مبدعون في حضرة آبائهم 55 : سعيد الملوكي : الكاتب في غياب الأب

في رسالة كافكا إلى أبيه: « أبي الحبيب.. لقد سألتني مؤخراً: لماذا أزعم أنني أخاف منك؟ وكالعادة لم أدر بماذا أجيبك. تارة بسبب الخوف الذي يعتريني أمامك، وتارة لأن الكثير من التفاصيل متعلقة بحيثيات ذلك الخوف، بحيث لا يكون بوسعي لملمة شتاتها في الحديث معك ولو جزئياً. وإنني إذ أحاول هنا أن أجيبك خطياً، فإن كل ما أقوم به لن يكون سوى محاولة مبتورة، وذلك لأن الخوف وتبعاته يصدانني عنك حتى في الكتابة، ولأن جسامة الموضوع تتعدى نطاق ذاكرتي وإدراكي».
أمام اللجوء أو الهروب إلى الأم الحاضنة والحنونة وملاذ «التواطؤات» الجميلة، كيف يستحضر مبدعونا المغاربة صورة الأب، وهل تختلف نظرتهم إلى هذه السلطة الرمزية التي ارتبطت بالصرامة والتحكم؟ كيف دبروا هذه العلاقة التي تلتبس فيها العواطف بين خوف واحترام، بين حب أو كره، بين تقديس وقتل؟

 

كثيرا ما استوقفني تمرد الكتاب المغاربيين باللغة الفرنسيةعلى آبائهم، وخصوصا إدريس الشرايبي ومحمد خيرالدين. فالأب لدى هؤلاء يجسد سلطة القمع والعنف. وكثيرا ما رجعت بي الذاكرة الى الماضي أسائله عما كان سيكون مصيري لو أخذت حياتي مجرى آخر غير الذي اتخذته . وهل موقفي من الأب سيكون مختلفا؟ إن الحياة لم تترك لي مجالا للتفكير.
فاليتم جرح دائم ووجع غائر. وشم في الذاكرة وفي الأحشاء يذكرك بفقدان أعز ما عندك، وأنت الابن المدلل الذي تربع على عرش قلب أبيه. في ظله كل الأيادي ممدودة إليك، وكل الوجوه مبتسمة لك، والكل معجب بك. في غيابه أنت متروك لوحدك، ليس لك إلا الشفقة والتجاهل والحرمان.
تسلم أمرك للقدر وأنت تردد كلاما لا تفهمه بأن الملائكة قد حامت حول منزلك واختارت أعز ما عندك ليقيم هناك بجوار خالقه، وأنت لم تتجاوز سن التاسعة. فاجعة تركت فراغا مهولا سوف تجعلك تطرح أسئلة وجودية وأنت مازلت لم تفتح عينيك على الدنيا. أين سافر الأب؟ متى سيعود؟ وما مصيرك بعد هذه الفاجعة؟ وأي ذنب ارتكبت؟ وكم من مرة توسل ذلك الطفل الذي كُنتُه الى الملائكة لرؤية فقط ذلك الوجه البشوش الذي غمره بعطفه وحنانه، فقط لمعانقته وتقبيله.
جف ذلك البحر من الحنان الذي كنت أسبح فيه. فلم يسبق لأبي أن عاتبني، أو ضربني، أو غضب مني. ولحد الآن مازلت أبحث عن سر ذلك. هل كان الطفل الذي كنته مهذبا للغاية؟ أم كان الأب لطيفا جدا؟
أميل الى الطرح الأخير وأضيف إليه أنه كان رجلا طيبا. ما زلت أتذكر يوم تركني في دكان صديقه، وفي غفلة منه ومن صاحب الدكان، أخذت علبة «سردين» ووضعتها في جيبي. ولدى رجوعي الى المنزل سلمتها لأمي كي تدسها، ولما تفقدتها في اليوم الموالي أخبرتني أنها أعطتها لأبي الذي أرجعها الى صاحب الدكان بدون أن يكلمني في الموضوع. لقد أدركت أنني ارتكبت خطأ لأنني لم أجادل أمي التي سلمت له العلبة بل شعرت بنوع من الخجل أمام أبي.
وهذه الواقعة التي لاتزال راسخة في الذهن تلخص قيم الرجل.
لقد كنت لصيقا به كثيرا، حيثما حل وارتحل بدراجته النارية إلا وكنت خلفه.ففي تنقله من البادية التي كنا نقطن بها الى المدينة، كان يستعمل الدراجة النارية. وحين مزاولة عمله يستعمل الشاحنة التي هي في ملكه مع شركائه. وكثيرا ما كان أبي يصحبني معه في لقاءاته مع شركائه التجار، حتى أنني أتساءل اليوم وأقول إنه لولا القدر لكنت تاجرا. وهنا يطرح سؤال آخر: ما مدى تأثير المحيط بصفة عامة، والأب بصفة خاصة على حياة أبنائهم؟ خصوصا وأن تأثير الاب في البادية قوي والعلاقة مع أبنائه تتسم بالخضوع، فلا مجال للحوار ولا للأسئلة. فالأب محاط بنوع من التقديس. علاقتي كطفل مع أبي كانت مختلفة ربما، لكن في كبري هل كان بإمكاني أن أطير بجناحي؟ إن القدر لم يترك لي الفرصة للإجابة عن عدة أسئلة.
ويبقى أن بين عشية وضحاها كل شيء تغير بالنسبة لذلك الطفل الذي كُنته.كم هو مؤلم أن ترى أطفال أقاربك وجيرانك محفوفين بالعطف والحنان، وأنت متروك لحالك!وكم من مرة انزوى فيها الطفل الى ركن ليسلم نفسه للبكاء، معتقدا أن الملائكة سوف تراه فتشفق لحاله، فتعيد إليه أباه! كم من مرة شاهد فيها العطف والحنان بأم عينيه، لكنه عند الآخرين! أب رجع من المهجر محملا بالحلوى والألبسة لأولاده ولم يكن له كنصيب إلا الحرقة والحرمان والشعور بمرارة الحياة وقسوتها.
وما الحياة إلا سلسلة من الأحداث الحزينة والسعيدة.


الكاتب : إعداد: مصطفى الإدريسي

  

بتاريخ : 06/09/2019

أخبار مرتبطة

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

لا يمكن إلا أن نلحظ نوعا من بين الذات لدى نبوئيي وادي السيلكون. تابع «بتيرتيال» و»ايلون ماسك» دراستهما، معا، بجامعة

      بعد أن كان حكرا على الدول، بات السباق نحو الفضاء، من الآن وصاعدا، واحدا من انشغالات أصحاب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *