مجــد الاعتــــــراف

جميل أن تحب، ورائع أن يكون المحبوب متألقا، فواحا بعطر العطاء، غارفا من بحر المعرفة، محبا صادق الوفاء، كما هو ذلك العلم القريب إلى قلوب محبيه، الواسع الاطلاع على ثقافات ومعارف متنوعة، المؤمن بالحوار، المبدع لشعر يميزه التجديد المستمر، الراكب سفن التجريب غايته جعل قارئه متأملا، ذواقة، مبدعا في قراءاته، لا يهمه كم القراء، غايته أن يكون القارئ في مستوى ما يقرأ لترقى الكتابة وبها تقع الطفرة، وتتحقق النهضة، إصراره على تحقيق ذلك كبير رغم الصعاب وغياب تعليم وإعلام يحبب القراءة، ويبتعد عن التسطيح والتشويه والإسفاف…
لن يكون هذا العلم المتميز إلا الدكتور محمد السرغيني البحاثة النحرير، والشاعر المبدع، والإنسان الطيب القلب، الغامر لمن طرق باب علمه بالنصح والتوجيه والعطاء دون منّ ولا أذى، يشهد على ذلك كل من قصده مستشيرا، أو راغبا في زيادة علم، أو في نصح وتوجيه… مترفعا عن كل من أساء إليه وهم قلة قليلة نسيهم الزمان !!
فلا غرابة أن يحظى هذا الرجل بالكثير من الثناء من أصدقائه وطلبته ومحبيه، على اختلاف مشاربهم الثقافية والفكرية والايديولوجية… ومن أبرز هؤلاء مبدعون بصموا بإبداعهم الحركة الأدبية العربية عامة، والمغربية خاصة ومنهم الأستاذ الشاعر رشيد المومني صاحب الدواوين الشعرية المتميزة بتجديد نصوصها، وباجتهاد مبدعها المستمر في إغناء النص الشعري العربي شكلا ومضمونا1 كما في «مهود السلالة»، و «بأنامل الضوء» والمتضمنين نصوصا شعرية تشكيلية فرضت قراءة خاصة وممتعة وجامعة بين قراءتين «لغوية» «وبيكترالية» أي تقنية. حسب رأي الدكتور محمد السرغيني الذي يضيف في مقال بعنوان «جمالية قراءتين»2 «… وصح ذلك فتغلب اللغوي على التقني في القراءة الأولى، وتغلب التقني على اللغوي في القراءة الثانية، يجعل من القراءتين معا قراءة مثالية تحقق الحد الأدنى من التواصل مع منظور اللوحة التشكيلية، مع ما في القراءتين من تحليل جنس بأدوات جنس غيره.»
هذا الشاعر الذي يقول في نص معنون ب «حماقات» «للمقيمين بأقاليم الغواية حماقات رفيعة قد لا يبلغها المتعالون وكم من صنع أنار بحمقه ليل العالم وزين باللذة غربة الكائن البشري3…
… أليس في هذا النص ما يذكر بنص للشاعر محمد السرغيني بعنوان سيدي فرج»
إعــرابا عن ضيق بالغــاسول
ومــوسيقى الآلة
ولقاليق تبني الأعشاش بجـامور
الصومعة المنسية
مر الحمقى من سوق الحناء عرايا
وكما لو كانـوا فخــارا عضويا
أهدوا محصول تجاربهم
للعقل الآتي4
لا مفاجأة إذن أن يهدي شاعر لشاعر نصا عن شاعر آخر ما دام الجامع بينهم التجديد والتجريب والرغبة في إخراج «القصيدة من بيت الطاعة» حيث يحاصرها التقليد والخضوع لصرامة الوزن والقافية ووحدة الروي و … و …!!
في غيابك كنت أراك
وأنت تستفسر الريح
عن معنى القصيدة
إن لم تغادر
بيت طاعتها
إلى رحابة
المجهول5
إن إهداء نص «فلك سان جون بيرس الضيقة» المنشور بالملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي للدكتور محمد السرغيني الشاعر يحمل دلالات عدة منها :
الاعتراف بفضل «الشيخ» واجتهاد المبدع.
التذكير باهتمام الشاعر السرغيني الكبير بالشاعر الفرنسي «سان جون بيرس» قراءة وترجمة ودراسة.
الإعجاب الكبير لشاعرنا السرغيني بهذا الشاعر وترجمته بعض نصوصه إلى العربية مع ما تفرضه الترجمة الجيدة من معاناة في قراءة النص بلغته الأصلية، والاجتهاد في فهمه في واقعه الأصلي، والاجتهاد في اختيار العبارات والجمل الدالة على المعنى القريب – ولا أقول الدقيق- ما دامت ذات المترجم – خصوصا إذا كان شاعرا مبدعا– ستلون الترجمة بألوانها الخاصة دون تشويه طبعا. مما قد يميزها عن الترجمة الحرفية طبعا. «إذ في الترجمة حضور للذكاء الإنساني وملكاته الجمالية والفكرية»6
حقا لقد اجتهد الثلاثة – بيرس والسرغيني والمومني في إخراج «القصيدة» من بيت الطاعة وفق تصور مطبوع بالاجتهاد والتجريب والتجاوز.
عجبا !
كيف أني مرة أخرى سأنسى
أنك حادثتني عن شاعر آخر
يحمل ذات الاسم
يشبه
أو
لا يشبه
سان جون بيرس
كـان قد زارك
في خلوتك القصية عنك
ليلة البارحة

