبي (مِن هيباثا إلى مَعبد إزيس)، هذه الرحلة رسَمها الكاتب عَكسيّا. فقد جَعَل بَطلتَه أريانا « تعيش داخِل رواية الحِمار الذهبي .. تُحاول أن تَعبُر خط الرحلة العجيبة التي قطعها لوكيوس بطل الرّواية في جسم حِمار من هيباثا إلى المَعبد، لكن الرّحلة عكسية الآن» ص 160.
ــ الاحتفاظ بأسماء شخصيات رواية الحِمار الذهبي( بامفيلا، ميلون، فويتس، برهانيا، أرستومنيس، لوبوس، ثيلفرون، بثياس..)، مع تغيير أدوار بعضها، أو إسناد أسماء هذه الشخصيات إلى أمكنة أو محَلّات.
ــ تشخيص حكايات وفصول من رواية الحمار الذهبي. ومن ذلك وصْف لوحاتٍ تحمل مشاهدَ من رواية الحمار الذهبي، وجعْلُ البطلة أريانا «تُشخّص كلّ نساء الحمار الذهبي بدءا بالساحرة ميروى ووصيفتيها، والخادِمة فويتيس، وبامفيلا، والمربية برهانيا، وبسيشة والمخطوفة كاريتي..ثم إزيس نفسها»ص194 .
فهذا التناص الميتاسرديّ مع رواية الحمار الذهبي، والذي شغَل مساحة أربع وثمانين صفحة، أتاح للكاتب توليد المعنى وخلْق مستويات متعددةً مِن التّأويل. ومَكَّنَه مِن لَفْت انتِباه القارئ إلى المُتَناصّ، وإغراقِه في متاهة عقد المُقارنات بين النّصّين السابق واللاحِق لكشف علاقة التفاعل والاشتقاق بينهما، وبالتالي إشراكه في بناء مُتخيّل الرواية، وهذا هو جوهر الخاصّية الميتاسردية.
وهكذا يتحول التّناصّ هنا من إشارة إحالية صِرفة إلى خطاب ميتاسردي يستحضر تيمة الكِتابة ويَفضح لُعبة السّرد، ويسائل طرائق تكوُّن الإبداع ونشأته اعتِمادا على نُصوصٍ مُوازية.

4 ــ إقحام اسم الكاتِب داخِل الرّواية
الفصل الثاني من الرواية يحمل عنوان “إيوس ( الباب الخلْفي للجنّة)”، وهذا العُنوان الفرعِيّ “الباب الخلفي للجنّة” هو العنوانُ نفسه لكِتابٍ تكرّر وُرودُه في مَتْن هذا الفصل، كِتاب منسوب إلى الكاتب “إسماعيل غزالي”، عَثر عليه الطبيب النفسي في أنقاض قصر بالجنوب، بعد أن لازَم أحلامه: “حفر عنه بأصابِعِه، واتضح له أنه كِتاب.. نفض الغُبار عَنه وقرأ: الباب الخلفي للجنة. إسماعيل غزالي” ص414. فما علاقة كِتاب “الباب الخلفي للجنة” بالفصل الثاني مِن رواية “النهر يعض على ذيله”؟ أليس هذا الكتاب/الرّواية هو نفسه الفصل الثاني المُعَنون ب “إيوس ـ الباب الخلفي للجنة”؟ وهل هو رواية أصلا؟ عَمّ يتحَدّث أو يَحكي؟ ولماذا لَم يورد لنا الكاتِب شيئا مِن مُحتواه، كأن يسرد مقطعا منه أو ملخصا عنه؟ وإن افترَضْنا أنّ هذا الكِتاب روايةٌ، فكَيف أمكَن لمؤلِّفه الضّمني (إسماعيل غزالي الضّمني) أن يتحدّث فيه عَنه؟ أي كيف أمكَنَهُ أن يرصُد في كِتابِه رِحْلَةَ هذا الكتابِ نفسِه (الباب الخلفي للجنة) المُتَنَقِّل بين القُرّاء والمَكتَبَات. هل تَنبّأ الكاتب الضّمني بِمصير كِتابه قبل أن يكتبه؟ أم هذا محضُ تخييل ماورائي ميتاسرديّ (من درجة ثانية) مارسَه المُؤلّف الضِّمنيّ بِمَكر فحَدّثنا عن كِتاب يكْتُب نَفسَه ويحكي عن ذاتِه؟ أم أنّ هذا الفصل ما هو إلّا مَسْرَحَةٌ لِهذا الكِتاب “اللعين” بحكاياته المتشعبة ؟ أسئلة متناسلة كثيرة يطرحها هذا الكتاب المُضمَّن. وإذا ما سلَّمْنا بأنّه رواية، الروايةُ نفسُها التي احتَواها الفصل الثاني، فإنّ هَذِه الرواية الضّمنية، يَتَنازَعُها مُؤلِّفانِ مُخْتَلِفان بِوصفِهما وَجهينِ لِعُملة واحِدة، كلاهُما اسمه إسماعيل غزالي، هما المُؤلِّف الأصلي صاحِب الرّواية الأولى الكُبْرى الذي يوجَدُ اسمُهُ على ظَهْرِ الغِلاف، وَمُؤَلِّفٌ داخِلِيٌّ تَمَّ إقحامُهُ، حَامِلا اسْمَ الكاتِب، لِيكون صاحِب رواية “الباب الخَلفي للجنة”، وهِي جُزْء مِن الأولى. وكأنَّ المُؤلِّف الأصلِيَّ خَلقَهُ لِكَي يَخلق بِدورِه هذه الرّواية إيهاما وَتَجْريبا. لِتَنشَأ بذلك علاقةٌ جدلية مُتداخِلة بين المُؤلِّفَين، وبين الروايتين الخارجيةِ التي تُمثّل إطار الرواية، والدّاخليةِ التي تمثِّل جزءًا منها.

5 ــ تكسير الإيهام بالواقعية
ويتمَثّل هذا التّمظهُر الميتاساردي في تحطيم الجدار الفاصل بين الحقيقة والوَهم في الفعل السّرديّ، تماما كما فَعَل بريخت في مسرحه الملحمي الجدلي. ومِن ذلك إخبارُ السارِد لنا بأنّ ما حَكاه، أو ما سيحكيه، سلفا مُجرّد تهيؤات وأوهام.
ففي الفصل الأوّل، بعد وصول بطلي الفصل الأول “أريانا” و”لوكيوس” مطار الدار البيضاء قادمَين إليه من نيويورك، مرورا بروما ثم هيباثا اليونانية سيفاجئُنا بأنّ “ كلّ تلك الرحلة الأفعوانيّة إلى روما وبعدها هيباثا اليونانيّة كانت ضربا من حمّى الأضغاث إذا. تهيؤات مارقة جَنَحتْ به (لوكيوس) ونهبتْ يقظته في حوار الطائرة (بيغاسوس) مع الهندية الحمراء. حوار بعضه حقيقيّ، أّمّا أطواره الأخرى فتخييل سافر ولاذع مُريب.” ص200. ولِكي يُعلِّل السارد هذا التهويم والخرق المفاجئ، أخبرنا بأنّ ما كان بين البطلين من حديث هو “حوار دار بينهما عبر النّوم، وهما يتجاوران في مقعدين على الطائرة، أما الحوار الفعليّ، فلم يكن إلّا هذر كلمات، كلمات علامات نبشت غيهب الدّواخل، واستنبتت الحكايات المتخيّلة” ص 200. وبالتالي فهما قد عاشا أحداث رواية الحمار الذهبي، مِن خلال مَسرحتِها في حُلْمِهِما المُشتَرك وهُما إلى جِوار بعضهما في مقعد الطائرة .
وَمِن كسر الإيهام بالواقعية حدثُ احتراق مسرح برودواي، والذي لا ندري حقيقته لأوّل وهلة، فما روَتْه بطلة الفصل الأول “أريانا” للوكيوس يبقى مجرّد تخييل روائيّ. لأننا سنجد بطلة الفصل الثاني “إيوس” في آخر الرواية قد وصلتْ شارع برودواي فـ” ركَنَتْ عربتها بمحاذاة المسرح الكبير ليلا.. كما لو تُركِنها على حافّة العالم” ص 590 –591. فلم يقل السارد هنا بِمُحاذاة أطلال أو أنقاض المسرح الكبير. مما يعني أنه لَم يحترق. هذا ما سيتأكد في الصّفحة المُوالية عندما سَيورِدُ السّارد سيناريو احتراق المسرح مؤطَّرا في حُلم إيوس وهي غافية في عرَبَتها أمام مسرح برودواي.فهذا الحَدث الذي بدا لنا واقِعيّا في الفصل الأول، سيتحَوّل إلى حُلْمٍ وتهويم وافتِراض أدبي فنّي وَجَماليّ.
ويظهر هذا التّهويم الأدبي أيضا، في تأطير حكاية القُرصان “كتاب الحواشي” داخِل حلُم، وختْمها بِتأطيرٍ آخر مفاجئ، بِجعل كاتِب القصص “زارا” يتخيّل سيناريوها لَها، وهو السيناريو نفسه الذي قامَت عليه الحكاية من بدايتها حتّى نهايتها، وكأنّ هذا القاصّ خبَّرَ تفاصيلها العجيبة. يَقول “زارا” وهو يخاطِب الكتابة:” تتحرّشين بي كي أتخيّل سيناريو هذه الحاشية. بلى، أن أتخيّل شخْصا نزل بِمكناس من أجل أن يشتري حقيبة جِلدية لِصديقة إسبانية.. ويجد نفسه واقفا في حَلقة أمام راو ملقّب بالقرصان. القرصان يحكي حكاية كِتابٍ جِلْديّ غريب..” ص 569. لتظلّ “كتاب الحواشي” حكايةً تتقاذفها ثلاثة أقطاب أو إطارات: إطار السرد الروائي الأُفُقي، إطار الحلم (حلم أستاذ الأدب المُقارن)، وإطار تخييل كاتِب القصص المُعتزِل “زارا”. بهذا اللعب الرّوائيّ، حاولت الرواية تكسير صدق المرويّ وواقعيّته، بِفضحِ أسسه الوهمية التخييلية. وبالتالي تكسير حقيقة الواقع عبر استبدالها بوهم المُتخيَّل.

وعلى سبيل الختم
فالنهر يعضّ على ذيله سفر بانورامي في متاهات الجغرافيا والكِتاب والكتابة، رحلة أفعوانيّة مكتوبة بوعْي سرديّ واعٍ بالمكتوب، وعيٌ من قِبل الكاتب بتقنيات الكتابة السردية وإدراك لآلياتها الجمالية ومقوّماتها الحداثية التجريبية. فقد كنا بصدد لعبة ميتاسرد مُحكَمة، أفادَ منها الكاتب واستثمرها بنباهة ودون مغالاة، في تشييد متخيله الروائيّ.

هوامش:
ـ1ــ إسماعيل غزالي، النهر يعضّ على ذيله. دار العين للنشر، القاهرة، ط1سنة 2015
أحمد خريس، العوالم الميتاقصّية في الرواية العربية، دار الفاربي، بيروت، ط1، سنة 2001 ص13ـ2 ـ
ــ 3- جميل حمداوي، أشكال الخِطاب الميتاسردي في القصّة القصيرة بِالمغرب، نقلا عن موقع جريدة المُثقَّف العراقيّة، العدد 2114 بتاريخ 08 ماي 2012
ـ 4 ـ فاضل تامِر، ميتاسرد ما بعد الحداثة، مجلة الكوفة، العدد 2، شتاء 2013، ص63
ــ 5ــ جميل حمداوي، (مرجع سابق)
ــ 6 ـ لوكيوس أبوليوس، الحمار الذهبي أو التحولات. ترجمة د أبو العيد دودو، الجزائر، ط1 أبريل 2001

(*) قاص وناقد من خنيفرة، الفائز مؤخرا ب “جائزة اتحاد كتاب المغرب للشباب”، في صنف القصة القصيرة، دورة محمد زفزاف، عن مجموعته القصصية “عمى الأطياف.


الكاتب : عيسى ناصري

  

بتاريخ : 26/05/2017

أخبار مرتبطة

روني شار يقول بأن على الشاعر أن يستيقظ قبل أن يستيقظ العالم لأن الشاعر حافظ وجوه الكائن اللانهائية.شعراء أساسيون مثل

رَفَحْ جرحٌ أخضرُ في مِعْصم غزَّةَ، وَنَصْلٌ في خاصرة الريحِ. ماذا يجري؟ دمُ عُرسٍ يسيلُ أمْ عروسُ نِيلٍ تَمْضي، وكأنَّ

– 1 – هل الرمز الشعري الأسطوري ضروري أو غير ضروري للشعر المغربي؟ إن الرمز الأسطوري، اليوناني، خاصة، غير ضروري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *