محمد غرناط : مسار و عرق

يعتبر الكاتب محمد غرناط من الأسماء الأدبية الوازنة في مدونة السرد المغربية والعربية ؛ نظرا لعطاءاته المتنوعة بين القصة القصيرة حيث أصدر ابتداء من سنة 1978 مجاميع متنوعة العناوين (سفر في أودية ملغومة، الصابة والجراد، داء الذئب، الحزام الكبير، هدنة غير معلنة، خلف السور، معابر الوهم، مرايا الغريب). وأخرى روائية منها : متاع الأبكم، دوائر الساحل، حلم بين جبلين، تحت ضوء الليل… إنه بهذا الصنيع الجمالي لم يراكم الأغلفة فحسب، بل أسس لسرديته الخاصة، بناء على مجهود واجتهادات، من خلال عمله الجامعي ومقروئه المتنوع، إضافة إلى ارتباطه بقوة النظر والإحساس بالواقع في تناقضاته الصارخة.
وبعد وضع اليد والعين على هذا المسار وانعطافاته الجمالية، يمكن الإدلاء ببعض الملاحظات التي عنت لي، منها التجاور الخلاق بين الاستعمال العامي والفصيح في سروده على تنوعها. وهو تجاور لم يتم اعتباطا؛ بل بناء على رؤيا تنتصر لعمل سردي مرتبط بتحولات الواقع اليومية على مستوياته المختلفة الاجتماعية والقيمية. وهو بذلك أضاف للعامي لمسة فنية تجلت في إدماجه في البناء الفني للحكاية. في هذه الحالة، فتوظيف اللسان الدارج ليس غاية في حد ذاته، بل يؤدي وظيفة سردية تتمثل في عرض الأحداث في طراوتها وتقديمها مبصومة بالحفر اليومي المليء بالغرائبي والعجائبي. ورد في قصة « القناص « من المجموعة القصصية “معابر الوهم» (ص 21) : “كان العالم بأكمله يشاهد ليندا البابلي، بوجهها العريض الأبيض، وملامحها الحادة، مزهوة، أنيقة، تهتز فوق مقعدها وهي تحكي بتأثر واضح عن القناص الذي اعتقلته بغرفتها ست ساعات متتالية في أحد فنادق المدينة. كانت تتأسى ويبدو عليه اضطراب فظيع، وهو أمامها ثابت، هادىء مثل دب، بارد، غير عابئ و كأن العالم الذي يسمعها لا يعنيه في شيء”. بهذا الرصد، تبدو أعماله موغلة في المحلي ذي الأبعاد الإنسانية. فكأن إطاراته المكانية أمكنة عالمية.
أما الملاحظة الثانية فتتعلق بالترابط بين المكان والشخصية إلى حد أن أحدها يدل على الآخر في تجاذب وجدل خلاق، مما يؤدي إلى تبادل الأدوار والمظاهر. ولا يمكن أن يتحقق ذلك دون فهم عميق للمكان والشخصية كإشكال وجود، وليس حياة فحسب، ولو في السرد. نقرأ في رواية « الأيام الباردة « (ص134) : « يا ولية، إن الفساد إذا بدأ انتشر مثل النار في الحطب. الفساد طاعون. إنك تشعلين فتيلا ينذر بالفتنة في دربنا ـ يقصد درب سانية الباشا ـ لا شك في أنك لا تشعرين بخطر ما تفعلين…».
استرسالا نقدم الملاحظة الثالثة المتعلقة بانبناء كل عمل سردي على فكرة تتخلق وتتشكل بين الواقع والمتخيل الذي لا يقفز بعيدا، بل ينبثق من تفاصيل الواقع اليومي ومفارقاته، في هذا المضمار، يغلب السير ذاتي، كأن الكاتب يؤرخ للشخوص ذات الامتدادات في الواقع والمخيال الشعبي. لهذا، تحضر الحكاية الإطار والتي تتفرع عنها حكايات صغرى.
قد يفضي بنا ذلك جدلا إلى الملاحظة الرابعة المتمثلة في حضور الحواس وتراسلها في رصد الظواهر والمفارقات. وبالأخص العين وتركيزها على أدق التفاصيل والمؤثرات. لهذا، فأعماله السردية تحكي وهي ترى بعين مشتعلة الباطن.
وبعد، هذا بعض من كل. يؤكد لنا أن الكاتب محمد غرناط صاحب مسار إبداعي كان يغذيه في صمت الآلهه، بعيدا عن اللغط والضجيج الذي لا يفضي إلا لنفسه المعطوبة، بما فيه لغط المؤسسة يتلاوينها المختلفة منها السياسية التي لا برنامج لها ولا مشروع ثقافي. بذلك يتساوى عندها الإنسان حيا أو ميتا من خلال محاصرته الكاتب ومطاردته حتى لا يترك أثرا وتأثيرا على هذه الأرض. هذا فضلا عن المؤسسة الثقافية القريبة من” المطبخ « الأدبي، ولكنها منشغلة بأصول التواجد دون موقع ثقافي فاعل ومنفعل. لهذا تتعدد الأعطاب الذاتية و الموضوعية. مما يحول دون أرشفة ولا بناء ذاكرة جماعية. لهذا فالكاتب محمد غرناط ـ كغيره ـ مات مرتين، الموت الأول والموت الثاني المتجلي في التغييب وعدم الاهتمام. فخير ما نخلد به المرحوم هو قراءة أعماله وتثبيت ملامحه في الواقع والتمثل.


الكاتب : عبد الغني فوزي

  

بتاريخ : 23/02/2018

أخبار مرتبطة

  بالنسبة لقارئ غير دروب بالمسافات التي قطعها الشعر المغربي الحديث، فإنّه سيتجشم بعض العناء في تلقّي متن القصائد الّتي

« القصة القصيرة الجيدة تنتزعني من نفسي ثم تعيدني إليها بصعوبة ، لأن مقياسي قد تغير ، ولم أعد مرتاحا

«هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟» مجموعة قصصية جديدة   «هَل أنا ابْنُكَ يا أبي؟»هي المجموعة القصصية الثالثة لمحمد برادة، بعد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *