مذكرات الراضي : عبد الرحيم بوعبيد.. يوم قرر ترأس جيش التحرير المغربي

منذ البدايات، كان شخص عبد الرحيم بوعبيد حاضرا في طريقي، وفي أفقي.
كان أول لقاء لي معه قد تم، في مدرسة السور بمدينة سلا. وكان قد التحق بها كمعلم حيث حظيت بأن كنت أحد تلامذته، وأن أتتلمذ على يديه في عدة مواد باللغة الفرنسية، كالتاريخ والجغرافيا والرياضيات.. وطبعا اللغة الفرنسية في حد ذاتها.
تخرج بوعبيد من مدرسة المعلمين، بعد حصوله علي شهادة «البروڤي» في ثانوية مولاي يوسف، وعين معلما في مدرسة اللمطيين بفاس. وسيقضي هناك سنتين، قبل أن يطلب الانتقال إلى سلا، مسقط رأسه.
وذلك في سنة 1942، سنتين قبل حدث 11 يناير 1944 التاريخي وما ستتبعه من تطورات. وإذن، تعرفت عليه حين كنت في سن السابعة تقريبا.
وأحتفظ في ذاكرتي، إلى الآن، بصورة المعلم الصارم داخل القسم، و الصارم خصوصا مع أقربائه، ومع أخيه بالأخص الذي كان تلميذا معنا. صرامة كانت آنذاك تميز المعلمين المغاربة عموما، وتتخطى الحدة اللفظية إلى الضرب أحيانا بالمسطرة على الأيدي الصغيرة لفرض الانضباط والانتباه والجدية وحفظ الدروس. كان متطلبا يتطلع، من وراء تلك القسوة ربما، إلى أن نجد ونجتهد وننجح في الطريق إلى بناء المجتمع الذي كان يحلم به هو وأبناء جيله من الشباب الوطني المتحمس.
ومن تلك الفترة، كان عبد الرحيم يبدو أنيقا.
وسواء كان يرتدي اللباس التقليدي المغربي أو اللباس الأوروبي، كان له حرص واضح على أناقته.
ولكنه كان يلبس اللباس العصري أكثر. أنذاك لم يكن يعتمر باستمرار، كما أذكر، الطربوش الذي سيظهر به لاحقا في مواقع المسؤولية الوطنية مثلما يمكن أن نراه في بعض الصور التي تعود إلى تلك المرحلة. وعموما كان يعتمر الطربوش عندما كان يرتدي الزي المغربي. ومازالت صورته أيضا ماثلة في ذاكرتي، حين كنا نخرج إلى الاستراحة داخل ساحة المدرسة، وهو يتمشى مع بعض زملائه من معلمي مدرستنا في تبادل للحديث فيما بينهم، وقد ارتدى «بلوزة» رمادية داكنة (…)
قد لا أحتاج إلى استحضار جميع التفاصيل والأحداث التي اقتسمناها مع عبد الرحيم بوعبيد في نهايات الستينيات وبدايات التسعينيات من القرن العشرين.
كان القائد الاتحادي الأبرز والأهم في هذه المرحلة، يقود ويوجه ويرشد ويدعم إخوانه في المحن والمحاكمات. وأذكر ما عشناه عقب أحداث الصخيرات والمحاولة الانقلابية الفاشلة في يوليوز 1971، وما قاله لي سي عبد الرحيم في أول رد فعل له، «لقد نجا المغرب من الكارثة».
وسبق لي أن أشرت إلى الضغوط التي كان يمارسها عدد من إخواننا في الداخل والخارج على سي عبد الرحيم. فقد انفرزت وجهتا نظر وسط الاتحاديين، إن في الداخل أو في الخارج.
وجهة نظر تعتبر أن علينا أن نترك التناقض يتعمق داخل الأوساط الحاكمة، «خليوهم بيناتهم» وأن علينا ألا «ننقذ الحكم» وألا نتفاوض معه! ووجهة نظر أخرى كانت نابعة أساسا من رؤية عبد الرحيم وتبصره وحسه الوطني العالي، إذ كان يرى أن علينا أن ننقذ البلاد من الكارثة، فقد استشعر درجة الخطر المحدق بالمغرب، واعتبر أن على الاتحاديين أن يتصرفوا بوحي من التاريخ لا من نزعة الانتقام والضغينة ورد الحساب إلى النظام الذي طالما فتك بالاتحاديين وأساء معاملتهم.
وكان رأي عبد الرحيم واضحا، إنقاذ البلاد بالمؤسسات، ودعم الشرعية بالإصلاح الدستوري والسياسي، وبخوض التجربة الديمقراطية وتجاوز أخطاء الماضي (ما كان يسميه رحمه الله بتصحيح المغالطات). وفي هذا الأفق، لم يكن يقبل بالتردد. كانت الديمقراطية بالنسبة للسي عبد الرحيم هي صمام الأمان (…).
كان واضحا أن على الملك أن يواجه محيطه الرافض للانفتاح على اليسار، وعلى الاتحاد بالخصوص.
في ذلك المحيط، كان كل فرد من الحاشية يقاوم التغيير بطريقته. في سنة 1965، كان واضحا أن الجنرال أو فقير يناصب العداء للاتحاديين ويقف حجر عثرة في وجه لحظة التغيير التي كانت ملامحها ومقدماتها قد بدأت تلوح أمامه، وذلك بالإشراف المباشر على اختطاف واغتيال أخينا المهدي.
ومعلوم أننا لو كنا اتفقنا آنذاك مع الحسن الثاني، لكان أوفقير سيفقد سلطته أو سطوته التي كانت له. وبالتالي، كان هناك في محيط الملك من كان يأبي أن ينفتح النظام، وينخرط في توجه ديمقراطي، ويتيح الإمكانية لحكم المؤسسات. والمؤسسات كانت تعني أن لا يدخلها أي كان إلا عبر العملية الانتخابية، أي عبر الشرعية الديمقراطية. وفي أفق كهذا، ما كان هؤلاء ليضمنوا لأنفسهم الاستمرار في مواقعهم.
ومن ثم كانوا يدركون أن ليس في صالحهم أن تكون الأحزاب قوية، وأن تكون المؤسسات قائمة وحقيقية وتتمتع بلسطاتها الفعلية المستقلة والمتوازنة (…)
وأذكر مرة، خلال زيارة لي إلى القصر الملكي بمراكش، وأثناء محادثة مع جلالة الملك الحسن الثاني، استرجع فيها ذكريات منفى العائلة الملكية إلى مدغشقر، وبصفة عامة العلاقات بين القصر والحركة الوطنية. ثم جاء في السياق حديث عن عبد الرحيم بوعبيد. ونحن نعرف أنه بعد لقاء إيكس ليبان، توجه ممثلو الحركة الوطنية عبد الرحيم بوعبيد، عمر بن عبد الجليل عن حزب الاستقلال، عبد القادر بن جلون وعبد الهادي بوطالب عن حزب الشورى والاستقلال، إلى مدغشقر، كما سبقت الإشارة، وذلك من بين الوفود التي ترددت على السلطان محمد بن يوسف لوضعه في صورة التطورات وإحاطته بالخصوص بما جرى في إيكس ليبان والمحادثات مع السلطات الفرنسية، وكذا لإحاطة سلطان البلاد بالوضع في المغرب والمعنويات المرتفعة للشعب المغربي ومدى ارتباطه بالسلطان الشرعي وإصراره على مواصلة الكفاح إلى أن تتحقق عودة السلطان إلى عرشه.
وقد تذكر جلالة الملك الحسن الثاني أنه في آخر تلك الزيارة إلى مدغشقر، استفرد به عبد الرحيم ليخبره بكونه يفكر في أن يتحمل المسؤولية على رأس جيش التحرير الذي كان آنذاك قيد التأسيس في شمال المغرب. ولكن الأمير لم ينصح عبد الرحيم بذلك، إذ أقنعه قائلا: «عبد الرحيم، أنت تعرف أن حل المشكل مع فرنسا لن يكون عسكريا، وإنما سيكون سياسيا. وعندما تحين اللحظة، سنكون في حاجة إليك في المفاوضات. لهذا، عليك أن تأخذ هذا الأمر بعين الاعتبار».
وهو ما سيحدث تماما كما خمن الأمير الحسن.
وعندما عدت إلى الرباط، توجهت إلى الأخ عبد الرحيم كالعادة في أعقاب كل لقاء مع جلالة الملك. وفاجأته بأن طرحت عليه السؤال: لماذا لم تقل لنا أبدا بأنك كنت تريد أن تصبح قائدا لجيش التحرير؟ فسألني بدوره: من قال لك ذلك؟ أوضحت له بأن جلالة الملك الحسن الثاني هو من حدثني عما جرى بينكما في أنتسيرابي. واكتفى سي عبد الرحيم بأن ابتسم مؤكدا لي ما قاله جلالة الملك، وذلك بدون أي تعليق (…).


بتاريخ : 09/01/2019

أخبار مرتبطة

يؤكد الفيلسوف ميشيل فوكو أن عصر الأنوار «لم يجعل منا راشدين»، ظلك أن التهافت الأخلاقي للغرب ظل يعيش، إلى الآن،

نعود مجددا إلى «حياكة الزمن السياسي في المغرب، خيال الدولة في العصر النيوليبرالي»، هذا الكتاب السياسي الرفيع، الذي ألفه الباحث

  هناك خيط ناظم يتمثل في الربط الجدلي بين إشكالات النظام التعليمي والنظام السياسي     نظم المكتب الإقليمي للنقابة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *