محمد منصور، الرجل ذو القبرين (17) .. عبد الرحيم بوعبيد يعين المحامي الفرنسي «لويجي» للدفاع عن منصور سنة 1954

تقول عنه زوجته، ورفيقة درب حياته، في رحلة عمر امتدت لأكثر من 70 سنة، السيدة فريدة آكاردي كالودجيرو منصور:
«لو سمح الله للملائكة أن تمشي في الأرض وتتزوج، لكان سي محمد منصور واحدا منها».
إنه المقاوم والوطني والمناضل التقدمي الراحل محمد منصور، الذي سنحاول هنا رسم ملامح سيرة حياته، بما استطعنا إليه سبيلا من وثائق ومعلومات وشهادات. فالرجل هرم بكل ما تحمل الكلمة من معنى، حكم عليه بـ 3 إعدامات و مؤبدين في الإستعمار واعتقل وعذب في الإستقلال من أجل الكرامة والديمقراطية.
هو المساهم والمنفذ لأكبر عمليات المقاومة ضد الإستعمار الفرنسي (عملية القطار السريع بين الدار البيضاء والجزائر يوم 7 نونبر 1953. وعملية المارشي سنطرال بالدار البيضاء يوم 24 دجنبر 1953)، أول عامل للحسيمة سنة 1957، وأول رئيس للغرفة التجارية بالدارالبيضاء سنة 1960.
محمد منصور، هرم، يصعب جديا الإحاطة بسيرته بالشكل المنصف تاريخيا، على الأقل لسببين:
أولهما أن الرجل كان صموتا جدا، يرفض بحزم، البوح أبدا بالكثير من التفاصيل الدقيقة كشهادة أمام التاريخ، بسبب من ثقافته السلوكية، التي ظلت تتأسس على أن ما كان يقوم به، كان يقوم به بنكران للذات من أجل الصالح العام.
ثانيهما طبيعة السرية التي حكمت عمله النضالي ضد الإستعمار وفي أجزاء كثيرة من زمن الإستقلال من أجل العدالة الإجتماعية ودولة الحق والقانون والحريات.
وإذا كانت هناك من خصلة ظلت مميزة عند محمد منصور فهي خصلة الوفاء. الوفاء لرفاق الطريق الخلص، الوفاء للفكرة الوطنية، الوفاء لقرار نظافة اليد، الوفاء للمبدئي في العلائق والمسؤوليات، مما يترجم بعضا من عناوين الجيل الذي ينتمي إليه رحمه الله، الذي يتصالح لديه الإلتزام السياسي مع السقف الوطني، وأن السياسة ليست مجالا لبروز الذات، بل مجالا لتطوير الجماعة في أفق بناء، تقدمي وحداثي (الحداثة هنا هي في تلازم المسؤولية بين الحق والواجب).
محمد منصور، ستكتب عنه كل صحف فرنسا الإستعمارية (ونقلت صدى ذلك صحف باريس أيضا)، يوم وقف أمام القاضي العسكري بالمحكمة العسكرية بالدار البيضاء سنة 1954، كي يفند التهم الموجهة إليه ويفضح تهافت جهاز الأمن الفرنسي في كافة مستوياته الأمنية والعسكرية والمخابراتية، حين أظهر لهم كيف أنهم يحاكمون سبعة مواطنين مغاربة ظلما بتهمة تنفيذ عملية «القطار السريع الدارالبيضاء – الجزائر»، بينما هو منفذها، مقدما تفاصيل دقيقة أخرست القاعة والقضاة والأجهزة الأمنية. وقدم مرافعة سياسية جعلت مستشارا قضائيا فرنسيا يجهش بالبكاء، حين رد على القاضي، الذي اتهمه بالإرهاب: «سيدي القاضي، نحن وطنيون ندافع عن بلدنا، ولسنا إرهابيين، نحن نقوم فقط بنفس ما قام به الشعب الفرنسي لمواجهة النازية الألمانية لتحرير فرنسا. فهل ما قام به أبناؤكم إرهاب؟».
هنا محاولة لإعادة رسم ذلك المعنى النبيل الذي شكلته سيرة حياته، من خلال مصادر عدة، من ضمنها عائلته الصغيرة (زوجته السيدة فريدة منصور، ونجله الأخ زكريا منصور، وابنته السيدة سمية منصور)، وعشرات الوثائق الموزعة بين مصادر عدة فرنسية ومغربية، دون نسيان الأيادي البيضاء المؤثرة للأخ الدكتور فتح الله ولعلو، في تسهيل إنجاز هذه السيرة كوثيقة تاريخية.

 

عادت السيدة فريدة آكاردي منصور لوحدها، في الغد إلى الرباط، بعد أن طلبت عناصر الشرطة السياسية الفرنسية منها الإتيان بألبسة جديدة لزوجها سي محمد منصور، مع قفة للأكل (لم يتوصل بها أبدا)، وسمح لها بمقابلته. ثم عادت إلى الدار البيضاء، قبل أن تشد الرحال في اليوم المالي مجددا صوب الرباط، بعد أن سألت عناصر الشرطة تلك إن كان ممكنا أن تعود بقفة أخرى في الغد، فوافقوا. لكنها فوجئت حين وصلت إلى تلك الفيلا، التي كانت مركز تعذيب واستنطاق سرية، بالمفتش فرانسوا، يعبر جوارها ويهمس لها قائلا: «لقد رحلوا زوجك البارحة إلى المحكمة بالدار البيضاء»، مضيفا أن ملفه عند المحامي شارل لوغران. كان ذلك في الأسبوع الأول من شهر مارس 1954.
عادت بخيبتها إلى بيتها، لتلتقي في الغد بالمحامي الفرنسي الشهير شارل لوغران بمكتبه بوسط المدينة، الذي أكد لها أن زوجها هو من انتدبه للدفاع عنه، وأنه قد تمت عملية إعادة تمثيل تفاصيل عمليات السوق المركزي ومركز البريد ومركز الطرود البارحة. سألته عن حجم أتعابه، فطلب منها، في البداية، 200 فرنك فرنسي، على أن تدفع منها 100 فرنك قبل المحاكمة (كان ذلك الرقم حينها كبيرا جدا من حيث الكلفة). لكنها فوجئت به في الغد، يرفع قيمة التعويض إلى 500 فرنك فرنسي، مبررا ذلك بأنه اكتشف أن زوجها يتابع في خمس ملفات، وأن أتعاب كل ملف منها هي 100 فرنك. اعتذرت السيدة منصور قائلة أنها لا تتوفر على ذلك المبلغ، فأجابها أن زوجها سي محمد أكد له أن المال متوفر. فأجابته السيدة فريدة: «خده من عنده إذن» (ضحك). ثم اقترحت عليه أتعابا بقيمة 250 فرنكا، لكنه أجابها جوابا جافا، لم تتقبله، فأخبرته أنها تعفيه من الدفاع عن زوجها، فرفض قائلا لها: «زوجك هو الذي أنابني وهو الذي له الحق وحده في أن يسقط تلك الإنابة». غادرت السيدة فريدة منصور مكتبه، غاضبة وتوجهت صوب مكتب نقيب هيئة المحامين بالدار البيضاء (محام فرنسي نزيه) لتشتكي لديه ما حصل لها مع المحامي لوغران، فأكد لها أنه سيبحث لها عن حل.بعد أيام من الإتصالات والمحاولات، تخلى أخيرا، بضغط من نقيب المحامين ذاك، المحامي شارل لوغران عن الملف، فقامت السيدة فريدة، مباشرة، في ذات اليوم بالتوجه إلى مدينة سلا (بحي بطانة) تبحث عن الأستاذ عبد الرحيم بوعبيد، الذي كان قد أطلق سراحه هو الآخر منذ أسابيع، وكان صديقا لزوجها ومن رفاقه المقربين في حزب الإستقلال. استمع إليها سي عبد الرحيم بعناية، ثم سلمها ورقة وطلب منها تسليمها إلى المحامي الفرنسي «لويجي» (الذي كان من «الفرنسيين الأحرار 75» المناصرين لعدالة المطالب المغربية في الحرية والإستقلال).
توجهت في الغد إلى مكتب ذلك المحامي الفرنسي، المنحدر من جزيرة كورسيكا، وسلمته رسالة عبد الرحيم بوعبيد، فقرر الدفاع عن محمد منصور بالمجان، وأن ما عليها دفعه من تعويض هو المتعلق فقط بمصاريف أوراق المحكمة (وهي مصاريف ضئيلة على كل حال)، وطلب منها الإتصال بزوجها في السجن المدني «غبيلة» كي يقدم طلبا رسميا بتعيينه للإنابة عنه.
