محمد بنسعيد: قصته مع الصحافة وقصة الصحافة معه

تاريخ متفرد!

 

اعترف بداية، أنني احترت في اختيار زاوية المقاربة:
قلت أولا، لماذا لا أختار أحداثا بعينها، عالجها كبار الوطنيين، والقادة التقدميون والمؤسسون أصحاب المذكرات من الديموقراطيين وأنصاع لما في المقارنة من اختبار ومن شاعرية…
خاصة وأني عشت في ملتقى الكثير من المذكرات، هنا والآن
وهناك ودوما ..مع ترجمة عبد الرحيم بوعبيد ومذكرات محمد الرايس ومذكرات مانديلا وغيرهم من صناع الذاكرة..
بدا التمرين مكلفا، من حيث الديمومة ومن حيث الوقت… فأجلته.
واعترف بداية ثانية، أنني كنت قد قلت لاثنين من رفاق القائد سي محمد أيت ايدر، أنني كنت أفضل الغلاف، بصورة المقاوم برشاش أو ببذلة عسكرية، ولم لا بدبابة صغيرة، تعيد المجد برمته إلى حاضرنا، لكن مصاحبة الكتاب، والقراءة المتكررة فرضت اعترافي بأن في هذا رسالة بليغة مفادها أننا كجيل حديث في مغرب الاستقلال والجيل الأكثر حداثة منا، نعود في الواقع إلى أسلافنا الطاهرين لنتعلم الغضب نفسه، والحلم نفسه، ونحتكم إلى مخزونهم الأخلاقي لمحاكمة قيم الحاضر، وننتصر لما فيهم من نزاهة وكرامة، وتمجيد للحرية، واقترحتُ عليَّ أن أتناول زاوية تلخص ما قلته: قيم التحرير في بناء التغيير…… ولأن الشاعر يحدس ما ينتاب الشاعر، اقترح علي ياسين عدنان، بدون قصد ولا شك، أن أدخل إلى حضرة السيد محمد بنسعيد ايت يدر من زاوية مهنية.. أي إعلامية. لماذا؟ هكذا قلت وأنا أعرف أنني سأقلِّم فضولي الكثير، وسأهذب بإرادة قوية رغبتي في أن أتحدث في كل شيء لأن في الكتاب متسع واسع لحرية الحديث، وقراءة المغرب السياسي.
وانزحت في النهاية إلى محمد بنسعيد الإعلامي، لكي أثبت نرجسيتنا بأن نجعله أحد مراجعنا وأسلافنا:
قلت يجب ألا نتركه، نحن الإعلاميين لرجال السياسة وحدهم
ولرجال المقاومة وحدهم وقادة اليسار وحدهم..
وانزحت في النهاية إلى محمد بنسعيد الاعلامي
هو أيضا أبونا الذي بصم الصحافة بنبله..
إلى محمد بنسعيد و الإعلام كعلاقة هوية.
إلى محمد بنسعيد والإعلام كعلاقة بناء.
إلى محمد بنسعيد والإعلام كعلاقة فرز سياسي.

في البداية.. علاقة هوية

ينتمي محمد بن سعيد أيت يدر، إلى ثلة من كبار العمل الوطني، السياسي، النضالي المغربي، الذين شكلوا استثناء كبيرا في القرن الذي عبروه بمجد، حيث كانت الصحافة مختبر هويتهم النضالية، وأيضا إقامتهم الدائمة لمحاربة السياسة، أذكر محمد بن عبد الكريم الخطابي، مراسلا وصحفيا في يومية »»تلغراف الريف»«.
أذكر المهدي بن بركة، وجريدة العلم، أذكر لفقيه البصري، بوعبيد، اليوسفي، علي يعتة. وكلهم قادوا حركات سياسية تقدمية كانت الصحافة في صلب تكوينهم ورسالتهم….
من حسن حظنا كإعلاميين اليوم أن شهادة محمد بنسعيد ايت يدر، تكشف ترابط العلم والمعرفة والعمل الوطني، بميلاد صحافتنا، ثم بانشغاله به، ومن حسن حظنا أنه أحد آبائنا في الإعلام والسياسة الذين يكشفون الماضي الذهبي الذي ننتمي إليه في الهنا والآن.
من الوهلة الأولى كانت الصحافة طريق الوعي، ومن الصفحة «49» نلتقي بأثر الإعلام في سيرة المناضل والوطني الشاب، إذ يقول «على يد المختار السوسي حفظت قصائد الشعر الجاهلي… وإلى جانب التكوين الدراسي، أتاحت لي الإقامة في مراكش فرص التعرف على مظاهر الحياة الحديثة، إذ صرت أرتاد دور السينما وأشاهد أفلام ذلك الوقت… وأقتني المجلات والجرائد وفي طليعتها «العلم»، التي فتحت وعيي على النكبة الفلسطينية إبان وقوعها، وكانت سببا في دخولي معترك السياسة وانضمامي لحزب الاستقلال…».
فنحن مدينون لمهنتنا أنها أغرت القائد بنسعيد بدخول المعترك كدليل ميلاد الوعي الوطني والقومي من الصحافة، من صلب المدرسة الجليلة أمنا «»العلم».
ونحن ولا شك في حاجة إلى هذه الشهادة ليزداد اعتزازنا بمهنة دخلت دائرة الشبهة.
لم يكن الإعلام شيئا طارئا من البداية، كان قبلة مختارة بعناية ووعي ولعله المجرى الطبيعي للمناضل الطالب الذي صارع الكلاوي وقوات الاستعمار، لهذا سعى في بداية الخمسينيات إلى «مأسسة» علاقاته كما نقول اليوم، وكتابة ذلك باللفظ البسيط والتداولي والصحفي للتعبير عن ذلك، «ارتأيت في دجنبر 1952 السفر إلى الرباط لبحث سبل الاتصال بجريدة العلم وتأمين وصول مراسلاتي التي تغطي ما يقع بالجنوب من أحداث، وفعلا سافرت إلى العاصمة للقاء أحمد زياد، وصلت يوم خامس دجنبر، ولم يكن يوما عاديا، فقد تصادف مع حدث كبير هو اغتيال النقابي فرحات حشاد». يد الصدفة ترتب الحكي جيدا وترتب عناوين سيرته.
ومرة أخرى يلتقي الالتزام الوطني والالتزام القومي، في شقه المغاربي، لتصقل علاقة بنسعيد بهويته الإعلامية كمكون حقيقي. وعندما يتحول الطالب المراسل والمناضل السياسي إلى العمل المسلح سيختفي الإعلامي ليحل محله المقاوم ويتحول، كما هو حال «أحمد زياد» إلى فاعل في جيش التحرير.

علاقة بناء

هذه العلاقة التأسيسية ستتحول في فترة السبعينيات إلى علاقة بناء وستكون الصحافة، مرة أخرى، حاضنة التحول الثاني في مسيرة المغربي محمد بنسعيد أيت يدر، إلى اليسار الجذري، بتعبيره.
كانت مجلة «أنفاس» مجرى آمال الثورة الثقافية في مغرب منتصف الستينيات إلى بداية السبعينيات، محمد بنسعيد يؤرخ لبداية الانتماء إلى اليسار الجذري من عتبه «أنفاس»، يقول في الصفحة 229: «ومادامت العلاقة قد انفرطت مع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية إثر اللقاء الساخن مع قيادته والفقيه البصري، فقد كان صف اليسار الجذري هو الموقع الذي يناسبنا أكثر««.
ومباشرة يقول،»كانت البداية من مجلة «أنفاس» التي وقف وراءها عبد اللطيف اللعبي، أصدرنا (لاحظوا نون الجماعة تدل على تملك البناء) العدد الأول باللغتين الفرنسية والعربية» في أنفاس التي عرفت نفسها »كوسيلة عمل، وتواصل وكفاح«، هنا يكون السي محمد بنسعيد بنون الجماعة من الشاهدين على ميلاد العدد الأول، وأيضا من الشاهدين على اختلاف الرواية حول الخط التحريري: وكلها مقومات مهنية اليوم (الإصدار، الخط التحريري، التوجه… إلخ). …
وفي الفترة إياها، سيكون بنسعيد على علاقة وطيدة بالإعلام من خلال التفكير من داخل تجربة «23 مارس» التي نخلد اليوم ذكراها، وهو المنبر/ الحركة، الذي استمر كوسيلة تواصل وعمل وكفاح.
في الصفحة 230 يقول بنسعيد «كان علينا إيجاد لسان حال ناطق بأفكار تنظيمنا السياسي، لذلك لجأنا إلى كاتب صحفي فرنسي هو البيرو بول لونتان، لأن القانون في فرنسا كان يشترط الجنسية الفرنسية لإصدار أي منشور..
وسيرة ألبير لونتان لوحدها تستحق إشارة هنا، باعتباره من مواليد قسنطينة، في عشرينيات القرن الماضي، اشتغل في الصحافة ابتداء من سنة 1948 وعمل في يومية »»ليبراسيون«« الفرنسية، وكان أحد المقربين من المهدي بنبركة، دافع عن قوى التحرير المغاربية في مجلات وجرائد action modernes – frobser – esprit – temport حتى لقب في nobs بأنه «الفلسطيني بسكاكين بين الأسنان».
والواضح من كلام السي بنسعيد أيت يدر، أن المورد البشري والمحيط الإنساني الذي انطلق وقتها معه هو نفسه ظل يحمل خطا تحريريا يساريا طوال سنوات وعقود من بعد.
غير أن قمة الانخراط، والالتزام، والإيمان الذي يخجلنا اليوم، صحافيين ومسؤولين وطلبة، هو لما يقول بنسعيد،» »كنت أنا من يرقن مواد الجريدة على الآلة الكاتبة.
كما كنت المكلف بتوزيعها بنفسي على أكثرمن ثلاثين فرعا للطلبة.
وبعث نسخا منها إلى الأحزاب السياسية المغربية وأيضا إلى الأحزاب التي لنا معها علاقات سياسية وإيديولوجية……»
فيا زملائي في مهنة نسميها مهمة المتاعب: ذهبت المتاعب مع بنسعيد وبقيت لنا المهنة… ملساء!

علاقة الفرز السياسي

التحول الثالث، في العلاقة مع الإعلام كهوية وبناء، سيكون مصاحبا للتحول إلى النضال الديموقراطي… مع أنوال،
يقول بنسعيد:»ما إن أوقفنا صدور جريدة «23 مارس» في الخارج حتى طرحنا البديل ولم يكن سوى جريدة »أنوال»«، وبطبيعة الحال، هنا، يمكننا أن نخمن كمهنيين لم يعيشوا لحظة ميلادها أن محمد بنسعيد، الحامل لتراث نضالي ورمزي واسع، هو الذي اقترح الاسم «الذي سرعان ما لقي تجاوبا من طرف الرفاق». صدر العدد الأول في نونبر 1979 ونذكر أن خطها غير المهادن، كان وقتها ملاذا للجميع، وزادت الحاجة إليها، وبقوة، كمنبر وطني يساري جامع، مع ما تلاها من أحداث 1987 وإغلاق «المحرر» واعتقال بوعبيد رحمه الله.
تجربة، لا يمكن أن يكون للصحافة تاريخا بدونها وأكثر من ذلك، سارعت إلى مهنية ملفتة بالنسبة لخطها الانتقادي، من خلال التمييز بين الخبر والتحقيق والاستطلاع والرأي، غير أن هذه التجربة التي ضمت أحسن أطر المهنة والكتابة والمعرفة، وأحد أكثر التجارب نضجا، لم تسلم من استعصاءات الفترة التي رافقت تحولات التسعينيات والثمانينيات حتى، فقد عانت من متلازمتين، صارتا اليوم مفهومتين، الأولى متلازمة الجرائد المنتمية للصف التقدمي الديمقراطي باعتبارها (سلطة مؤسساتية) يعني امتلاكها امتلال المؤسسة، في منظومة الصراع الذي عصف بكل التنظيمات التقدمية (كل في وقته).
والثانية اعتبار أن الإعلام المكتوب، كان في تاريخه حكرا على القوى المعارضة، والقوى الوطنية عموما، والإعلام السمعي البصري حكرا على الدولة، لهذا كان الإعلام المكتوب هدفا، للإضعاف والانهاك حتى لا يبقى صوتا للمعارضة. وسيزيد من صعوبة وجوده دخول الرأسمال الخاص إلى حقل الصحافة المكتوبة المنذورة لإضعاف الصوت الوطني…
في هذه الفترة، يصعب القفز على حقائق أكثر إيلاما، لابد من التسليم بها لأن قائلها رجل صادق ونزيه وهي تكشف أيضا الوضع العام للعلاقات بين مكونات الحقل الوطني.
أخيرا، لم يكن بنسعيد بنَّاء فقط للإعلام، فهو موضوع إعلامي بامتياز يصنع الحدث الإعلامي… ويكون موضوعه ومحركه، وكثيرا ما أنقذ الإعلام الوطني، لاسيما المكتوب والإلكتروني، من رتابته وانعدام الحدث فيه، كما أنقذ الذاكرة الإعلامية بتسجيل محطاته ومساهماته فيه..
وقد جمعتني به محطتان فارقتان، واحدة مباشرة والثانية غير مباشرة:
عندما كنت أترجم مذكرات الفقيد محمد الرايس عن تازمامارت واطلع مع كل جملة وكل عبارة،على الجحيم الذي عاشه سكان تازمامارت المفقودون، كنت أقدر شجاعة الرجل الذي وقف في البرلمان، يقول ويسأل مثلنا: لماذا تملك بلادي كل هذه القدرة على… الشر؟
و الحادثة المباشرة حدثت عندما كنت أهيئ سلسلة عن الفقيد عمر دهكون وعن شهداء 1973 والثورة الواقفة بمولاي بوعزة ، اتصلت به ليفيدنا في الموضوع… وكان مصدر الخبر هنا كما يحب الإعلامي وقد أفادني بما أفادني به وقتها!
ولعل الإفادة كانت في الصمت الذي رافق حديثه عن ما جرى..
شكرا لأنك كنت أحد آبائنا الأجلاء في المهنة
وحاضن حقيقتها الوطنية.
شكرا أنك أسعفتنا بعمرك المديد حتى ننحني بكل حب وتقدير لك… …


الكاتب : عبد الحميد جماهري

  

بتاريخ : 30/03/2019