مع برهان غليون 3- عودة العرب إلى التاريخ

برهان غليون، مفكر سوري ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر وأستاذ علم الاجتماع السياسيّ في جامعة السوربون بباريس. اختير رئيسًا لأوّل مجلس وطنيّ سوريّ جمع أطياف المعارضة السوريّة بعد انطلاق الثورة السوريّة في مارس 2011.
له مؤلّفات عديدة بالعربيّة والفرنسيّة. حاصل على شهادة دكتوراه الدولة في العلوم الإنسانيّة وأخرى في علم الاجتماع السياسيّ من جامعة السوربون في باريس.

 

كما يبرز ذلك بشكل خاص أسلوب التعامل القاسي مع حركات التغيير الاجتماعية في سورية
“لا يكف تهميش الدولة وإضعاف صدقية السياسة عن إنتاج مزيد من ظواهر العجز والفشل”والعراق واليوم في إيران. من الواضح أن نجاح النخب الحاكمة في البقاء عقودا طويلة في مركز السلطة قد ولّد لدى الحاكمين شعورا عميقا بأحقيتهم في الحكم، أو بحقهم الطبيعي في أن يستمروا فيه، وبعدم أهلية الشعوب، بكل مكوناتها، للمشاركة في ما أصبح يُنظر إليه نوعا من الممارسة الخاصة والمقدّسة، وأفرز هذا الشعور، مع الوقت، اعتقادا راسخا بدونية هذه الشعوب وجهلها، وانعدام أي إرادة فيها، وبأن أية حركة احتجاج أو اعتراض لا يمكن أن تكون من صنعها، وإنما هي بالتأكيد غلالة تستخدمها مجموعات منافسة يحركها الحسد والغيرة لانتزاع السلطة/ الغنيمة واحتكار ممارستها ومنافعها.
لا يوجد في مفهوم هذه النخب مكان لنزاع سياسي يتعلق بحقوق أو بمصالح جماعية تخص الشعب، أو بعض شرائحه، وتتطلب الحوار من حولها، فهي لا تتصور النزاع إلا أنه مع أطراف ومجموعات من نوعها تريد أن تستأثر هي أيضا بالغنيمة، وتحرم “أصحابها” الشرعيين، بحكم الأمر الواقع، منها. أما جمهور الشعب المتحرّك على الأرض، فلا يمكن أن يكون إلا الواجهة التي تختبئ وراءها تلك المجموعات التي تنازعها على الغنيمة. ولذلك لا تشعر، وهي توجه نيرانها ضد جموع المتظاهرين والمحتجين، أنها تقاتل مواطنين، لهم حقوق ومصالح ومطالب وتطلعات، شرعية أو غير شرعية، تمكن مناقشتها، ولا حتى بشرا يستحقون الاحترام وربما الشفقة، وإنما أدوات يستخدمها خصومها لايقاع الأذى بها. فهم ليسوا مواطنين، وإنما أغبياء وجهلة ومرتزقة مدسوسون ومتآمرون، يعملون لصالح فئات مغرضة أو أجنبية.
ولا توجد وسيلة أخرى لتحييد المُغرضين والمتآمرين غير المرئيين، المحليين والأجانب، ولا قطع الطريق عليهم، ومنعهم من استخدام جهل الجمهور وتجنيدهم له في معركتهم الإجرامية، إلا من خلال تحييد الشعب نفسه ومنعه من الانجرار وراءهم، أو الانخداع بهم. ولا توجد طريقة أمثل لتحقيق ذلك سوى أخذ البريء بجريرة المذنب، والانطلاق من مبدأ تآمر الجميع وكل فرد، حتى يثبت العكس. من هنا، انزلاق كثير من هذه النظم نحو سياسة الإرهاب الذي لا مهرب منه سوى بالالتصاق بشكل أكبر بالنظام، وإظهار الولاء الدائم والآلي له، فردا فردا، وجماعة جماعة، والامتناع عن الإفصاح عن أي مطالب أو مصالح خاصة، والتماهي الكامل والعضوي مع رموز النظام وأركانه ورجاله ومؤسساته. وهكذا يصبح القائد والوطن والدولة والشعب شيئا واحدا لا ينقسم، ولا يمكن أن يقبل أي تمايز أو اختلاف. ويتحوّل أي نقد أو اعتراض، بل أي اختلاف في الرأي، إلى انشقاق وخيانة واستعداد للمشاركة في المؤامرة الخارجية، أو السقوط في أحابيلها. ومتى ما ترسّخ منطق الإرهاب في سلوك النخب الحاكمة، وتحول إلى أسلوب حكم وسياسة قائمة بذاتها، لا يبقى أي مكان لمفهوم الشعب والحقوق والحريات والدساتير والكلام والمصالح الخاصة الشرعية وغير الشرعية. هناك القائد وهناك الشعب المنصهر فيه، وكل من يرفض ذلك شريكٌ لا محالة بمؤامرات وتدخلات أجنبية. لا يؤدي مثل هذا التصور للحكم إلى امتناع أي تغيير أو إصلاح فحسب، ولكنه يجعل من الحفاظ على الوضع القائم، كما هو دائما وكما ينبغي أن يكون، معيار الوطنية ودليلها، كما يجعل من أي مطالبةٍ بتعديله برهانا لا يخطئ على تسلل فكر المؤامرة، ويبرّر، إذا احتاج الأمر، الردود الأكثر عنفا وتطرّفا، ويفتح الباب واسعا أمام الخيارات الانتحارية التي شهدنا مثالا تاريخيا مؤلما عليها في محاولة سحق الثورة السورية.

(3)

لا يوجد رد جاهز أو في متناول اليد، لا عند أحد من الشعوب ولا من القوى المنتفضة، على هذه التحدّيات ذات الطبيعة التاريخية والبنيوية المرتبطة بتحولاتٍ ونزاعاتٍ وانقلاباتٍ وتوازنات وتقلبات مستمرة منذ عقود، تشكلت من خلالها المجتمعات والنظم الإقليمية ومنظومة العلاقات
“الانتفاضات وحدها من يقدم للشعب فرصة قلب الطاولة على النظام القائم”الدولية التي نعرفها اليوم، والتي لا تزال تخضع أيضا لتحولاتٍ متواصلةٍ نتيجة تطور نظم الإنتاج ونظم التقنية والمعلوماتية والاتصالات والقيم والأفكار، وانعكاسات ذلك كله على حقل العلاقات الدولية وتفاعل القوى المحلية والعالمية. وهي تحدّيات تعجز الإدارات السياسية في الدول الكبرى عن مواجهتها، ما يدفع إلى نشوء ما أصبح، كما ذكرت، بمثابة دولة عميقة عولمية تتفاعل أجهزتها المتعدّدة في ما بينها داخل شبكةٍ شبه مستقلة، وتحتكر أو تكاد معظم القرارات الاستراتيجية والسيادية، بينما يتراجع الفعل السياسي إلى الصف الثاني، وينحصر أكثر فأكثر في دائرة “التدبير المنزلي” الروتيني للمسائل العادية والقريبة المدى، بما فيها التنظيم الدوري لعملية تداول السلطة وتنظيم الانتخابات ورعاية المصالح والخدمات العامة الاقتصادية والاجتماعية.
لذلك، على الرغم من التضحيات الإنسانية والكوارث التي رافقت انفجارها، والمصاعب التي لا تزال تحول دون تحقيق أهدافها العظيمة، لا أعتقد أنه كان لدى الشعوب خيار آخر للرد على تحدّي السيطرة الغاشمة لنخبة عقيمة ومفترسة متحكّمة بمصائر الشعوب غير ذاك الرد الذي ابتدعه الجمهور، في الأقطار العربية وغير العربية، أعني الخروج الجماعي والكثيف في انتفاضات شعبية عارمة، لإطاحة الأنظمة المتكلسة والفاسدة غير القابلة للإصلاح.
ولا يزال من غير الممكن تصور بديلٍ لها لتحرير طاقات الشعوب وأرواحها من البؤس والشقاء والذل الذي رافقها حقبا طويلة، من دون هذه الانتفاضات التي تقدم وحدها للشعب فرصة قلب الطاولة على النظام القائم، وانقلاب الأدوار بينهما، بحيث يتحوّل الشعب المحاصَر (بفتح الصاد)، كما بقي عقودا طويلة، إلى محاصِر (بكسر الصاد)، ومن ضحيةٍ إلى قاضٍ يحاسب النخب الحاكمة، ويفرض عليها الانصياع لإرادته، والاعتراف بمسؤوليتها والانسحاب الطوعي من الحكم، فبمقدار ما تشكل هذه الانتفاضات القابلة القانونية لولادة الشعب، بالمعنى السياسي والواحد للكلمة، تؤكد أيضا في الحركة ذاتها انهيار جدار الرعب والإرهاب الذي قام عليه تحييد الشعوب وضمان خضوعها واستسلامها حقبة كاملة. وما كان لتأجيل هذه المعركة المريرة والدامية لتحرّر الشعب إلا مضاعفة أثمان أي تغيير قادم، وتعقيد مآلاته.
لا يعني هذا بالتأكيد أننا ربحنا الحرب، حرب تحرّر الشعوب ضد قاهريها وناهبي ثرواتها
“أهم ما قدمته ثورات الربيع العربي حتى الآن هو فك أسر الشعوب الطويل، وفتح أبواب التاريخ أمامها”وثمرات جهدها ومضطهديها، فغاية الثورة الرئيسية التي نقلت الشعوب من موقع الفريسة الخانعة التي تتنازع عليها الوحوش الضارية إلى موقع المروّض القوي لها، وولي أمرها ومصيرها، لم يكن إسقاط نظام الطغيان فحسب، وإنما، أبعد من ذلك، إقامة نظام الحرية والعدل والإخاء الذي يعيد بناء الإنسان ذاته، أفرادا ومجتمعات، فلن يحل السقوط الحتمي لهذه النظم الهمجية المشكلات المعقدة التي يطرحها تدشين حقبة جديدة من تاريخ العرب السياسي الذي لا يزال خرابا. ولن يسفر تلقائيا عن قيام نظم تمثيلية فاعلة، أو يعلن نهاية الصراع من أجل العدالة والحرية وإقامة حكومات ديمقراطية. وليس تحقيق هذه الغايات السامية والعظيمة معطىً مسبقا، ولا مضمون الحصول لأي شعب. إنه يتوقف على نجاح الأجيال الشابة التي فجرت الثورة وتبوأت، منذ الآن، مركز الطليعة في القيادة، في تمكين الشعب من استعادة واستبطان معنى التضحيات التي قدمها ومدلولها، وإعادة الحياة للدولة والسياسة ونظم الإدارة المدنية المحلية والجامعة، وإبداع الأطر الجديدة التي يحتاج إليه إحياؤها.
ولعل أهم ما قدمته ثورات الربيع العربي حتى الآن هو فك أسر الشعوب الطويل، وفتح أبواب التاريخ أمامها، وتشجيعها على أخذ المبادرة، والعمل على التصالح مع العالم الذي عزلت عنه، والانخراط من جديد في العصر الذي حرمت منه، والمشاركة الإيجابية والمبدعة في إنجازات الحضارة التي أريد لها أن تكون مستهلكةً لها فحسب. وقد أظهر أخيرا للذين فقدوا الأمل، ويئسوا من التغيير، وراهنوا على خروج العرب من التاريخ، أن الاستبداد والفساد ليسا قدرا لأي شعب، وأن الأمل الذي من دونه لا توجد كرامة ولا حرية ولا مدنية ولا حياة لا يموت.


الكاتب : برهان غليون

  

بتاريخ : 05/06/2020