بقي محمد منصور ورفاقه، كل واحد في زنزانة انفرادية، أربعة شهور بالسجن المدني بالدار البيضاء خضعوا خلالها للتحقيق المفصل أمام قاضي التحقيق الفرنسي الشهير، المستقدم من الجزائر، جيليزو. ومما حكاه لي رحمه الله، أنه ألح في طلب توفير ترجمان له أمام قاضي التحقيق ذاك، رغم إتقانه للغة الفرنسية، بسبب معرفته بخبث ذلك المسؤول القضائي الفرنسي الذي سبقته شهرته في الإيقاع بالعديد من قادة الحركة الوطنية وفبركة الملفات ضدهم. وحدث أن استعرض أمامه صور ضحايا عملية السوق المركزي (المارشي سنطرال)، قائلا له: «هل أنت مرتاح لهذه الفظاعات التي تسببتم فيها؟»، فأجابه رحمه الله: «لا أحد يمكنه أن يقبل العنف ونتائجه، هؤلاء ضحايا سياستكم وقراراتكم ضد حقوقنا المشروعة. بالتالي أنتم من دفعنا إلى العنف، يوم قررتم نفي بن يوسف واخترتم تنفيذ ذلك يوم عيدنا الكبير. ثم أنت تقدم أمامي هذه الصور التي أسميتها الفظاعات، لماذا لم تقدم أمامي أيضا صور الفظاعات التي قمتم بها يوم 7 أبريل بدرب الكبير ضد مواطنينا المغاربة العزل والأبرياء؟». فأجابه قاضي التحقيق ذاك، لم أكن هنا حينها، فقال له منصور: «احمد الله أننا لم نلتق بك قبل اعتقالنا» (ضحك)، لكن المترجم الجزائري حرف من كلامه ذاك، فانبرى له منصور ليوبخه قائلا: «كن أمينا ورجلا في الترجمة».
كانت زوجته السيدة فريدة تزوره كل أسبوع بالسجن رفقة والدته وأبنائها، في ظروف صعبة جدا، حيث تكون الزيارة معه وحده في البالوار بأسلاكه المتشابكة، وبينهما حارسان واحد جوارها والآخر جواره. وحين انطلقت جلسات المحاكمة أمام المحكمة العسكرية بالدار البيضاء في نهاية صيف 1954، بدأت المتابعات الصحفية تنقل تفاصيل ما يجري بها من مرافعات ودفوعات، لشهور، قبل أن يفجر منصور قنبلة مدوية، يوم وقف أمام القاضي العسكري الفرنسي السيد «هومري»، وشرع يرافع عن حق المغاربة في المقاومة، وأن ما قاموا به ليس إرهابا بل دفاعا عن حق بلادهم في الحرية والإستقلال، وعن حق سلطان البلاد الشرعي في العودة إلى عرشه وملكه، مقارنا بين مقاومتهم تلك ومقاومة أبناء فرنسا من خلايا المقاومة بها ضد الإحتلال الألماني النازي. قائلا للقاضي:
هل ذلك إرهاب أيضا أم مقاومة شرعية؟
وكانت القنبلة المدوية، حين قال لذات القاضي:
كيف تسمحون لأنفسكم بمحاكمة مواطنين مغاربة أبرياء (7 معتقلين)، بتهمة تنفيذ عملية القطار الرابط بين الدار البيضاء والجزائر العاصمة يوم 7 نونبر 1953، وهم لا علاقة لهم بها أبدا؟.
سأله القاضي:
وما دخلك أنت، إن الوقائع تدينهم.
فرد عليه منصور:
إنهم أبرياء منها تماما. لأنه أنا من نفذ تلك العملية. وشهودكم شهود زور. لقد وضعت القنبلة بمرحاض الدرجة الأولى من القطار ووضع رفيق لي (كان محمد السكوري حينها قد غادر المغرب إلى ألمانيا هربا) القنبلة الثانية بمرحاض الدرجة الثانية، وهي قنابل تتضمن المواد التالية (مدققا في نوعية تلك المواد). ثم إن رئيس محطة القطار بالرباط، الذي كان يلبس البدلة الفلانية باللون الفلاني، يذكرني أكيد، لأنه حين نزلت من القطار سقطت مني الحقيبة التي كانت معي، وفتحت وكانت فارغة تماما، فارتبكت وضحكت ثلاث شابات فرنسيات مني وضحك هو أيضا معهن. بالتالي فلا علاقة لمن تحاكمونهم من المواطنين المغاربة بها. مثلما أن الإخوة الذين تحاكمونهم معي، هم أبرياء، فأنا من يتحمل مسؤولية كل العمليات المتابعين فيها هنا. نحن وطنيون ولسنا إرهابيين، نحن ندافع عن حرية بلدنا واستقلالنا وعن ملكنا محمد بن يوسف، مثلما دافع أحراركم عن باريس يوم أذلها هتلر واحتلتها قواته الألمانية. لم تقبلوا ذلك الذل، ولن نقبل ذلا مماثلا له من قبلكم في بلدنا.
