متاهات اللعبِ، مرابعُ الكتابة

لا تُسلم  الحقائق مفاتيحَ أسرارها للفضول المعرفي، إلا من خلال تداخل وتقاطع  أنساقها مع  غيرها من  الأنساق، التي تبدو  لغير المهتم ،مستقلة  بمساراتها  وبمنهاجيات عملها .والحال أن ما من  نسق إلا ويشتغل  ضمن الإيقاعات التفاعلية والمتشابكة ،الصادرة عن  أنساق محايثة، لا تكون بالضرورة  منتمية لنفس حقوله  المرجعية ،بمعنى أن تنوع تماسات النسق ،هو مصدر  قوته التفاعلية ،حيث يمكن قراءة دلالةِ نسقٍ مُسْرفٍ في حده المادي، على ضوء الإشارات المنبعثة  من قوة  أو ضعف تماسَّاتِه المتبادلة مع  نسق موغل في تجريديته

 

لا تُسلم الحقائق مفاتيحَ أسرارها للفضول المعرفي، إلا من خلال تداخل وتقاطع أنساقها مع غيرها من الأنساق، التي تبدو لغير المهتم ،مستقلة بمساراتها وبمنهاجيات عملها .والحال أن ما من نسق إلا ويشتغل ضمن الإيقاعات التفاعلية والمتشابكة ،الصادرة عن أنساق محايثة، لا تكون بالضرورة منتمية لنفس حقوله المرجعية ،بمعنى أن تنوع تماسات النسق ،هو مصدر قوته التفاعلية ،حيث يمكن قراءة دلالةِ نسقٍ مُسْرفٍ في حده المادي، على ضوء الإشارات المنبعثة من قوة أو ضعف تماسَّاتِه المتبادلة مع نسق موغل في تجريديته. و إذا شئنا تقديم نموذج تمثيلي لذلك، فسيكون نسقُ اللعب الأكثرَ قابليةًً لتقريبنا من ظاهرة التفاعل اللغوي والدلالي، القائم بين الأنساق بمختلف مشاربها واختصاصاتها، بالنظر إلى حضوره الوازن، في أهم المجالات المتعلقة بحياة أو موت الأفراد والجماعات، أولا بوصفه لعبا مرحا ،و ثانيا بوصفه تلاعبا فظا بمصائر فضاءاتٍ، و ذوات، أو أفكار.
و ثانيا بالنظر لخاصية تأقلمه مع مختلف الأنساق التي يَرِدُ فيها،بفعل انفتاحه الدلالي، على حقول متعددة من البنيات التعبيرية، و كذلك بفعل اشتغال جوهر حركيته ضمن حركية هذه الحقول، فضلا عن تناغم إيقاعاته السلبية أو الإيجابية مع إيقاعاتها، باعتباره حمَّالَ وجوه، هي خليطُ حماقاتٍ ودعاباتٍ، وإبداعاتٍ ،إلى جانب ما يُشبع نهمَهُ من الأراجيف والمكائد . عموما، نحن لسنا هنا بصدد مسحٍ رمزي لأي حقل من حقول اللعب ،إذْ ما مِن سجل رقمي، ومهما اتسعت طاقته الاستيعابية بمؤهل لتوثيق النزر القليل من ذلك الكم الهائل الذي يشمل أنواعا لا حصر لها من اللعب والألاعيب، المعبرة بجلاء عن حاجة الكائن البشري إلى توظيف إمكانات تعبيرية، تقع خارج دائرة التعاملات، المطبوعة عادة بجِدِّيتها التي يحدث أحيانا أن تتخذ نتيجة المبالغة في صرامتها، طابعا دراميا مغرقا في سوداويته ،و تجهمه. غير أن مايهمنا في هذا السياق، هو التأكيد على حضور اللعب، باعتباره ممارسة إنسانية تجنح إليها ميولات الجسد وهو يجوب حدائقه السرية والمعلنة على حد سواء والمقصود بالميولات هنا مجموع ما يمتلكه الكائن من طاقات حيوية هي في بحث دائب، عن أكثر الوسائل قدرة ،و أنجعها على تصريف ما يصطخب فيها من شحنات، ﻷنها ومن خلال هذا التصريف المتنوع، تحقق متعتها العقلانية، الإبداعية والحسية ، مما يدعو للقول، إن ما من ممارسة فكرية أو سياسية ،أو اجتماعية، ومهما بلغت جديتها و مسؤوليتها من عمق ،إلا و تتضمن في تضاعيفها، فسحة من فرجة، وفسحة من لعب، كما أن ما من محنة، ومهما تضاعفت حِدَّتُها الدرامية ،إلا وتتوفر على قابلية انزياحها إلى نقيضها ،و في أحايين كثيرة تكون نواة اللعب المضمرة بين تفاصيل ممارسة ما ،بمثابة محرك فعلي لها، بفعل اشتغالها في خلفيتها السرية والمحجبة، مع الأخذ بعين الاعتبار، ذلك الفرق الملموس، بين حضور هذه النواة في الحافة القصية لفضاء الممارسات المهنية، الثقافية، و الاجتماعية، أي كحالة مزاجية مؤقتة، من شأنها تلطيف أجواء الممارسة ، وبين انصهارها التام في ديناميتها ،إما بوصفها عاملا تدميريا، أو بوصفها عاملا بنائيا، وهي الوضعية التي تتجدد بها إواليات مختلف الاهتمامات، وتشحنها بمرونة استثنائية، من شأنها الارتقاء بها من حيز الإلزام، إلى أفق المتعة المنفتحة. وهنا تحديدا يتميز القتل الهمجي والبدائي عن مضاعفه الحداثي ،كما تنزاح علاقة الكائن بالصخرة السيزيفية من سياق العبث و الإجهاد ،إلى سياق مراودته لها، وملاعبتها، وقد أمست أخف من زغب اليمام .كما أن تيبُّس، أو طراوة هذه النواة ،يساهمان كلٌّ بطريقته الخاصة، في تأطير جدية الممارسة، وخصوصية مسارها، ضمن صيرورة احتجابها، وتقنُّعِها بسَمْت المسؤولية والواجب، حيث يمكن القول، إن كل ممارسة احترافية، تتضمن في باطنها نواةََ اللعب وجوهرَه، مهما كانت متشددة من حيث عقلانيتها وجديتها، كما هو الشأن بالنسبة للمواقف المصيرية، المتَّخَذََة على المستوى الفردي أو الجماعي، والمصاحَبة عادة بلعبها الخاص بها. و تأكيدنا على هذا المعطى، يساعد على تبديد غير قليل من الهالات المتوِّجة لمواقفَ ورموزٍ، أو خطابات في المشهد الكوني، كما أنه يفسح المجال لتفكك إطارها الرسمي، بكل مرجعياته السياقية، كي يجاهر اللعب المحتجب في خلفيتها بحضوره اللافت، كاشفا عن الهوية الحقيقية لذلك الإطار، ولتلك المرجعيات، مما يجعلنا نجزم أو نكاد، بأنَّ تَقَدُّم الكثير من التجارب الثقافية والسياسية، يعود إلى خاصية استثمارها لمنطق اللعب، ولمنهجيته، ولقوتها الإجرائية، وفي كثير من الأحيان يُعتمَد بوصفه الدعامة المركزية في التخطيط لتموضعٍ ما، داخل المشهد الثقافي والسياسي، ولعل التراجع المفاجئ الذي تُمْنى به هذه التجارب، يعود إلى اكتساح خطة اللعب لأرضية توجهها، التي لا يلبث زلزالها أن يُطيح بكل ما هو ثانوي، بصرف النظر عن مرجعياته.
وبالتالي، إن مصدر اللمسة الجمالية، أو العدوانية المضافة إلى ممارسة ما، يكمن في تضاعيف هذه النواة/الطاقة، التي يحدث أن تستقل تماما بذاتها، في حالة انقلابها على موضوعها المتشكلة من رحمه، والذي استمد هو أيضا حيويته ومنهجيته من روحها، كي تحوله إلى موضوع لعب وتلاعب، كما هو مُعبر عنه في النكت الشعبية، والكتابات أو الفنون الفكاهية، المطبوعة بسخريتها السوداء واللاذعة. وبقدر ما تتعدد الأهواء وتتباين من حيث تساميها و مثاليتها، أو من حيث دونيتها وانحطاطها ،تتعدد أيضا أنماط اللعب المؤثرة في إنتاج الفضاءات، المساهمة في تحرير الكائن من ظلمة الكينونة وبؤسها، إلى جانب الأنماط، المؤثرة في إنتاج الفضاءات الدموية، المهووسة بإغراق الكائن ذاته في غياهب الجحيم.
إن اللعب بهذا المعنى، عبارة عن مناهج، تيارات، قيمٍ، ومسلكيات ،يمتلك كل منها إوالياته الخاصة به. إنه الطيش المقيم في قلب العناصر، مضيئا كان أو حارقا، كأي كائن متألق بحكمته وعقلانيته، أو مطوق بجهالته وعدوانيته.
إن تموضعات الرموز الثقافية والسياسية المتحققة من خلال احترافية إنتاج أصحابها للخطابات ،تشتغل في قلب الدينامية الرمزية للعب، على خلفية درايتها العميقة بالأبعاد العميقة والبعيدة الغور لتقنياته ، حيث يتعلق الأمر بتفاعل بنيتين متضادتين، تفاعلا متكاملا، لا يترك المجال لظهور بنية اللعب وتقنياته، في خلفية حضور بنية الثقافي والسياسي ،اللذين يقتضيان معا، استحضار جرعة كافية، وأحيانا زائدة للعب في دهاليزهِما التحتية، لأن الخطاب/القول، سياسيا، كان أو ثقافيا، إذا ما خلا من استراتيجية اللعب، فسيكون لا محالة، عرضة للإصابة بالحُبسة ،حيث لن ينتبه أحد إلى صداه، بمعنى أن مواقعه و مواقفه ومقصدياته، تظل شئنا أم أبينا، محكومة بسلطة نواة اللعب المزروعة فيه، والتي تستهدفها المعرفة النقدية بالتفكيك، بحثا عن أسرارها الغامضة ،وخاصة منها تلك المتعلقة بالخطابات المتمحورة حول المتعالي والمقدس، الذي يوهم بتموضعه فوق كل شبهة لها علاقة ما ،بلعب أو تلاعب .نفس الرؤية يمكن تعميمها على كل بناء نظري أو عملي باعتباره متضمنا لمنهجية لعب ذي طبيعة مادية أو رمزية ،لأن صيرورته، هي في الأصل صيرورة لعب مقنع بأضداده ،كما أن تمفصلاته ،قابلة لأن تُقرأ على ضوء تمفصلات اللعب. تبعا لذلك، يصبح للواقع معنى آخر، هو الذي تكشف عملية التفكيك عن شحنة اللعب المتحركة فيه. وهنا تحديدا، تكمن خطورة التفكيك المهدد لهيبة السلط السياسية والثقافية، باعتباره أداة للكشف عن الألاعيب/التلاعبات، المستترة في خلفية المشهد ،وكما هو معلوم، فإن الأدوار المركزية التي تضطلع بها السلطة، تتمثل في ضبط آليات إخفاء منهجية اللعب، خلف ما يوحي بأنه منهجيةُ استمراريةِ البناء ،وفي نفس الوقت، التحكم في عملية الكشف عن حضور استراتيجية لعب ما، في بناء قد يتضح لها وضمن شروط سياسية أو اجتماعية طارئة، بأنه معنِيٌّ بالهدم ،بالنظر لعدم صلاحيته، في سياق بحثها ،أو اقتراحها لأفق بناء بديل، لا يمكن تأويله إلا ببحثها عن أفق لعب بديل ، منفتح على احتمالاته . و مع ذلك ،فإن تفاقم الإحساس بضرورة التواجد في عمق المتاهة السياسية أو الحضارية ،هو الذي يؤدي إلى التهجين التام لكل أنماط اللعب ،حيث تتخذ طابعا متسيبا وهمجيا، يتعذر معه الحديث عن أي مشروع بنائي بالمفهوم المجتمعي أو الحضاري للكلمة ، إلا أنه ومع ذلك ، يظل الإطار الأكثر إثارة، بالنسبة للكتابة الإبداعية والفكرية، التي تجد ضالتها الكبرى فيه .


الكاتب : رشيد المومني

  

بتاريخ : 16/02/2018