لم أكن وحيدا، جحافل الشعراء كانت معي

لم أرتب يوما في كون الانتساب العضوي واللامتناهي إلى الشعر ومضامينه في الممارسة والحلم ظل دوما قريبا إلى يسار القلب – وفي مثل هذه النازلة أتحدث عن قلبي – وتشظي الخفقان واندحار منسوب الدم الذي يجري في العروق والشرايين هذا إن كان عاديا ولم يعرف عدوى «التكلل.»
وهو الأمر الذي يجعلني رومانسيا ثوريا وحالما كما أشاء، حتى عندما اعتقدت أن العالم تغير كثيرا وأضحى قرية صغيرة في حجم صفحة يد أو شاشة .أنا لم أصدق هذا المستحدث في ذات الأمر، أو بالأحرى لم يعنني هذا الوضع الجديد للعالم كثيراً وبهذه الصور المتهالكة والمستبدة وربما الجارحة والشرسة وفي عناوينها العريضة آنذاك «عولمة العصر.»
لدرجة أني قفزت على الواقع المادي والموضوعي – كان القفز من فوق إلى تحت هذه المرة – إلى حد السقف ولم أكترث كثيرا للجريمة المقنعة التي حدثت للقارات الخمس، وبعيدا عن أنسة الاستعارات والمتخيل والصور، فالحرب كانت رهيبة ومستمرة بأشكال أخرى –كعادتها- وقريبة جدا وإلى حد التماس المباشر مع الحياة اليومية والاعتيادية للناس والشعراء، والانسان ظل لعقود رهينة ومجردا من حواسه تقريبا حتى لا تكبر فكرته عن هدم عمران القيود، والانتقال بغده نحو التحرر والمجد أو بعبارة أشمل نحو ذاته المستقلة عن شرنقة الآخر الذي يحاكي الجحيم ، يمثله أو يجسده ما الفرق إذن؟..
وبقيت على حافة الشعر – ولم أكن وحيداً، جحافل الشعراء كانت معي متأهبة كالنمل وفي محاذاة جريد الصحراء وموج المحيطات وقمم الجبال – ويسار القلب أكتب الشعر قصيدة تلو الأخرى إلى أن أحسست أني تجاوزت الخمسة والعشرين ديوانا في ربع قرن من الزمن أو أقل بساعتين، وهو ما يعادل مجموعة شعرية في كل حَوْلٍ .
هل كنت أبالغ ساعتها..؟ أم أجازف..؟ وفي كل قصيدة كنت أكتبها كنت أتنفس عبرها الهواء المسيج بمتاريس الرئتين، وشباك الدخان الموغل في شرنقة الهواء المتيم بالحرية ومداها المتوسط والأقصى ،وبشكل آخر كان السؤال: هل كنت أكتب بغريزة دم البقاء أم ببقايا فتات فلسفة حافة الوجود، وبعيدا عن وجودية الآخر الذي ليس هو بالضرورة الجحيم.
الشعر هو «الكائن» الذي حظي بعناق الأبدية ولم تختلف حوله الروايات ولا الرواة إلا في حدود الأزمنة وشكل نقع الغبار، ولو أن الشعراء – القدامى والمحدثين على حد سواء- من فرط تواطئهم مع فخاخ اللغة اعتبروه معجزة ، لكنه دوما كان يحتاج لثورة ليتجدد ومعه تجدد الرؤية والعبارة والمبنى. أما الاستعارات فكانت في العادة تأتي من وسائل النقل و –العقل المجنون – محملة في السفن التي تؤمن بشريعة البحر، ولهذا الاعتبار لم تطل البشرية الاقامة الطويلة في بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي ولم تعد تأبه لحوافر الخيل، وانصرفت إلى شؤون الدنيا بلا مقدمات نظرية تقريبا.
ربما لهذه الاعتبارات السالفة الذكر، كنت متربصا في منعطف ثمانينيات القرن الماضي غير المأسوف عليه أبداً بالتورط في تلابيب القصيدة المغربية الحديثة لأدلي ب «دلوي» في بئر سحيق وبلا ماء أو قرار كي أكتب هذه القصيدة التي انتميت إليها في منتصف الظهيرة ولا أزال.
لكني لم أخف سعادتي الغامرة يوم أصبح للشعر عيد في بلادي ويوم للاحتفاء به يصادف 21 من مارس من كل سنة ضوئية وشمسية في آن، ومبارك من اليونسكو وبمبادرة مغربية مغامرة. ويُحتفى به فعلا في كل أرجاء المعمور في المدن والحواضر والقرى والمداشر لتحيا العبارات والاستعارات والموسيقى في شرايين الحياة والكون.
وكل عام والشعر في بلادي والبلدان البعيدة والمجاورة بخير.


الكاتب : إدريس علوش

  

بتاريخ : 22/03/2019

أخبار مرتبطة

روني شار يقول بأن على الشاعر أن يستيقظ قبل أن يستيقظ العالم لأن الشاعر حافظ وجوه الكائن اللانهائية.شعراء أساسيون مثل

رَفَحْ جرحٌ أخضرُ في مِعْصم غزَّةَ، وَنَصْلٌ في خاصرة الريحِ. ماذا يجري؟ دمُ عُرسٍ يسيلُ أمْ عروسُ نِيلٍ تَمْضي، وكأنَّ

– 1 – هل الرمز الشعري الأسطوري ضروري أو غير ضروري للشعر المغربي؟ إن الرمز الأسطوري، اليوناني، خاصة، غير ضروري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *