مبدعون في حضرة آبائهم -43- عبد الاله الجوهري أبي هو أبي..

في رسالة كافكا إلى أبيه: « أبي الحبيب.. لقد سألتني مؤخراً: لماذا أزعم أنني أخاف منك؟ وكالعادة لم أدر بماذا أجيبك. تارة بسبب الخوف الذي يعتريني أمامك، وتارة لأن الكثير من التفاصيل متعلقة بحيثيات ذلك الخوف، بحيث لا يكون بوسعي لملمة شتاتها في الحديث معك ولو جزئياً. وإنني إذ أحاول هنا أن أجيبك خطياً، فإن كل ما أقوم به لن يكون سوى محاولة مبتورة، وذلك لأن الخوف وتبعاته يصدانني عنك حتى في الكتابة، ولأن جسامة الموضوع تتعدى نطاق ذاكرتي وإدراكي».
أمام اللجوء أو الهروب إلى الأم الحاضنة والحنونة وملاذ «التواطؤات» الجميلة، كيف يستحضر مبدعونا المغاربة صورة الأب، وهل تختلف نظرتهم إلى هذه السلطة الرمزية التي ارتبطت بالصرامة والتحكم؟ كيف دبروا هذه العلاقة التي تلتبس فيها العواطف بين خوف واحترام، بين حب أو كره، بين تقديس وقتل؟

 

منذ أن وعت ذاكرتي الغضة، أنني إبن رجل إسمه «قدور»، لم أكن أحس تجاهه بأدنى حب أو مودة، عكس ما كنت أحمله لأمي «راضية»، الراضية الطيبة الضاحكة المتسهترة بمشاكل الحياة، كانت علاقتي به جد ثانوية، إن لم أقل جد جد محدودة، لم أكن ألجأ لمحادثته أو طلب أي شيء منه إلا عند أقصى الضرورات..
أعترف أنني كنت إبن أمي والشارع والأمكنة الفاسية المتعددة، ومعها «إبن» لآباء عائلات أصدقاء الدراسة، الذين كنت أجد عند الكثيرين منهم الدفئ والحب، الذي لم أكن أحس به في علاقتي بأبي، كان أباء يحبونني ويعاملونني معاملة الإبن، باعتباري صديقا مجدا وذكيا وصالحا لمصادقة أبنائهم، حب لم أجده يوما عند أبي الذي كان دائما مشغولا عني بتجارته وعوالمه الخاصة، وقبل ذلك بحبه الكبير لأخي البكر «سي محمد»، الذي كان يعتبره النموذج الأمثل في كل شيء، نموذج يتأسس أساسا على الطاعة ومجاراة الرغبات والتطلعات، كان إبنا مطيعا له، لا يعاكس رغباته، ولا يجادله في أي طلب من طلباته، ولا يتناقش معه حول توجيهاته ونصائحه المؤسسة على ضرورة الإنصياع، كان بمثابة الشبيه له في كل شيء، أساسا في التفكير والتسيير واتخاذ المواقف والقرارات، ومقاطعة أو مصالحة فرد من الأفراد، داخل العائلة أو خارجها، ممن لا يستسيغه مزاجه وذوقه.
وحتى عندما هاجر «سي محمد» إلى فرنسا ومعه كل إخوتي الذين كانوا ينافسونني على حبه والوالدة، فإن قلبه، عكس الأم، لم يخلو لي يوما ويجعله ينتبه إلى أن إبن من أبنائه بحاجة لعنايته، خاصة وأنه الأصغر ترتيبا في الشجرة الأسرية، كنت بالنسبة له الطفل «العاق» الذي جاء إلى الدنيا عن طريق الخطأ، والدليل الذي كان يستدل به على «صكوعيتي»، أن الخروف الذي اشتراه للاحتفال بعقيقتي انتحر قفزا من السطح نحو فراغ الزنقة المجاورة لبيتنا صباح يوم الاحتفال وليسقط صريعا، فأل سيء دفع بأبي إلى اتخاذ قرار تغيير الإسم الذي كان مقررا أن تمنحني إياه العائلة، فبدل «المحجوب» (لأنني ولدت، كما قيل لي، في صرة محجوبا) منحني اسم عبد الإله، فنشأت «عبدا» متمردا على المواضعات الإجتماعية الفجة القائمة في كثير من الأحيان على النفاق، لم أشبهه أو أشبه أحدا في ضرورة التوحد مع التقاليد واحترام الكبار والإنصات للتعاليم والوفاء لمعاني أن تكون فردا ينضبط بدون مناقشة أو منازعة أو رفع للصوت عند الكلام..
أبي، وبحكم نفوري منه، لم يكن يعر أدنى اهتمام لي أو لمستقبلي، طفلا كنت أنصت لما يدور حولي، وأتسابق لأنافس أقراني من أبناء العائلة والحي، فقررت، بعد بلوغي السنوات الست، أن أسجل نفسي في السجلات المدرسية، بعد تردد لمدة سنة على كتاب الحي الذي سجلني فيه أخي عبدالقادر الذي كان شابا يافعا وقتها، هكذا تسجلت دون أن ينتبه أبي أو أمي لذلك، والسبب أن طفلا من أبناء الجيران أخبرني أن أمه ستسجله في الغد بمدرسة العدوة بحي باب الحمراء، فقررت أن أرافقهما دون أدنى تردد، فكان الذي كان، تسجلت هكذا صدفة بفضل امرأة لم تكن تعرف أن والدي لا علم لهما بذلك، لقد لعبت الجارة دور الأم، أو لنقل جاءت بي وبأبنها وكأنها نائبة عن أولياء أمري دون أن تدري، الغريب في الأمر أن الموظف المسؤول عن التسجيل، عندما سألها عن اسمي ولقبي احتارت في الأمر، قبل أن تطلب مني أن أخبرها بذلك. لم أعد أذكر لماذا راودتني فكرة أن أعطيها لقبا غير لقب العائلة، فبدل الجوهري اخترت لقب بوزيان، ومن يومها وأنا مسجل بالدفاتر الرسمية بهذا اللقب لغاية الوصول لمرحلة اجتياز الشهادة الإبتدائية، حيث طلب مني ضرورة أن أحمل شهادة الميلاد، الوالدة وقتها تحملت عناء استخراج الوثيقة، عندما علمت أنني سأجتاز الإمتحان الإشهادي، ولتكتشف الإدارة المدرسية وزملاء الدراسة، أن لي لقبا غير اللقب الذي كنت معروفا به في الوسط الإداري المدرسي والتلاميذي من قبل، لحسن الحظ لم تكن وقتها تعقيدات إدارية، ففي منتصف سنوات السبعينات كانت الدولة المغربية تحاول جاهدة تقييد الجميع في كنانيش الحالة المدنية وتصحيح الأخطاء والأغلاط ، فتم تصحيح لقبي وانتهى الكلام، لأصبح من يومها أنا الكاتب لهذه السطور أعرف باسم عبد الإله الجوهري.
خلال سنوات الدراسة الطويلة بالإبتدائي والإعدادي والثانوي، لا أذكر أن أبي، أو أي فرد من أفراد العائلة اكترث لمصيري الدراسي، كنت أعتمد على النفس في مجاراة زملائي و أصدقائي من أبناء الحي، وأكتفي في نهاية السنة بإخبار الجميع أنني نجحت، وفي بعض الأحيان، حصلت على مراتب مشرفة.
موازاة مع أجواء الجفاء واللامبالاة، لم يكن أبي يبخل علي، عندما تخبره أمي بضرورة اقتناء لوازم الدراسة بداية كل سنة أو منحي رسوم التسجيل وما شابه ذلك من المصاريف الضرورية، كان كريما إلى حد بعيد في تحمل التبعات المادية، لكن جد بخيل في تصريف عاطفته الأبوية..


الكاتب : إعداد: مصطفى الإدريسي

  

بتاريخ : 22/08/2019