محنة الخطاب الديني و أزمة الخطاب اللائكي 2/2

كان إثبات الحق في ممارسة النظر العلمي والفلسفي في إطار الملة الإسلامية هو القصد من تأليف كتاب «فصل المقال» للتقريب ما بين الشريعة و الحكمة من الاتصال. وأهم حجة قدمها ابن رشد لاثباث ذالك هي الوحدة في الغاية بين الشريعة والحكمة, و هي الغاية في الوقوف على الحق. ودعم هذه الحجة بحجة ثانية تربط يبن العبادة والمعرفة مفادها انه إذا كانت الغاية من الشريعة هي عبادة الخالق, فان اشرف عبادة هي معرفة ذاته على الحقيقة، و لا تتحقق معرفة الذات الإلهية إلا بمعرفة مصنوعاتها بالطرق البرهانية. ويستدل ابن رشد بآيتين على فكرته:
«أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق لله من شيء»
«أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت».
واستخلص من هاتين الآيتين حكما يقول بأن النظر في الموجودات نظرا علميا واجب على من هم أهل لذالك. ويضيف إلى هذا الواجب واجبا آخرا ترتب عن السابق, وهو واجب الانفتاح على الآخر والأخذ بمناهجه وعلومه المنطقية والفلسفية بغض النظر عن اعتقاداته, بشرط أن تكون محايدة وموافقة للحق. إن إثبات معقوليةالشريعة انطلاقا من كونها تنطوي على الحق وتدعوا إليه, هو الذي جعله يطلق قولته الشهيرة : «الحق لا يضاد الحق, بل يوافقه و يشهد له».بل انه ذهب ابعد من ذالك عندما عزز الاتصال بين الحكمة والشريعة بالقول بان الشريعة التي تعتمد على مبدأي الوحي والعقل هي أفضل من الشريعة التي لا تقوم إلا على مبدأ واحد.
في ظل التحولات الآنية التي يعرفها الغرب تزداد الهوة مرة أخرى، فالعقل الكلاسيكي الغربي المرتكز على اليقينيات المطلقة ينتقل إلى مرحلة العقل النسبي أو النقدي الذي يعود على نفسه باستمرار من أجل تصحيح مساره أو تعديله إذا لزم الأمر، فهو ما يدعوه البعض إلى عقل ما بعد الحداثة، أي عقل أكثر تواضعا لكنه أكثر دقة وحركية في آن واحد، وهو عقل ما بعد انهيار الإيديولوجيات الكبرى واليقينيات الراسخة».
جاءت هذه التحولات التصحيحية الغربية في ظل الأزمة الأخلاقية والقيمية الحالية التي يعرفها الغرب وهي مرتبطة بالنظرة الحديثة إلى العالم الذي نشأت فيه، أي الغرب الأوروبي، وكذلك عبر امتدادها على بقية أنحاء العالم، وشكلت في الوقت نفسه نواة الحضارة الحديثة، وأسست لمختلف أنماط الحياة والاجتماع والتمدن.
إن فهم أصول أزمة الغرب الراهنة يمر عبر نقدها، و هذا يتطلب العودة إلى اللحظة الفلسفية التأسيسية للعصور الحديثة، والتي تتجلى في تخليص المعرفة العلمية من شوائب الفلسفة الميتافيزيقية واللاهوتية وإرسائها على أسس تجريبية موضوعية كما هو الشأن بالنسبة لديكارت والقسمة الثنائية التي أقامها بين جوهرين:
– الأنا المفكر.
– المادة الممتدة.
حيث تطورت هذه النظرية وبالتالي ظهرت ثنائيات جديدة كما هو الشأن بالنسبة:
– العالم و الإنسان مقابل الطبيعة.
– الذات مقابل الموضوع.
إذا فإثبات الأنا لوجوده كجوهر مفكر،متقدم يعني في الوقت نفسه انفصاله واستقلاله عن العالم/ الطبيعة. وهذا ما شكل الخروج الثاني للإنسان على الطبيعة بعد الخروج الأول الذي دفعته إليه قواه البيولوجية التي اكتسبها في سياق التطور.
وهكذا تحولت الطبيعة إلى آلة ضخمة هائلة وتحولت أسرارها وأرواحها إلى قوانين وقوى ميكانيكية من خلال الأنا كذات عارفة، قادرة على التوجيه إلى معرفتها وحيازتها، والتعرف والتلاعب بها، مما يؤدي بنا نحن البشر إلى أن نصبح سادة و مهيمنين على بعضنا البعض وعلى الطبيعة، وفق التعبير الديكارتي الشهير.
وأولى خطوات هذه المعرفة والسيادة امتلاك المنهج الذي يضمن اليقين، وأولى خطوات المنهج هي التحليل. وفي حين أن الموضوع العالم/الطبيعة آلة ضخمة معقدة يمكن فهمها بتفكيكها إلى أجزائها والبحث في كل جزء على حدة ،وهذا يعني أن الكل (الطبيعة) ما هو إلا تجمع من الأجزاء المتراصفة المرتبطة أليا. وليس كليّة لها خصائصها، التي لا يمكن اختزالها إلى خصائص أجزائها.
إضافة إلى الفكر الديكارتي هناك نظريات وأفكار أخرى ساهمت إلى حد كبير في هيمنة وسيادة الإنسان على أخيه الإنسان وعلى الطبيعة وتسخيرهما لنزواته وغرائزه اللامنتهية كما هو الشأن بالنسبة «لنظرية داروين» و«نظرية علم الوراثة» لصاحبها «مانديل».
كل هذا يدفعنا إلى طرح مجموعة من الاستفهامات و الأسئلة:
– هل الطبقات البشرية الضعيفة الغير المحضوضة مجرد مواد خام مركونة في فقرها وبؤسها لإشباع حاجيات ورغبات الطبقات البشرية الميسورة؟
– هل دول الجنوب مجرد مواد خام مركونة، مغلوبة على حالها، بكل مكوناتها ومنظوماتها البيئية وبكل أشكال فقرها وجهلها ويأسها وبؤسها وتخلفها، كمادة خام لإشباع حاجيات ورغبات دول الشمال المهيمنة؟
ومن بين إخفاقات العلم الحديث أيضا، نأخذ على سبيل المثال الأنتربولوجية الكلاسيكية المكناة «بالفيزياء الإنساني»، إذ لما كان علماء الحيوان وعلماء النبات يصنفون الحيوانات والنباتات إلى أنواع مختلفة ومستقلة فيما بينها، نرى الأنتربولوجيون يعمدون إلى إقامة حواجز داخل النوع الواحد مصنفين البشر إلى أجناس وأعراق، والصحيح أنهم يمثلون نوعا واحدا ومجموعة متجانسة من الأقوام تربط بينهم وشائج القربى وتساهم الهجرة في مزيد من التواصل بينهم، ونفس الحواجز على النوع الواحد أقيمت على الحيوان والنبات و كذلك الجماد.
إذا فلن يدرك الإنسان حقيقة ذاته إلا بمزيد صهرها ضمن الطبيعة في شبه تواصل عميق معها، وتناغم تام مع جميع العناصر المركبة لها صغرت أم كبرت. إلا أن الغاية المنشودة من معرفة الإنسان لذاته ليست هي فصل الإنسان عن الطبيعة بقدر ما هي التعرية عن الطبيعة الحقيقية في الإنسان، وتنقيتها مما علق بها من جراء التاريخ والثقافة والمجتمع كما قال روسو في كتابه» أصل التفاوت بين البشر».
لتجسيد هذه الأفكار والنظريات على أرض الواقع توصل الغرب وبالخصوص فرنسا إلى مفهوم سياسي جديد لبناء الدولة وهو ما يعرف باللائكية.
ظهرت اللائكية كمفهوم سياسي جديد تدريجيا بعد الثورة الفرنسية لسنة 1789 في سياق المواجهة التاريخية مع اللاهوت الديني وتجدر الإشارة أن إبان العهد الكنسي قبل الثورة كان القساوسة يمتلكون الأهلية لتقديم نفسهم أمام لله والتحدث إليه كوسطاء بينه وبين المؤمنين، وكانت اللائكية في جوهرها تهدف إلى فصل الدين عن الدولة، كيف ذلك؟
– في 26 من غشت 1789 ومن خلال الإعلان عن مبادئ حقوق الإنسان والمواطن، نص البند العاشر منه على حرية المعتقد الديني شريطة عدم المس بالنظام العام.
– في سنة 1881 ظهرت قوانين ملزمة تؤسس للمدرسة العمومية التي أصبحت مدرسة لائكية ومجانية.
– وفي سنة 1905 ظهر قانون جديد يشرع لفصل الدولة عن الكنيسة والذي يضمن حرية الفرد دون الاعتراف أو التمويل أو الدعم لأي مشروع عقائدي وديني.
– و في 04 من أكتوبر 1958 تم الاعتراف رسميا بالائكية انطلاقا من دستور الجمهورية الخامسة كمكون من مكونات الدولة.
بهذا أصبح النظام الفرنسي السياسي مرتبط في جوهره بالائكية التي تقر بحرية الإنسان وبوجوب احترامه لذاته بعيدا عن نطاق الفكر الجماعي والثقافي واللغوي والعرقي والجنسي والديني والعقائدي الذي ينتمي إليه.
من هنا تصبح اللائكية سيف ذو حدين تضمن حرية الفرد وتلغي في العمق حرية الأقليات والجماعة مما يؤسس لجدلية من عيار ثقيل تلامس حرية الفرد حق الجماعة، وهذه الحقيقة النسبية تعتبر من الأسباب الرئيسية في الاحتقانات الاجتماعية والأحداث الدموية التي تعرفها فرنسا حاليا.
أوروبا اليوم، وفرنسا كنمودج تجد صعوبة في الاعتراف بنفسها كمجتمع متعدد الهويات سواء تعلق الأمر بالديانة الإسلامية أو بالديانة اليهودية أو المسيحية أو البودية أو باقي الأقليات…إن الاعتراف بكل هذه المكونات يعني إمكانية بناء مجتمع مركب و متعدد لا وجود فيه للتفرقة على أساس ديني أو عرقي أو جنسي أو غيرها.
من خلال ما صرح به رئيس الحكومة الفرنسية السابق « إمانويل فالس» أنه داخل تركيبة المجتمع الفرنسي نظام فصل عنصري إقليمي إثني وعرقي وديني غير معلن و هناك طبقية اجتماعية قاتلة، نطرح مجموعة من الاستفهامات:
– لماذا المجتمع الفرنسي الذي قاد العالم ضد الظلم و الترهيب من خلال ثورته التاريخية عجز اليوم عن الخروج من مفهوم الدولة المركزية التي تؤسس إلى كل الاختلالات الاجتماعية والسياسية التي تعرفها فرنسا؟
– لماذا المواطن الفرنسي ذو الأصول الإسلامية وغيرها من الأقليات يجد نفسه عاجزا اليوم عن الاندماج في المجتمع الأوروبي وخاصة في فرنسا؟
لقد خلفت الحضارة الغربية آثارا إيجابية ساهمت في تغييرات عميقة في المجال المعرفي والثقافي والسياسي والاقتصادي والحقوقي. لكن ظلت بين الفينة والأخرى حبيسة لمخزونها الثقافي ووعيها الجماعي المرتبط بالحروب الصليبية ودورها في نشر الحقد والاستهزاء بالشعوب العربية والإسلامية، بثقافتها وعقيدتها وجماعتها. إضافة إلى ما خلفه الاستعمار الغربي خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، خاصة الفرنسي، في نفوس الشعوب العربية والإسلامية فكان منعطفا جديدا وخطيرا، حينها شعر المستعمر بضعف هذه الشعوب وتخلفها، وبعد وقت وجيز بدت ملامح وشرارة الاستعمار تتبادر للعيان فتدهورت الأوضاع و ازداد اليأس والخوف من الحاضر والمستقبل فاشتدت المعانات. ومن خلال كتب التاريخ القليلة التي تعري عن فضاعت الاستعمار، كانت فرنسا في القرن التاسع عشر خلال سنوات 1907 و 193 تقيم معارض بشرية بحدائق النباتات الاستوائية بباريس وهي عبارة عن نماذج بشرية مغلوطة وتحقيرية للمستعمرات الفرنسة لإبراز تخلف شعوبها و لشرعنة استعمارها من أجل ترويضها لإشباع رغباتها اللائنسانية، حيث كانت عينات وهمية لهذه الشعوب، توضع في أقفاص حديدية، حفاة وعراة وينعت البعض منهم بآكلي لحم البشر. كانت هذه المعارض تستقطب أزيد من 600 ألف زائر يوميا.
هكذا تأثرت أفكار وحياة هذه المجتمعات بهذه الضربة الاستعمارية الموجعة التي لا زال أثرها يسكن ذاكرتها وذواتها ويرتعش منه البشر والشجر و الحجر إلى يومنا هذا.
وفي نفس السياق وللخروج من قبضة الكنيسة وجبروتها ورهبانيتها تجرأ العقل الديني المسيحي على مواجهتها وفتح معها معركة حقيقية وتاريخية وتحرر من خلالها الإنسان الغربي من قيود اللاهوت الديني و فتح مرحلة جديدة لبناء الدولة المدنية الحديثة، فكانت اللائكية من بين الإبداعات التي أسست لهاته المرحلة خاصة في فرنسا فأصبح النظام الفرنسي السياسي حينها يقر بحرية الإنسان، وبوجوب احترامه لذاته بعيدا عن نطاق الفكر الجماعي والثقافي واللغوي والعرقي والجنسي والديني والعقائدي الذي ينتمي إليه، فأسس لجدلية لازالت قائمة لحد اليوم بين حرية الفرد وحرية الجماعة والأقليات، بعد سنين وعقود و تدريجيا وبعد التغييرات الجذرية التي وقعت على المجتمع الفرنسي خاصة وأوروبا عامة والذي أصبح يحمل هويات و مكونات مختلفة، ظهرت تأثيرات جانبية للنظام السياسي الفرنسي كنمودج من خلال ما يعرف بالدولة المركزية و من خلال الفصل العنصري والاختلالات الاجتماعية، فأصبحت فرنسا تجد صعوبة في الاعتراف بنفسها كمجتمع مركب و متعدد الهويات، مما فتح الباب على مصرعيه للتطرف والأصولية، سواء منها الإسلاموية المتشددة أو اليمينية أو اليسارية المتطرفتين، وبهذا استنفذ مفهوم اللائكية ما في جعبته وأصبح يشكل الفراغ القاتل في فرنسا وأوروبا على العموم.
أما الحضارة العربية الإسلامية فقد خلفت أيضا موروثا إنسانيا في غاية الأهمية يشمل مستويات عدة سواء منها ما يتعلق بفن الحكامة والحكم وبمجال العمران والمعرفة والثقافية. ولكن و لحد اليوم ظلت ذاكرتها الجماعية تختزن آثار الصراع حول الخلافة والتأسيس لإيديولوجية الدولة الدينية ودولة الخلافة التي تتغذى بمختلف الصراعات المذهبية والطائفية التي عرفتها هاته الشعوب كما ذكرنا سابقا، فأصبح الوعي الجماعي لهذه الشعوب يرفض الآخر خاصة المنتمي لبلاد الغرب بدعوى عدم الحاجة إليه بل ينعته بأبشع النعوت كالفاسق والكافر والفاجر.
نعود إلى اللحظة الآنية وبعد التضامن غير المسبوق مع ضحايا مجازر أوروبا والتي ذهب ضحيتها مجموعة من المواطنين ذو الأصول المختلفة، وبعد أن هدأت العواطف الصادقة والكاذبة وبعد التعرف على الحقائق وبعد التشخيص علينا إيجاد الحلول الناجعة لكي لا تتكرر هذه المأساة بعيدا عن دغدغة العواطف والمشاعر.
علينا أن نعترف في البداية بمسؤوليتنا الجماعية على كل هاته الأحداث الدرامية سواء الشعوب الغربية أو العربية الإسلامية، و أنها نتيجة لتراكمات ساهم فيها التاريخ والجغرافيا والسياسة، ومن هذا المنطلق علينا الجلوس جميعا على طاولة موحدة لفتح نقاش هادئ ووازن نعيد من خلاله للإنسانية اعتبارها بدون إلغاء ولا إقصاء و بتسامح و احترام.
نعم فالمقاربة الأمنية الكلاسيكية التي نهجتها الدول المتضررة من الأحداث الإرهابية ضرورية، لكنها أيضا محتاجة إلى مقاربات أخرى أهمها المقاربة التنموية الشاملة المرتبطة بتحقيق الأمن الغذائي والأمن السياسي والثقافي والاقتصادي والصحي والبيئي وكذلك المقاربة الديمقراطية المرتبطة بالحقوق والواجبات…سواء بالنسبة لشعوب فرنسا وأوروبا، خاصة الأقليات التائهة في عالم النسيان و البحث عن الذات. أو لشعوب الضفة الجنوبية الغارقة في بحر المعاناة والتخلف والفقر والحرمان. ومن أجل تحقيق هذا علينا إعادة النظر في جدلية الثروة والفقر والعمل في كل مجتمعات المعمور على توزيع السلطة والثروة سواء منها المادية أو اللامادية، توزيعا عادلا يجنبنا من الاحتقانات الاجتماعية التي تؤدي حتما إلى العمليات الإرهابية. في هذا الإطار دقت إحدى المؤسسات البريطانية المهتمة بالموضوع ناقوس الخطر حيث جاء في تقريرها أنه بحلول سنة 2016 ستستحوذ واحد في المائة من ساكنة المعمور على أكثر من نصف الثروة العالمية.
إذا نحن محتاجون اليوم وفي مختلف بقاع العالم إلى ثورة فكرية و ثقافية كونية هادئة وسلمية نؤسس من خلالها لجيل جديد من القوانين ومن الأفكار ومن النخب القادرة على بلورتها على أرض الواقع.
ومن بين الآليات المباشرة لتحقيق ذلك :
– تجديد الخطاب الديني باختلاف الأديان التوحيدية و ذلك بإعادة قراءة نصوصه لمسايرة العصر و لتنقيتها من التأويلات المزيفة والغريبة عن الدين الذي جاء في جوهره لخدمة الإنسان والإنسانية و ليس للتفريق وزرع الحقد بين صفوفهما، في هذا السياق نحن محتاجون إلى فتح حوار حقيقي بين الأديان التوحيدية وأن ننطلق من المشترك و المتفق عليه و أن نبعد الدين بقدر ما نستطيع عن السياسة القذرة التي تسخر الدين لأغراضها الذاتية.
– تجديد الخطاب اللائكي والقطع مع الخطاب المركزي الذي يؤسس للفصل العنصري ولكل أشكال التمييز في كل الدول التي تتبنى هذا المفهوم وخاصة فرنسا وبعض الدول الأوروبية.
صدقوني فأوروبا اليوم ليست لها أية علاقة بأوروبا الأمس وإذا أخذنا فرنسا كنمودج لا علاقة لها أيضا بفرنسا الأمس.
ففرنسا القرن التاسع عشر بمستعمراتها المترامية وبحدائقها الخلفية ومعارضها البشرية. إنها تعيش اليوم أزمة قيم وأزمة سياسية واجتماعية تظهر جليا من خلال الخطاب السياسي و الاجتماعي العقيم، المتجاوز لساسته والذي لا يتماشى والتحولات التي يعرفها المجتمع الفرنسي والمجتمعات الأوروبية والعالمية باعتراف الفرنسيين أنفسهم، والذي أسس لفراغ قاتل استغلته بعض الفئات المتطرفة المتشددة التي تحن لزمن القرن التاسع عشر وهي ليست ببعيدة عن إيديولوجية الفكر الإسلاموي الأصولي، و خير دليل على هذا النقاش السياسي العقيم الذي تعرفه الساحة الفرنسية الحالية المرتبط بالانتخابات الرئاسية الفرنسية والتي فقد من خلالها الفرنسيون الثقة في السياسة سواء بالنسبة لمرشحي اليسار أو اليمين، في المقابل هناك صعود ملفت للنظر لليمين المتطرف. فرنسا اليوم محتاجة لفك عزلتها عن أوروبا والعالم، إلى جيل جديد من الأفكار والقوانين والنخب لولادة فرنسا الجديدة المنفتحة على الآخر باختلاف ثقافاته وهوياته ومعتقداته، سواء داخل فرنسا أو خارجها خاصة بالنسبة للفئات والأقليات الفرنسية المحرومة والمركونة في الهوامش لإشباع رغبات الفئات المعترف بها، أو خارج فرنسا، لدول الجنوب والمستعمرات القديمة التي لازالت فرنسا تعاملها بالدونية والاستهزاء والتعالي، رغم أن بعض هذه البلدان أصبحت لها قوة و نفوذ إقليميا وعالميا. فرنسا محتاجة اللحظة إلى قوة سياسية جديدة تلامس الواقع الفرنسي المتعدد الهويات والثقافات. ولما لا بعد وقت كافي التأسيس للجمهورية السادسة.
لا يمكن أن نحقق هذه المقترحات سواء بالدول الغربية أو الدول العربية الإسلامية أو باقي دول العالم إلا بإعادة النظر في المناهج التعليمية لنؤسس لخطاب سياسي واجتماعي وثقافي واقتصادي و بيئي عالمي موحد يجد فيه الإنسان ذاته المنفردة ومحيطه الثقافي والجماعي وأن تكون له كل الإمكانيات للانفتاح على ما هو عالمي، واحترام كل الثقافات الأخر لإغناء الحضارة الإنسانية التي هي ملك للجميع.
من أجل تحقيق هذا المبتغى كم سأكون سعيدا إذا عدنا إلى روح فكر ابن رشد، إلى رؤيته الكونية الشمولية للعالم، مما جعله يترفع عن رؤية الفلسفة كأنها طبيعة و غريزة ثابتة تنفرد بها ثقافة أو هوية أو عرق دون آخر، كان يعتبر فكره وفلسفته قولا موجها لكل الناس و مفتوح على جميع الثقافات و اللغات لا إلى جماعة بشرية دون أخرى أو ثقافة دون أخرى و بهذا يكون ابن رشد متقدما على كثير من المفكرين الغربيين الذين لا يخجلون من جعل الفكر علامة على تفوق عرق أو حضارة على باقي الحضارات. إننا نشعر بالحاجة إلى رجل مثل ابن رشد في هذا الزمن الذي طغى فيه فكر الاختلاف والتضاد والصراع بين الحضارات والثقافات والهويات والأصوليات لان مثل هذا الرجل ينبهنا إلى أهمية الوحدة الإنسانية وإلى ضرورة وجود نقطة ثابتة نعود إليها وسط جو الإعصار، إن فكر ابن رشد في الحقيقة يخفي وراءه كل الإشكاليات التي نواجهها اليوم :»الذات والآخر، العقل والحق، المعرفة و الإيمان، الوجود والهوية.


الكاتب : مصطفى بلعسري

  

بتاريخ : 04/04/2017