مسارات من حياة الشعيبية طلال 17

لعل الكتابة عن سيرة فنانة ذات ريادة زمنية وريادة فنية،اختلف الناس في أمرها، لشخصها وشخصيتها وإنجازاتها التي ذاع صيتها في الآفاق، حتى أصبحت المعارض العامة الدولية تخطب ودها وتتمنى أن تحتضن لوحاتها العجيبة ، تقتضي اعتماد مصادر ومراجع وطنية أو دولية موثوق بها، غير أنه، للأمانة، لا نتوفر سوى على مصدر واحد ووحيد غير مستقل وغير محايد، ألا وهو ابنها الفنان الحسين طلال، الذي لا يقدم إلا ما يلوكه مرارا وتكرارا عن سيرة الشعيبية لوسائل الإعلام أو بعض الباحثين، من غير إضافات مميزة أو إضاءات مثيرة تسعف في الوقوف على هويتها، منجزها التشكيلي وخصوصياتها الجمالية وإسهاماتها في الحركة التشكيلية العالمية.
سنحاول في هاته الحلقات تسليط الضوء-قدر الإمكان- على مسار الشعيبية الذاكرة الفردية، الذاكرة الجمعية ترحما عليها، واعترافا بأياديها البيضاء في سبيل جعل راية المغرب خفاقة في المحافل العالمية، وإسهاماتها في إثراء المكتبة الفنية الوطنية والدولية.

 

خاضت الشعيبية نضالا مريرا كطفلة كبيرة محافظة، تجهل القراءة والكتابة ولا معرفة لها بالمدينة الدار البيضاء الغول والمجهول التي تقطنها، كما ليس لها معارف يشدون عضدها.
شكلت عقدةُ التعلم بالنسبة للشعيبيةَ كابوسا يقضّ مضجعها.فهي لم تلج عالم الرسم والتشكيل عن دراسة وتحصيل وأُسسٍ أكاديمية، ولكنّما عن موهبة وعصامية وتدرّج في إخراج طاقتها الإبداعية الكامنة، وترجمة ذاكرتها البصرية إلى منجزات تعبيرية تلقائية.
ما يغبط الشعيبية، أن موران غارسيا ذات الصيت الذائع في عالم الكتابة والتأليف والتصوير، تقدمت إليها ذات يوم، تتمنى عليها أن تضع لكِتاب لها تحت عنوان”الحناء نبتة الجنة”، مقدمةً من بنات أفكارها وأسلوبها العفوي،فمكّنتها من هذا الشرف، الذي في حد ذاته يحررها من عقدة الأمية. وكتبت فاطمة المرنيسي وهي عالمة اجتماع عن الشعيبية قائلة في ما يشبه الرسالة، التي لن تقرأها أبداً الشعيبية: “..عندما سألتك ذات يوم: “لماذا تحدثينني دوما عن التعليم؟ إنك تتدبرين أمرك أفضل من العديد من أساتذة الجامعة…”، جاء جوابك مضيئا أكثر مما يستطيعه بحث طويل: “ألح على التعليم لأن الأمية جرح. ينبغي إعداد مغرب لا تكون فيه أية امرأة جريحة. فحتى عندما نلاقي النجاح، فإن هذا الجرح لا يندمل أبدا”. وفي تحد ومغامرة، دخلت الشعيبية دنيا الشعر من غير تكوين أو مذاكرة أومدرسة أكاديمية أواحتكاك أو تتلمذ على يد شاعر. وأشعار الشعيبية أو “الشعيبيسك” عمل قام بإخراجه للوجود الفنان فيريي ميشال باربو. ولو قُدر للشعيبية أن ترسم ما قالته شعرا، لكُنا أمام لوحة جميلة، مثل لوحة (عاشورا) التي اشترتها الدولة الفرنسية من (رواق عين الثور) بعد أن انتدبت زمرة من خيرة النقاد الفنيين ومؤرخي الفن لذلك، أو مثل لوحة “اشتوكة قريتي”، ولوحة “حفلة زفاف” اللتين بيعت كل واحدة منهما بما قدره مليون ونصف المليون درهم !
لكن لماذا تألقت الشعيبية بهذا الشكل المثير؟ هل هي ساحرة؟ مدفوع بها، مسنودة..؟ أم أنها فعلا موهبة ربانية صقلتها بالتمرن والتمرس على الرسم والتشكيل واحتكاكها بالمعارض الدولية..؟ لماذا أعمال الشعيبية تستقطب الناسَ على اختلاف مداركهم الفنية،ومشاربهم الثقافية في كل العالم؟
تبدو أعمال الشعيبية لأول وهلة قابلة للمحاكاة والتقليد، والواقع أن رسمها قوي مثل شخصيتها، يعبر عن الثراء الفني ويستثير مكونات الذاكرة الشعبية المغربية،والمعيش اليومي بكل عفوية طفولية، ويتميز بخيال خصب، وببصمةلاتُقلد.
من المعلوم أن الشعيبية، استطاعت أن تفرض شخصيتها وتؤكد فنها الأصيل ،الشفاف والعفوي، لتصل إلى مستوى التدافع بالمناكب مع كبار الفنانين التشكيليين العالميين ، الذين لهم وقع وتأثير بيّن في القرن العشرين على شاكلة أميديو موديلياني وبابلو بيكاسو وسلفادور دالي فنسنت فان غوخ وكلود مونيه وميكيلا نجيلو بوناروتي ، ورامبرانت.. وكما توجد أعمال الشعيبية بأروقة عالمية، كذلك ومثال توجد بأشهر المتاحف في المعمور.
كتبت عنها أوزير غلاسيي: ”لايختلف اثنان حول أن الشعيبية،هي أكثر الفنانين المغاربة شهرة في القرن العشرين، إنها الفنانة الوحيدة بالمغرب، التي حطمت أعمالها أرقاما قياسية في المزاد العلني الدولي..إنها العربية المتفردة التي تباع لوحاتها بنظام التسعيرة الدولية.
ونعتتها الصحافة الفرنسية ب”فلاحة الألوان”، و”أيقونة الفن العفوي”، والصحافة الإسبانية ب”ملكة المعرض”، وعرضت الشعيبية لوحاتها في الكتب إلى جانب لوحات بيكاسو.
وكتبت عنها سيريس فرانكو:”.. فن الشعيبية بسيط، صاف،عفوي وأثيل..صادر عن شخصية ساحرة، مفعمة بالحب والبهجة..تعرف كيف تغني ألوان المغرب..بلا أدنى شك، هي أول وأشهر امرأة في الرسم المغربي”.
وكتب الناقد الفرنسي، لويس مارسيل،في مجلة “آرتونسيون” في عددها 19 شتنبر أكتوبر 2004، ونشرت المجلة على غلافها صورة الشعيبية، إلى جانب صورة سالفدور دالي:”عندما أنصت إليها وأراها ترسم، لا أتوقف عند التقدير حول الأطفال، الذين حرموا من الدراسة، لكن رغم ذلك صاروا علماء، وعباقرة ومبدعين وباحثين بقوة..إن الشعيبية فعلا أسطورة المغرب الفنية.
واحتفت بها مجلة الفنون السويسرية سنة 1988، وتصدرت غلاف مجلة “فوار”. وقالت المجلة عن الشعيبية “إنها أسطورة حية لها قدمان في الأرض وهامتها مرفوعة إلى السماء، وإنها طبعت مرحلتها وبلدها وتاريخ الفن”.
ويسجل التاريخ زيارة سفراء وشخصيات، بل رؤساء فرنسا لمعارضها مثل الرئيس الفرنسي فرانسوا متيران والرئيس جاك شيراك ورئيس الحكومة لوران فابيوس، لتملّي لوحاتها والتحوز على بعضها.
وأطلق على الشعيبية لقب “سفيرة الفن فوق العادة”، بتفويض من البرلمان الدولي للأمن والسلام، وباعتراف دولي من لدن لجنة مختصة تضم جهابذة الفن العالميين وممثلين عن الدولة الفرنسية بمستواها العالي وعطائها الاستثنائي.
لكن بالضد المقابل، يلاحظ إغماط واضح لحقها في أن يكون لها في بلدها المغرب موقع على صورة مجلّة مغربية، أو حيز في جدران البيوت..أو خلف المكاتب أو في عياداتنا ومستشفياتنا، بل أكثر من هذا وأفدح أن الشعيبية كانت محط هزء وسخرية قيد حياتها وبعد مماتها، فقد قالوا عنها “مهبولة” و”أمية” و”جاهلة” و”مسنودة” و”مغرورة”، ونكّتوا عليها، ونعتوا فنها بالهراء والخواء ، أي قالوا باللسان المغربي الدارج :” التخرميز والتخربيق والتجلاخ.. طلّس ملّص..وعيّروا لكنتها البدوية.
والشعيبية تمضي في طريقها بكل ثبات وإصرار وطموح، لا تعرف لا النكوص ولا التثبيط، وحسبُها اعترافُ أهل الثقافة وذوو الذائقة الفنية الرفيعة إذ يقدرونها إياها حق قدرها.وحصلت الشعيبية على دكتوراه فخرية من جامعة أمريكية عريقة سنة1988.
واقتنت الأسرة الملكية المغربية أعمال الشعيبية، وكان الملك الحسن الثاني راضيا عليها” أنا راضي عليك آلشعيبية.إن لوحاتك، التي تشهد على درجة الكمال، التي لم يصل إليها الفن التصويري المغربي، بفضل عملك الجاد ومثابرتك بثبات وجهد..لعمل يشرف المملكة”.وأحرزت الميدالية الذهبية للجمعية الأكاديمية الفرنسية للتربية والتشجيع (فلوب علم الآداب) عام 2003.
وفي السنة الموالية، أي 2004 ، فقد المشهد الوطني عامة والفن التشكيلي بصفة خاصة-يقول جلالة الملك محمد السادس-رسامة مبدعة، وفنانة رائدة.فقد تميزت (الشعيبية) بعصاميتها وعبقريتها الخالصة، مكنتها من تخليد اسمها في سجل الفنانين التشكيليين المرموقين داخل الأروقة والمعارض والأوساط الوطنية والعالمية.
(انتهى)


الكاتب : عزيز الحلاج

  

بتاريخ : 01/06/2020