فرفعت الجلسة، بعد الجلبة الكبيرة التي أحدثها ذلك التصريح. وحين عادت للإنعقاد، قدم محمد منصور كلمة أمام المحكمة كانت مرافعة سياسية وطنية رفيعة. جعلت مستشارا قضائيا فرنسيا يتأثر دامعا، وجعلت المحامي الفرنسي «شارل لوغرون» يقول أمام المحكمة، حتى وهو لم يكن محامي منصور: «سيدي القاضي لقد جئنا اليوم لنتعلم درسا حقوقيا وقانونيا كلنا، ولقد تعلمناه من خلال قوة مداخلة هذا الرجل». (وقام جزء من الجمهور الفرنسي الحاضر بقاعة المحكمة وشرع يصيح وينادي «شارل لوغرون إلى المقصلة». وفي الغد حاولت جماعة منهم مهاجمة بيته، فأخرج بندقيته وأطلق النار على أول من كسر باب بيته وهرب الباقون). وحين طلب القاضي الفرنسي «هومري» من محامي منصور أخد الكلمة الأستاذ «لويجي» رد عليه قائلا:
«ما الذي علي قوله لمحكمتكم سيدي الرئيس، بعد المرافعة القيمة لموكلي؟. هل لي حق في المزيد؟. لا سيدي الرئيس، لن أزيد عليها شيئا. لكن صدقوني، من أدرانا أنه ذات يوم، من سيكون جالسا على الكرسي الذي منه ستصدرون حكمكم؟. والتاريخ سيحاكم الجميع».
كانت فصول المتابعة، ضد محمد منصور ورفاقه السبعة (دابلعيد، مولاي العربي الشتوكي، عبد لله الزناكي، حسن بن المختار، بوشعيب بن علي الغندور، محمد بوزاليم وصالح بنبراهيم)، كما تضمنها محضر الحكم، تتحدد في الفصول «2/ 59/ 60/ 265/ 296/ 297/ 302/ 309/ 310/ 311/ 434/ 435/ 463» من القانون الجنائي الفرنسي، الصادر سنة 1922، وأيضا القانون العسكري للمحاكم العسكرية الفرنسية الصادر سنة 1859 والمعدل سنة 1916، وكذا الظهير العسكري لسنة 1939، المعدل سنة 1943. وكلها فصول بأحكام قاسية يصل إقصاها إلى الإعدام. وحين صدر الحكم يوم 11 دجنبر 1954، كان نصيب محمد منصور منها، وهو في 31 سنة من عمره (المهنة الرسمية تاجر) 3 إعدامات دفعة واحدة في الملفات الخمسة المتابع بها ومؤبد واحد. فيما كانت باقي الأحكام، كما نشرتها يومية «لافيجي» في عددها ليوم 12 دجنبر 1954، كالآتي:
دابلعيد بن أحمد (البالغ 41 سنة، مهنته بقال) الإعدام.
عبد لله الزناكي (البالغ 30 سنة، مهنته ميكانيكي) الإعدام.
حسن بن المختار (البالغ 30 سنة، مهنته حرفي) الإعدام.
بوشعيب بن علي الغندور (البالغ 20 سنة) الإعدام.
مولاي العربي بن عبد القادر الشتوكي (البالغ 41 سنة، مهنته تاجر) المؤبد.
محمد بوزاليم (البالغ 27 سنة) 20 سنة سجن نافذ و20 سنة نفي.
صالح بنبراهيم (البالغ 30 سنة، مهنته بقال) 10 سنوات سجنا نفاذا و 10 سنوات نفي.
حين صدر الحكم عليه ب 3 إعدامات دفعة واحدة ومؤبد (تؤكد زوجته السيد فريدة)، بقي سي محمد منصور هادئا، مطلقا ابتسامة خفيفة ذات معنى وبمعنويات عالية.


الكاتب : لحسن العسبي

  

بتاريخ : 19/07/2019