….
وأنت تستفسر مرة أخرى
عن مصير فناجيننا
كما تستفسر ساهيا
عن مصير هذى القصائد
حالما نلقي بها الآن
في رحم الفلك
الذي انتهينا للتو من ترميمه
حيث لا بحر
لا ريــح
ولا شراع
حتى
لا اسم لشاعر
يحمــل اسما
كهذا أو كذاك7
أليس في الجمع بين التشكيل والشعر عند المومني، وفي الدعوة السرغينية إلى تصويف اللغة الشعرية8 بكل ما تحمله كلمة تصويف من إشارات ورموز ومعاناة وعشق… والتأكيد على أن الشعر إبداع، والإبداع تجربة، والتجربة أنا، ما يؤكد ما سبق ذكره.
وتلك أمثلة لا يراد بها الحصر مادام المقام يفرض الاختصار، أما الإحاطة والإفاضة فتحتاج إلى ما هو أعمق وأشمل وأوفى مع ما يتطلب ذلك من استشهاد بالنصوص، والآراء النقدية مما تفرضه القراءة المتأنية داخل إطار أكاديمي علمي رصين.

الهــــوامــش :

صدر له : حينما يورق الجسد 1973
النزيف 1974
مشتعلا أتقدم نحو النهر 1979
2001 Las noches azules del alma
مهود السلالة 2002 .
هكذا سدى 2007 .
ثلج مريب على جبهة الحطاب 2008 .
بأنامل الضوء 2013 .
ضوء الأيقونة ولهيب الحرف – قراءات في التجربة الشعرية التشكيلية للشاعر رشيد المومني ص 4 .
نفسه ص 20 .
من أعلى قمم الاحتيال – فاس. ص 68 .
فلك سان جون بيرس الضيقة – رشيد المومني الملحق الثقافي للاتحاد الاشتراكي – ص 10 – العدد 11977 – الجمعة 06 يوليوز 2018
مقال للدكتور محمد الولي بعنوان «حول الترجمة» منشور بمجلة دفاتر ثقافية» التي يصدرها مختبر التواصل الثقافي وجمالية النص – كلية الآداب ظهر المهراز – فاس. ص 153 .
الملحق الثقافي للاتحاد الاشتراكي العدد 11977 ص 10 .
وردت هذه الدعوة في استجواب نشر بمجلة نزوى أجراه مع شاعرنا السرغيني الدكتور حسن الغرفي العدد 36.


الكاتب : د.أحمد زكي كنون

  

بتاريخ : 19/07/2018

أخبار مرتبطة

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا

«هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟» مجموعة قصصية جديدة   «هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟»هي المجموعة القصصية الثالثة لمحمد برادة، بعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *