محمد الجرطي: هكذا قرأ الفرنسيون إدوارد سعيد

«إدوارد سعيد. الانتفاضة الثقافية» هو عنوان كتاب للباحث الفرنسي إيف كلفارون، سيصدر قريبًا عن «دار صفحات للنشر والدراسات» في سوريا، بترجمة للباحث والمترجم المغربي الدكتور محمد الجرطي، وهو أول دراسة كُرست للمفكر الكوني الأمريكي الجنسية الفلسطيني الأصل إدوارد سعيد باللغة الفرنسية بعد مرور عشر سنوات على وفاته، وقد صدرت عن «دار كيمي» الباريسية في العام 2013، كما صدرت آواخر العام الفائت في طبعة مغربية. وكان قد صدر للجرطي قبل عامين كتاب بعنوان: «إدوارد سعيد. من تفكيك المركزية الغربية إلى فضاء الهجنة والاختلاف»، وهو يعمل حاليًا على وضع اللمسات الأخيرة على ترجمته لكتاب ثالث حول أعمال سعيد، بعنوان «إدوارد سعيد الأنسني الراديكالي. في أصول الفكر ما بعد الكولونيالي» للناقد الفرنسي فريد بوشي.
حول ترجمته لكتاب «إدوارد سعيد. الانتفاضة الثقافية»، وتتبعه للدراسات الفرنسية والغربية المهتمة بإرث إدوارد سعيد الثقافي،
كان هذا الحوار مع د. محمد الجرطي.

 

كيف تقدم لنا كتابك «إدوار سعيد الانتفاضة الثقافية» لمؤلفه الفرنسي إيف كلفارون، والذي سيصدر في الأيام المُقبلة عن «دار صفحات» في سوريا؟

أود في البداية ان أتوجه بالشكر الجزيل لمجلة «رمان» الثقافية التي أتاحت لي من خلال هذا الحوار الحديث عن المفكر الكوني إدوارد سعيد.
يُعدّ الكتاب الذي سيصدر نهاية هذا الشهر (آذار / مارس) عن دار نشر سورية مرموقة هي «دار صفحات»، بعد نشره في طبعة مغربية محدودة، يُعدّ أول كتاب كُرس لإدوارد سعيد باللغة الفرنسية بعد مرور عشر سنوات على وفاته حيث صدر الكتاب سنة 2013، وبالتالي هو علامة فارقة في التلقي الفرانكوفوني لأعمال إدوارد سعيد الذي يُعتبر المؤسس الحقيقي للدراسات ما بعد الكولونيالية، حيث استطاع سعيد من خلال كتابه الأشهر «الاستشراق» أن يكشف عن تورط الثقافة الغربية في خدمة المشاريع الكولونيالية وتبرير تدخلها الاستعماري في أرجاء العالم، وذلك نتيجة للصبغة الزائفة التى تدثر بها خطاب الاستشراق وما رسمه من صور نمطية عن الشرق تتوخى تسويره في خانة المتخلف لتكريس المركزية الغربية. بدأ الناقد الفرنسي كتابه هذا بمقدمة شاملة عن نشأة الراحل إدوارد سعيد في الشرق الأوسط بين فلسطين ومصر ثم رحيله إلى الولايات المتحدة الأمريكية لإتمام دراسته. بعد ذلك جاء الفصل الأول من الكتاب بعنوان «سعيد، مفكر في العالم» تطرق إلى البدايات في حياته الأكاديمية التي تمثلت في أطروحة الدكتوراه عن الكاتب جوزيف كونراد أتاحت لإدوارد سعيد تبوؤ منصب أستاذ الأدب الانجليزي والمقارن في جامعة كولومبيا بنيويورك.
والبدايات أيضًا هي عنوان لكتاب سعيد صدر العام 1975 بعنوان «البدايات: القصد والمنهج»، وهو كتاب تطرق فيه إلى النظريات الأدبية وتأويل تاريخ الأدب معارضًا تصور البنيوية وتيار ما بعد البنيوية.
أما الفصل الثاني فجاء بعنوان «إدوارد سعيد الناقد المقارناتي» تطرق من خلاله إيف كلفارون إلى النظرية الأدبية وفقه اللغة (الفيلولوجيا)، وكذلك إلى الموسيقى في حياة إدوارد سعيد وتصوره للآداب القومية والأدب العالمي واجتراحه لمفهوم «القراءة الطباقية» في آداب ما بعد الكولونيالية التي أعادت الاعتبار للشرق المزدرى في كتابات إيمي سيزار وفرانز فانون.
أما الفصل الثالث الموسوم بـ»إدوارد سعيد والعالم الكولونيالي» فأشار من خلاله إيف كلفارون إلى قضية الاستشراق في منظور إدوارد سعيد الذي ركز على مفهوم «التمثيل»، الذي يعد من المفاهيم الرئيسية في التيار النقدي لخطاب ما بعد الكولونيالية عند إدوارد سعيد، الذي أعاد فحص الصور النمطية والأنساق الثقافية المغرقة في التصورات الجوهرانية للشرق والغرب بغية تكريس دونية الأول وتفوق الثاني. ومن هذا المنظور، أكد إدوارد سعيد أن الشرق لا يتمتع بحضور حقيقي في الخطاب الاستشراقي بل هو مجرد اختلاق واختراع غربي متدثر بغايات استعمارية.
أما الفصل الأخير «تلقي أعمال إدوارد سعيد» فناقش إشكالية تلقي إدوارد سعيد في فرنسا حيث كان محط ارتياب بسبب انغلاق الفرنسيين في الدراسات الأكاديمية التي تفصل بين التخصصات وتفضل الأعمال الكلاسيكية والقراءات العاشقة للنصوص. أما تلقي الأنجلوساكسوني فكان كعادته حافلًا بالهجوم العنيف ضد (سعيد) من قبل المستشرقين على اعتبار أنه كان الصوت المنافح بقوة عن القضية الفلسطينية. لهذه الأسباب كان حافزي أقوى لترجمة هذا الكتاب إلى اللغة العربية لتسليط الضوء على مسار إدوارد سعيد، هذا المفكر المرتحل بين عوالم المعرفة.
ولقد سعيت بعد صدور طبعة محلية محدودة العدد في بلدي أن تكون هناك طبعة مشرقية، حتى يتسنى لكل القراء في العالم العربي الاطلاع على هذا الكتاب الذي يقتفي مسار سعيد من الولادة إلى أعماله الأخيرة مثل «عن الأسلوب المتأخر. موسيقى وأدب عكس التيار» وما خلفته أعماله من ردود فعل في المحافل الاكاديمية.

حدثنّا عن أهم ما وقفت عليه من خلال اشتغالك على منجز إدوارد سعيد الفكري والثقافي، عن أهم روافده الثقافية.

ثمَّة العديد من الروافد الفكرية الثقافية التي استلهمها إدوارد سعيد والتي أشار إليها إيف كلفارون في هذا الكتاب، وهي روافد تنهل من حقول معرفية مختلفة استعان بها سعيد للكشف عن نسق الخطاب الاستعماري الغربي وتشريح آليات اشتغاله، ولعل أبرز مفهوم ارتكز عليه سعيد في تحليل كتابات المستشرقين يتجلى في مفهوم «الخطاب» عند الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو، الذي أبرز كيفية تحول الخطاب إلى سلطة مادية من خلال تحليله الثاقب لثنائية: المعرفة – السلطة.
لكن ورغم تأثر سعيد بمفاهيم ميشيل فوكو إلا أنه تجاوز هذا الأخير الذي لا يعير أهمية للمقاومة والخطاب المضاد أو السرد البديل لتفكيك الهيمنة الغربية لأن مفهوم فوكو للسلطة لا يتيح مجالًا للمقاومة والكفاح من أجل تغيير علاقات السلطة في المجتمع. ومن هذا المنطلق، انفتح سعيد على التصور الماركسي وتحديدًا تصور المفكر الايطالي أنطونيو غرامشي لمفهوم «الهيمنة» وكيف تبني المؤسسات أنساق معرفية للسيطرة واخضاع الآخر. ومن هنا انتقد «المهمة التحضيرية» التي انيطت بأروبا لتمدين الشعوب الأخرى. في حين أن الهدف كان هو استغلال ثروات الشعوب والعمل على طمس حضارتها.
رافد آخر انجدل داخل تيار ما بعد الكولونيالية تمثل في «مفاهيم التفكيكية: الحضور – الغياب والمركز – الهامش»، التي أتاحت لإدوارد سعيد دراسة علاقة الثقافة بالإمبريالية والتنديد بكتابات ألبير كامو، هذا الكاتب الذي حمل على نطاق واسع مشروع الجزائر الفرنسية ورفض استقلال هذا البلد معبرًا عن حساسية كولونيالية متأخرة. ولتفكيك خطاب الاستشراق شدد سعيد على مفهوم «الدنيوية والمثقف العضوي»، المرتبط بهموم المستضعفين لمناهضة الفكر الكولونيالي وفضح سردياته الموغلة في تبخيس الشرق.

ما هي رؤية إيف كلفارون لأعمال إدوارد سعيد في السياق الثقافي الفرنسي؟

يرى كلفارون أن تلقي أعمال إدوارد سعيد في فرنسا كان على شاكلة التفاعل مع الدراسات ما بعد الكولونيالية التي استقبلها الفرنسيون بارتياب كبير. وبغض النظر عن بعض الندوات المكرسة لإدوارد سعيد بشكل محدود فإن هذا الأخير يبقى شبه مجهول لدى شريحة كبيرة من الفرنسيين بسبب انغلاقهم الأكاديمي وميله إلى الفصل بين الحقول المعرفية وهو الأمر الذي يتعارض مع موقف إدوارد سعيد المثقف الهاوي المناهض للتقوقع المعرفي. غير أن الناقد الفرنسي إيف كلفارون تجاهل كلياً أثر سعيد في فكر المفكر والكاتب الفرنسي تزفيتان تودوروف الذي كانت له علاقة قوية مع إدوارد سعيد الذي مارس تأثيرًا واضحًا على تودوروف الذي كتب عن «فتح أمريكا» و»نحن والآخرون» و»الخوف من البرابرة « و»الأدب في خطر» من منظور الدراسات الثقافية حيث كان أثر سعيد الفكري واضحًا في كتابات تزفيتان تودوروف.

ما هي المداخل الأساسية التي حاول من خلالها كلفارون النفاد إلى المنظور الإدواردي، وكذلك مفاهيمه الأساسية كـ»الدنيوية و»القراءة الطباقية» و»المثقف والعالم» وغيرها من الكلمات/ المفاتيح التي ينهض عليها تصور سعيد للأدب والنقد؟

إن المداخل الأساسية التي حاول من خلالها إيف كلفارون النفاد إلى منظور إدوارد سعيد عديدة في هذا الكتاب تتمثل أساسًا في مفهوم «التأويلية الدنيوية» حيث يشدد سعيد على أن النصوص هي بمثابة كيانات منغرسة في العالم، في سياق سوسيو- تاريخي وحاملة لمرجعيات ودلالات اجتماعية ومتشابكة مع صراعات وتطلعات اجتماعية وأيديولوجية. «فموقفي، يقول سعيد، هو أن النصوص دنيوية وتنتمي إلى العالم، وهي إلى حد ما أحداث، وهي فوق كل هذا وذاك جزء من العالم الاجتماعي والحياة البشرية…». فمن خلال مفهوم الدنيوية يهاجم سعيد البنيوية القائمة على مقاربة تقنية للنصوص الأدبية.
مفهوم آخر استند إليه سعيد لإيمانه الشديد بجدوى السرد البديل تجلى في مفهوم «القراءة الطباقية» لتطوير معرفة عن الشرق بمنأى عن خطاب الاستشراق لمجابهة المستشرقين من خلال الرد بالكتابة. لهذا تسلح سعيد بقراءة طباقية لإرساء مفهوم بديل ومقاوم يكشف عن تورط الآداب الغربية في مشاريع جائرة حيث كانت «القراءة الطباقية» وسيلة مجدية لإبراز القيمة الحضارية للشرق ودحض مزاعم الأوربيين، يقول سعيد في هذا الصدد: «القراءة الطباقية ينبغي أن تدخل في حسابها كلتا العمليتين، العملية الإمبريالية وعملية المقاومة لها، ويمكن أن يتم ذلك بتوسيع قراءتنا للنصوص، لتشمل ما تمّ ذات يوم إقصاؤه بالقوة».
وتناول إيف كلفارون تطبيق مفهوم «القراءة الطباقية» التي قام بها سعيد لرواية «قلب الظلام» لجوزيف كونراد والعديد من الروائيين الآخرين في أعمال سعيد. أما مفهوم «المثقف»، فقد ميز سعيد بين المثقف التقليدي المنافح عن السلطة والمثقف العضوي ضمير الإنسانية النقدي وصاحب لغة ينزع من خلالها إلى قول الحقيقة لأرباب السلطة مجاهرًا بآرائه ومتطلعًا إلى الحقيقة والعدالة الاجتماعية وملتزمًا على الدوام بحس نقدي رافضًا مجاملة السلطة أو الانزواء بعيدًا عن هموم المجتمع.
ترجمت في 2015 كتاب آخر عن إدوارد سعيد، جاء بعنوان «إدوارد سعيد من تفكيك المركزية الغربية إلى فضاء الهجنة والاختلاف»، والذي صدر عن «منشورات المتوسط» في إيطاليا، لو تقدمه للقراء؟ وما الجديد الذي احتواه عما سبقه من كتابات صدرت بعد رحيل إدوارد سعيد؟

هذا الكتاب هو مجموعة من الدارسات النقدية لباحثين في حقل الدراسات الثقافية وتيار ما بعد الكولونيالية قارب البعض منها المسار النقدي في كتابات سعيد خصوصًا «الاستشراق» و«الثقافة والإمبريالية» في حين سلط البعض الآخر من هذه الدراسات الضوء على مؤلفاته الفكرية مثل «المثقف والسلطة» و«تأملات حول المنفى» حاور من خلالهما سعيد تنظيرات غرامشي لماهيّة المثقف ورسالته الفكرية. والكتاب عمومًا يبرز أطروحة سعيد التي شددت على مساندة السرديات الغربية للمد الإمبريالي ليدين الاستشراق كمؤسسة في خدمت التوسع الاستعماري. لهذا اعتبر العديد من الباحثين في هذا الكتاب أن عمل سعيد الموسوم بـ «الاستشراق» يشكل مراجعة حاسمة من قبل مثقف عربي للمعارف التي أنتجتها أوروبا عن الشرق، لهذا يعتبر العالم بعد صدور كتاب «الاستشراق» مختلفًا عن العالم قبل صدور هذا العمل الذي خلخل المركزية الغربية وأعاد النظر في رؤى وتصورات المستشرقين الذي رسموا كليشيهات جوهرانية عن الإنسان الشرقي.

أخيرًا، ما الذي يحفزك على ترجمة أعمال إدوارد وتلك التي تهتم بإرثه الثقافي؟

ثمَّة العديد من الدوافع التي تحفزني على ترجمة أعمال لإدوارد سعيد أو عنه، تتمثل في تفكيك سعيد للمركزية الغربية والكشف عن زيف التفوق الغربي الذي ارتبط بكتابات المستشرقين والذي تحول إلى تقاليد نصية ومعرفية جاهزة يلوح بها الغرب دون مراجعة نقدية.
حافز آخر يتجلى في الإبدال الذي حاول من خلاله إدوارد سعيد تجاوز النزعة النصية لتيار البنيوية الذي كان له تأثير سيء في حقل الدراسات النقدية العربية والذي عمل على بتر النصوص من محاضنها الاجتماعية والتاريخية مفرغًا إياها من أبعادها الإنسانية والفكرية جراء إفراطها في الولع بدارسة الشكل الأدبي وتقنيات السرد، هذا بالإضافة إلى تيار ما بعد البنيوية الذي عمل على تعتيم الدلالة الاجتماعية وتغييب المرجعي من خلال الثناء على افساح المجال أمام الدلالة في تيار التفكيك للانفلات والمراوغة. وكعربي يبحث عن المعنى يهمني ترجمة أعمال عن إدوارد سعيد الذي يشدد على الدنيوية لربط النصوص بسياقاتها الاجتماعية لإبراز مرجعياتها لإنتاج وعي عميق بأسئلة الوجود والمجتمع والهوية والغيرية خصوصًا في سياق التوتر الحاصل حاليًا بين الغرب والشرق وما تتميز به العلاقة بينهما من تحفظ وارتياب وسوء فهم.
وأود بالمناسبة الإشارة إلى أني على وشك الانتهاء من ترجمة كتاب آخر، حول أعمال إدوارد سعيد بعنوان «إدوارد سعيد الأنسني الراديكالي. في أصول الفكر ما بعد الكولونيالي» للناقد الفرنسي فريد بوشي والذي سيرى النور قريبًا إن شاء الله فمن خلال «دار صفحات» بدمشق.
خلاصة القول، إنَّ أعمال هذا المفكر الكوني وما أثاره من ردود فعل عالمية تحفزني بقوة لترجمة ما يُكتب عن أعماله التي تدفعنا إلى التفكير في قضايا العالم بروح نقدية، قضايا تمثيل الثقافات الأخرى، والعلاقة بين المعرفة والسلطة ودور المثقفين في المجتمع والعلاقة بين النصوص والتاريخ ودور الأدب في حياة الشعوب.


بتاريخ : 11/07/2019