محمد عريوس أو الوعي الشقي …

في بداية الألفين،تتصل بي الجهة المنظمة لمهرجان السينما الإفريقية بخريبكة، للمساهمة في ندوة «صورة المهاجر في السينما الفرنسية»، ثم لبيت الدعوة بكل اعتزاز . وبقي السؤال الذي ظل يحرق شفتي: من ياترى إقترح إسمي لهكذا موضوع؟
قيل لي وانا بمدينة الفوسفاط، انه محمد عريوس، يا إلاه! كيف يقترحني إنسان ولا تجمعني به اية علاقة من القريب أو البعيد… انسان خرج عن العادة والمألوف.. اخبرني بعد الندوة بأنه كان يقرأ مقالاتي بالجريدة، وبأنه قرأ كتابي: «صورة العربي في الفكاهة الفرنسية» السمو… النبل يا ناس!
منذ ذلك الحين، توطدت العلاقة بيننا، وعرفت الرجل عن قرب، تعرفت عن جنون الرجل، وحماقات الرجل، بل بوهيميات الرجل النبيلة.
رجل تقدمي.. حداثي… عقلاني.. يؤثر على نفسه ولو كان به خصاصة… رجل لا تهمه المؤسسات، ولا تهمه السياسة السياسوية… رجل يتهكم على الوعود الكاذبة التي لا تتحقق فوق الأرض رجل متمرد، وليس ثوريا بحال… فالثورة الحقيقية، هي ثورة الفكر والعقل والعلم ضد كل مناهج التخلف والجهل والأمية، هكذا كان يقول أمام الآذان الصاغية.
محمد عريوس كان يعرف كيف يقطع الشك باليقين، نعم، يقطع الشك بالقراءة والدرس والتحصيل.. عريوس كان يقرأ ويتمتع بالقراءة ولو في أحلك الظروف… سي محمد لا تهمه الماديات، بل قل هو يكره الماديات، يحب ويعشق الأسفار والرحلات وهو في عين المكان: سفر من عوالم كارسيا ماركيز الى الجاحظ مرورا بمارسيل بروست وجبران خليل جبران… من عوالم كونديرا الى جيل دولوز مرورا بالمعري وبوشكين ورولان بارت… من عوالم بودلير إلى عوالم عمر الخيام مرورا بالشاعر ابن زيدون وحبه التاريخي لولادة…
رحلات ورحلات يرحلها سي محمد بين الكتب وأمهات الكتب هروبا من ضيق المدينة وضجيجها، وما مجالساته الرائعة إلا اسطع دليل وأنتم تعلمون!
أما حين يحدثك عن الفكر الفرنسي والأدب الفرنسي، يعطيك الإنطباع بأنه قضّى بباريس شيئا من الدهر كله اهتمام وممارسة، وما وضع رجليه يوما بعاصمة الأنوار…
آخر جلسة معه، تمحور موضوعها حول «السيدة الحرة والقايد المنضري» يتكلم، يدخن، يتعمق، يحلل، ثم ينفجر ضاحكا حين أوقفته متسائلا: ماهكذا قدم التلفزيون المغربي حكاية السيدة الحرة والقايد المنضري؟ ثم اضفت إلى كلامي: من الواجب عليك يا عزيز، كتابة سيناريو في الموضوع. فأنت أدرى وأجدر.
فأجاب المناضل بمزيج من الحزن والهزل: ما “كاينش معا من خاي حسن” ..
هكذا هو صديقي عريوس.. يتصور، يتصور بأن الزمان الفارغ يعدي النفس بفراغه….
وفي نفس الآن، يتصور، يتصور بأنه حين يكون الشعور صامدا، والإحساس ثابتا، يكون الوعي متحركا، والبقاء للأصلح…
ظل صديقي عريوس دائما ودوما متمسكا بتفرده وتميزه، ظل يصارع الأمواج والإعصار بتعدد اهتماماته ونظرياته، ظلت المسافة بين الهنا والهناك تمددها خطوات الألم والأمل، والحزن والقلق… إلى أن اخذ “صاحب الأمانة امانته” … كان احيانا يباغته الليل، وهو لم ينته بعد من مهام النهار (…) كلنا متواطؤون ضد الزمن، وكلنا مسؤولون عن ضيق البحر بالسمك، وكلنا مسؤولون عن تفاهة المسؤولين بهذا الوطن.
حين نجالسه، ونحن نعاقر الكؤوس، تسعفه العبارة، ولا تسعفه الكأس، والكأس هاهنا مجاز… الأشياء تبدو تافهة، هكذا يستبد به الاحساس. عريوس عاش و عيا شقيا لا يرحم صاحبه، وعيا شقيا في عالم طاعن في البؤس والمأساة والتخلف والرجعية والتيه والهذيان، عالم النفوس المشحونة بالحقوق المهضومة، عالم النفوس الامارة بالسوء….
هرب من هذا العالم الموبوء، هرب إلى عالم السينما والصورة، وكانت ذبذبات علاقته بالفن السابع محكومة بضوابط الدراسة. والعمق في التحليل، والمثابرة في التحصيل، تاركا للآخرين كل مناوشات ونقاشات فارغة حول الدعم وما جاور الدعم.
ودعنا عريوس، ودعنا بعد ان حاول رسم مدينة حب على غرار نزار… مدينة، تكون محررة من جميع العقد، فلاهم فيها يذبحون الأنوثة، ولا هم فيها يقمعون الجسد…


الكاتب : حسن نرايس

  

بتاريخ : 20/08/2018